الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مبحث في النفاق - نظرة مُغايرة

أيهم نور الصباح حسن
باحث و كاتب

(Ayham Noursabah Hasan)

2021 / 5 / 13
حقوق الانسان


أهلاً بك يا قارئي
ربما لم يوجز أحد سبب النفاق و كُنهِهِ مثلما أوجزه فيلسوفنا العبقري أبي العلاء المعري في بيته :
تَلَوا باطلاً و جَلَوا صارماً و قالوا : أصبنا , فقلنا : نعم
إذ لا يمكنك أن تقول لا , بوجه من يُشهر سيفه في وجهك .
و في معنى و أصل و اشتقاق لفظ النفاق لغوياً : فقد ورد في معجم لسان العرب لابن منظور الأنصاري عن لفظ المنافق أنه :
" وقيل إنما سمي مُنافقاً لأنه نافَقَ كاليربوع وهو دخوله نافقاءَه
يقال قد نفق به ونافَقَ , وله جحر آخر يقال له القاصِعاء فإذا طُلِبَ قَصَّع فخرج من القاصِعاء فهو يدخل في النافِقاء ويخرج من القاصِعاء أو يدخل في القاصِعاء ويخرج من النافِقاء فيقال هكذا يفعل المُنافق يدخل في الإسلام ثم يخرج منه من غير الوجه الذي دخل فيه .
والنُّفَقةُ والنَّافِقاء جُحْر الضَّبّ واليَرْبوع وقيل النُّفقةُ والنافِقاء موضع يُرقِقُه اليربوع من جُحره فإذا أُتِيَ من قبل القاصِعاء ضرب النافِقاء برأْسه فخرج ونَفِقَ اليربوع ونَفَق و انْتَفَقَ ونَفَّق خرج منه وتَنَفَّقَه الحارِشُ وانْتَفقه استخرجه من نافِقائه " (*1)
و باختصار شديد فإن لفظ النفاق مشتق من فعل اليربوع أو الضب عندما يدخل نفقه أو جحره الذي يكون قد زوده مسبقاً بمخرج آخر كي لا يهلك إذا ما تعرض للملاحقة .
و لعله من المفيد أن نتوقف هنا لبرهة و ننظر في فعل اليربوع هذا , و نسجله على أنه مجرد فعل أو سلوك أو حيلة من ضمن أفعال و سلوكيات و حيل مهارات البقاء و أساليب النجاة الحياتية .
أما عن معنى النفاق الذي أقصده في مبحثي هنا فهو المعنى العام المتداول , أي إظهار المرء خلاف ما يُبطنه لسبب ما , بمعنى الخداع و الرياء و المُراءاة و التزوير و التَقِيَّة , أي أنني أبتغي البحث في المعنى الواسع للنفاق و ليس النفاق بمعناه الديني الإسلامي فقط .
و في هذا المعنى فإننا قد لا نختلف في مدى تفشي النفاق , و لا في احتقاره و تحميله الجزء الأكبر من تردي أوضاعنا كشعوب و أمم , بات النفاق خبزها و ملحها .
فالنفاق أعظم الكذب و أبشع الأخلاق و أحقر الصفات , النفاق خداع , النفاق غدر , النفاق عُهر , النفاق قهر , و متى تكرس في أمة فإنها - و إن طال عهدها - إلى زوال .
أيضاً قد لا نختلف أن جوهر مرض شعوبنا في هذا الشرق العفن هو النفاق بكل أشكاله الديني و الاجتماعي و السياسي و أنه لا سبيل لنهضة و رفعة أي أمة من الأمم من دون علاج هذا السرطان الخبيث .
غير أني لست في وارد الحديث هنا عن النفاق بحد ذاته و عن نتائجه , فقد سبقني إلى ذلك الكثيرين , إنما آثرت أن أبحث و أكتب في أسبابه و دوافعه عسانا نفهمها أكثر فيسهل علينا علاجه و استئصاله .
يحدثنا التاريخ كيف حاربت الثورات الدينية و الاجتماعية أو السياسية النفاق و أشكاله , و في بعض الأحيان أسبابه , لكنه يخبرنا أيضاً أن هذه الثورات ما إن انتصرت و استحكمت , حتى ولَّدَت و أنتجت منظومة نفاق جديدة , تؤدي لثورة أخرى و هكذا ... , حتى ليُخَيلَ إلينا أن التاريخ بكامله ما هو إلا حركة الصراع النفاقي بين البشر .
لماذا ننافق ؟
بكل بساطة إنه الخوف , ننافق لأننا خائفون من شيء ما , ننافق لأننا نعلم أن صدقنا هو مقتلنا .
فكما نافق يربوعنا في بداية مقالنا كي ينجو بنفسه , ننافق نحن أيضاً كي ننجو و نستمر و نتعايش و في بعض الأحيان كي نحصل على ما نريد بسهولة أكثر .
ننافق لأننا نخاف , نخاف العقاب , نخاف القتل , نخاف النبذ , نخاف التحقير , نخاف إيلامَ أحباءنا أو لومهم , نخاف أن تمنع عنا حاجاتنا بسبب قناعاتنا و آرائنا .
الخوف , هذا المحرك العظيم و الأساسي للفكر البشري الذي دفعه لإنتاج أولى أشكال مهارات بقائنا الحياتية من آلهة و أديان و سلوك و تنظيم و معارف , هذا الخوف هو نفسه الذي أنتج النفاق .
وُلِدَ النفاق عندما اقترن الفكر ( الأيديولوجيا ) بالعصا ( الإرهاب )
فالحقائق لا تحتاج للحماية أو للفرض , لأنها تتمتع بحجية الإقناع المنطقي .
أما الأفكار الهشة فهي فقط التي تحتاج للحماية و للإقناع بالإكراه .
على المستوى الشخصي و الواقعي و كأناسٍ عاشوا في مجتمع عربي مسلم مورست ولا تزال تُمارس عليه معظم أنواع الديكتاتورية منذ مئات السنين , فإننا نعلم من خلال أنفسنا و واقعنا أن النفاق الذي ابتُلي به أجدادنا الأقدمون و حافظنا نحن عليه كإرث عظيم , ماهو إلا وصفة سحرية أبدعتها عقول أولئك البسطاء الضعفاء كي تُجَنِبَنا آلام الصدق الذي قد يطيح بالرؤوس أو يُصيبنا بضنَكِ العيش و بؤسه , و نحن بدورنا نورثه لأبنائنا كنتاج عبقري لتجربتنا الحياتية فنضمن لهم بذلك أن يحافظوا على رؤوسهم , و ربما إن كانوا ماهرين به , فقد يستطيعوا أن يكونوا ذوي شأنٍ في أيامهم .
ماهي المصادر التي يستمد منها وعينا الجمعي النفاق ؟
أو كيف تأصل النفاق في ثقافتنا فأصبح سلوكاً ؟
لا نفاق دون إرهاب ..
و بقدر ما يتنوع الإرهاب يتنوع النفاق ..
و كلما ازداد الإرهاب ازداد عمق النفاق ..
و كلما غاب الإرهاب غاب النفاق ..
في مجتمعاتنا يَحارُ المرء من أين يبدأ في كتابة أسباب النفاق فكل الأفكار مقدسة و كل الشخوص مقدسة و كل الآراء و الاعتقادات مقدسة ..
و القداسة بحد ذاتها هي إرهاب فكري ..
و ما دام الحال كذلك - و بما أني سأُكَفَّر في جميع الأحوال - فلنبدأ إذاً بالإرهاب القادم من زعيم الأديان التوحيدية :
((وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ)) الأعراف/11
)) قالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ )) الأعراف/12
(( قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ )) الأعراف/13
(( قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ )) الأعراف/14
(( قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ )) الأعراف/15
بهذا الحوار المختصر بين الله و إبليس , يخرج إبليس من رحمة الله ( أو من الجنة ) صاغراً ملعوناً مدحوراً فقط لأنه تجرأ على رفض الأمر الإلهي بالسجود لآدم مع أنه - برأيه طبعاً - يملك الحجة لهذا الرفض فهو مخلوق من نار و آدم من طين .
و بالرغم من أن الله لم يَرُد على حجة إبليس التي امتنع بموجبها عن السجود , يعلمنا هذا النقاش السريع و الحاسم ألا نتجرأ و نمانع أو نرفض أوامر و تعليمات من هو أقوى منا حتى و إن كنا نملك الحجة و المبرر للممانعة و الرفض فالنتيجة محسومة و معروفة سلفاً .
و هنا يظهر لنا مصدر أفكارنا حول الكرامة و الكبرياء , و مصدر أفكارنا حول الطاعة و الخضوع , فمن الذي عَلَمَ البشر ألا يسجدوا لمن هو أدنى منهم , و من الذي علمهم أن يسجدوا لأي شيء إذا ما أُمروا ؟
و لنتساءل الآن ماذا لو أتيح لإبليس إعادة تمثيل المشهد ؟
هل سيكون سلوكه هو نفسه بعد أن عَلِمَ أن عقاب جرأته و رفضه هو الطرد من الرحمة و الخلود في جهنم ؟
أم أن مهارات البقاء و الاستمرار ستدفعه لأن يَسجُدَ مرغماً ( يُنافق ) فيتلافى عقاب الله على فعلته السابقة ؟
يَكمُن التأثير الشديد لهذه القصة في الوعي الجمعي , في طريقة تعاطي الإله مع من رفض الامتثال لأمره , هذا التعاطي الذي جعل من اللعن و الطرد و العقاب لمن يتجرأ على مخالفة الأوامر و انتقادها هو الأمر المثالي و الطبيعي المُحتذى , كونه صادر عن أسمى قوة عليا , تتسم بمطلق الحكمة و الخبرة و العلم و لا مجال إطلاقاً للتسامي أو المفاضلة عليها في نظر أتباعها .
فكم كان ليكون الأمر مختلفاً , و كم كان ليختلف تأثيره فينا و بسلوكنا , لو أن الله أثابَ إبليس لرفضه المقرون بالحجة , تشجيعاً للملائكة على الجرأة و النقد بدلاً من سجودهم الفوري و سلوكهم العبوديّ السخيف ؟ !
تعيش مجتمعاتنا بثقافة مستمدة بغالبها من الدين الإسلامي كونه الأكثر انتشاراً فيها , و لتتبع أسباب النفاق لابد من تتبع الإرهاب المؤدي له :
)) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ (( الأنفال/39
(( فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (( التوبة/5
)) قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ )) التوبة/29
(( وقال النبي ﷺ: أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله عز وجل )) متفق على صحته من حديث ابن عمر
بعد كل هذا الإرهاب العام و التهديد الواضح بالقتل على الآراء و المعتقدات المخالِفة , هل هناك ممن لا يؤمن و لا يعتقد بالله و اليوم الآخر و إلخ ... من يجرؤ على التعبير عن عدم قناعته ؟
ألا يفرض المنطق الواقعي أن يتحول جميع المخالفين و الغير مقتنعين إلى منافقين كي ينجوا بأنفسهم من القتل ؟
هل نلوم الضحية على نفاقها أم نلوم من دفعها للنفاق إرهاباً و تهديداً ؟
الصراع النفاقي و حركة التاريخ على المستوى الذي شكل وعينا الجمعي :
سَتَرَ المسلمون الأوائل إسلامهم خوفاً من بطش قريش ..
ثم عاد " الكفار " فستروا عدم إيمانهم خوفاً من بطش القرآن و المسلمين ..
يعتبر المسلمون اليوم النفاق الأول نفاق إيجابي كان لابد منه للنجاة , و النفاق الثاني نفاق سلبي هدفه ضرب الإسلام !
يذكر معجم لسان العرب أن لفظ المنافق :
" اسم إسلامي لم تعرفه العرب بالمعنى المخصوص به ، وهو الذي يَسْترُ كُفْره ويظهر إيمانَه وإن كان أَصله في اللغة معروفاً. " (*2)
و تشير معظم كتب السيرة و التاريخ الإسلامية أن النفاق ( بمفهومه الإسلامي ) لم يظهر إلا عندما انتقل من مكة إلى المدينة أي عندما قويت شوكة الإسلام و أصبح له كيان و قوة و جيش مدعومين بأوامر إلهية مفادها قتل المختلف دينياً , أي و باختصار ظهر النفاق عندما أصبح الإسلام إرهاباً .
و بدلاً من أن يعترف الإسلام بأن سبب النفاق هو الإرهاب , نظراً لكل ما مر به نبيهُ و أتباعه في بدء الدعوة من بطش و قتل و تنكيل , و أن يؤسس لبيئة مجتمعية حرة يُلغى فيها الإرهاب فيلتغي النفاق تلقائياً , نراه يعيد إنتاج منظومة إرهاب جديدة مؤيدة بآيات و أحاديث من شأنها أن تنتج نفاقاً جديداً لم يكن معروفاً سابقاً , و ما حروب أبي بكر للجباية المسماة حروب الردة إلا تكريساً للإرهاب الإسلامي الجديد حينها .
" وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) " 8/9/10/11 - البقرة
" وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيم (101) " التوبة
" لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَ قَلِيلاً (60) " الأحزاب
و طبعاً السور الثلاث السابقة سور مدنية أي أنها نزلت في عهد القوة و التمكين لا في عهد النشوء و الضعف .
إنه لمن المدهش إسهابُ الشُراح و المفسرين و الفقهاء في تعريف النفاق و تبيان علاماته و في بعض الأحيان أسبابه , حتى يكاد أن يكون عِلماً من " علومهم " , و من المدهش أيضاً كيف استطاعوا استحداث هذه المنظومة الجديدة من النفاق و توسعوا بها لدرجة أنهم خرجوا عن المقصود بالنفاق ليشمل كل ما يعادي العقيدة الإسلامية , فقد قسَّمَ شيخ الإسلام ابن تيمية النفاق إلى نفاق أكبر و نفاق أصغر , و اعتبر تكذيب الرسول أو بُغضِه من النفاق الأكبر و أن الفرح و السرور بانخفاض دين الرسول أيضاً من النفاق الأكبر .
العجيب في الأمر أن كل هؤلاء الشراح و الفقهاء و بالرغم من معرفتهم بأن سبب نفاق المنافقين هو خوفهم من القتل إلا أنهم لم يجرؤوا حتى على مجرد التفكير بإزالة الأسباب , فعند الأمر إلهي تتسطح الأدمغة و تذهب العقول .
المُصيبة الحقيقية في الإسلام هي أن " الكافر – الغير مقتنع بالإسلام " المولود في أسرة مسلمة , لا هو يستطيع التعبير عن رفضه للقناعة بالإسلام و لا هو يستطيع تغيير دينه .. ثم يحدثونك عن حرية العقيدة و التعبير في الإسلام !
أما اليهودية التي صدعت رؤوس البشرية باضطهادها منذ عهد الفراعنة مروراً بالسبي ثم بالاضطهاد المسيحي الروماني و الأوروبي , نراها في أحوال استمكانها و استحكامها تُفتي بقتل الأغيار ( الغوييم وهُم العرب الفلسطينيون الذين يطالبون بأرض فلسطين لأنفسهم ) دون أي حرج أو خجل فقتلت منهم قديماً ما قتلت , و لايزال الصهاينة حتى اليوم يمارسون نفس الإجرام في فلسطين .
و لم يقتصر الأمر بالقتل على الغوييم , بل تعداه إلى كل من يجرؤ على أن يدعو لتغيير الدين اليهودي حتى و إن كان أخيك ابن أمك أو ابنك !!!
و لتعميق الشعور بعظمة جرم المرتد الداعي لتغيير الدين , فقد أصرت التوراة على مشاركة جميع اليهود بهذا الفعل الشنيع و هو القتل رجماً بالحجارة , و بهذا يتم تعميم الإرهاب من المَصدر إلى كل المشاركين بفعل الرجم , و بالتالي تحويلهم إلى أشخاص إرهابيين فكراً و سلوكاً بأمر إلهي .
(( وَإِذَا أَغْوَاكَ سِرّاً أَخُوكَ ابْنُ أُمِّكَ أَوِ ابْنُكَ أَوِ ابْنَتُكَ أَوِ امْرَأَةُ حِضْنِكَ أَوْ صَاحِبُكَ الذِي مِثْلُ نَفْسِكَ قَائِلاً: نَذْهَبُ وَنَعْبُدُ آلِهَةً أُخْرَى لمْ تَعْرِفْهَا أَنْتَ وَلا آبَاؤُكَ /7/ مِنْ آلِهَةِ الشُّعُوبِ الذِينَ حَوْلكَ القَرِيبِينَ مِنْكَ أَوِ البَعِيدِينَ عَنْكَ مِنْ أَقْصَاءِ الأَرْضِ إِلى أَقْصَائِهَا /8/ فَلا تَرْضَ مِنْهُ وَلا تَسْمَعْ لهُ وَلا تُشْفِقْ عَيْنُكَ عَليْهِ وَلا تَرِقَّ لهُ وَلا تَسْتُرْهُ /9/ بَل قَتْلاً تَقْتُلُهُ. يَدُكَ تَكُونُ عَليْهِ أَوَّلاً لِقَتْلِهِ ثُمَّ أَيْدِي جَمِيعِ الشَّعْبِ أَخِيراً. /10/ تَرْجُمُهُ بِالحِجَارَةِ حَتَّى يَمُوتَ لأَنَّهُ التَمَسَ أَنْ يُطَوِّحَكَ عَنِ الرَّبِّ إِلهِكَ الذِي أَخْرَجَكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ مِنْ بَيْتِ العُبُودِيَّةِ. )) تثنية 13 : 6- 10
لم يستطع أي دين الاستفادة من مظلوميته و اضطهاده كما فعل اليهود , فقد استثمروا ذلك الاضطهاد و تلك المظلومية أحسن استثمار فأنتجوا قوانين تكاد تصبح عالمية كمعاداة السامية و إنكار المحرقة ( الهولوكوست ) , و الجائزة الأكبر لهم كانت وعد بلفور الاحتيالي و احتلالهم فلسطين بدعم من القوى الدولية العظمى حينها .
لقد تعمدتُ إردافَ اليهودية بعد الإسلام لتماثل العقيدتين تقريباً باستسهال قتل الأنفس و إزهاق الأرواح بحيث يغدو قتل الآخر المختلف دينياً أمراً يسيراً جداً طالما أنه مُشرَّع من قبل الإله , فبعد قالب الحلوى المشبع بنِعَمِ الإله الرحيم و المزركش بمكارم الأخلاق , الذي يقدمه الاثنان , يسوقان الأدمغة نحو قتل المخالف لهما صوناً و حمايةً لدين الحق و جماعته !
أما في المسيحية , فقد بقيت الدعوة المسيحية سرية لقرنين من الزمان ( الغرباء ) و قد عانت من الإرهاب ما عانته , المسيح نفسه حوكم بتهمة الهرطقة و تم صلبه , و ما إن أصبح الإمبراطور قسطنطين مسيحياً حتى فرض المسيحية على كل مواطني الإمبراطورية الرومانية , ثم بدأت الكنيسة التي صُلِبَ نبيها بتهمة الهرطقة بهرطقة كل من يخالفها و قتله انتقاماً لما قاسته من إرهاب إضافةً لتِشَبُعِها بأفكار التوراة التي أصبحت بطريقةٍ ما الجزء الأول من كتابها المقدس !
اليهودية و الإسلام وُّلِدا سياسيِّيَن إرهابيَّيَن بمعنى أن تعاليمهما تحرضهما بوضوح و صراحة على الحكم السياسي للبقعة التي يتواجدون فيها و على قتل الآخر المختلف دينياً , بينما لا نستطيع أن نتلمس أي معالم واضحة لطلب الحكم و السلطة السياسية في المسيحية أو لقتل الآخر المختلف دينياً .
المدهش أن جميع الأديان التوحيدية - التي يتشكل منها معظم وعينا الجمعي في منطقتنا الشرق أوسطية - قد قاست و عانت من الإرهاب ما عانته في بداياتها , لكنها في فترات قوتها قد أعادت إنتاج النسخة الإرهابية الخاصة بكل منها و استخدمتها فيما بعد بما يخدم بقاءها و استمرار سلطتها , و بالرغم من أن جميعها في بداياتها مارست النفاق أو التقية مرغمةً بسبب الإرهاب المُمارس عليها في فترة النشوء , فقد استهجنت النفاق أو الرياء و قبحته فيما بعد مع أنها هي سببه , أي أنها تتقبله عندما يمارسه أتباعها في عهد ضعفها , و تحتقره عندما يمارسه الآخرون في عهد إرهابها , و ما سلوكها هذا بحد ذاته إلا وجه من أوجه نفاقها .
إن ما شهده التاريخ من نفور الناس و تحولهم عن الأديان المنافقة التي يدعي كل منها أنه صاحب الحقيقة المطلقة , ليس سوى حلقة من حلقات الصراع النفاقي أيضاً .
الإرهاب ليس بطشاً و قتلاً و اعتقالاً فقط , للإرهاب أنواع عديدة غير تلك المتعارف عليها أو المعروفة لدينا بحكم عيشنا تحت سقفها كالإرهاب السياسي أو الديني , فهناك الإرهاب الاجتماعي الذي يهدد كل من يخرج عن أو يثور على المنظومة الاجتماعية بالتحقير و التهميش و النبذ , و الإرهاب الاقتصادي و الإرهاب العاطفي و إلخ ... و كل نوع من أنواع الإرهاب هذه يخلق و يُبَلوِر النفاق الخاص به .

شذرات من الصراع النفاقي في التاريخ :
يزخر تاريخ البشرية بأمثلة كثيرة عن الصراع مع النفاق أو مع الإرهاب المؤدي له , منها ما هو جماعي كالثورات , و منها ما هو فردي , و غالباً ما كانت الأمثلة الفردية منارةً للأمثلة الجماعية و نبراساً لها , فالأنظمة المتحجرة المتقوقعة المنطوية على نفسها سواء أكانت اجتماعية أم دينية أو سياسية تفرض بإرهابها على الذين يعيشون في كنفها نوعاً من النفاق العام , تُغَذيهِ حتى يغدو سلوكاً عاماً يصعب على الناس العاديين البسطاء مجابهته .
و فيما يلي سوف أستعرض لك يا قارئي بعضاً من الأمثلة الفردية التي قدمت نفسها قرباناً للحرية و الشجاعة و الثبات و الصدق على مذبح الإرهاب و النفاق البشري لا لشيء إلا لصدقها العميق بما تؤمن به , و لكي تبقى ناموساً للحرية و الصدق و شاهداً على انحطاط الفكر الإرهابي و النفاقي :
- فيثاغورس :
يُعتبر سقراط ( 470 ق.م – 399 ق.م ) في العديد من المراجع و الكتب شهيد الفلسفة الأول , لكن إذا ما اعتبرنا المجاملة و الإذعان لقواعد الفوارق الطبقية و الإجتماعية نفاقاً , فإن فيثاغورس ( 570 ق.م – 495 ق.م ) يكون شهيد النفاق الأول , فبعد تأسيس فيثاغورس لجماعته و استقرارهم في مستعمرة كروتون اليونانية و انتشار أخبارها في اليونان و خارجها , تقدم شخص يدعى كايلون بطلب للدخول في جماعة فيثاغورس ( كانوا يسمون أنفسهم إخوان فيثاغورس ) و بما أن كايلون كان ابن رجل دين ثري في كروتون فقد اعتاد على الحصول على أي شيء يريده , وبسبب هذا الامتياز و كونه مولود في طبقة النبلاء فقد ظن أنه يجب على الجماعة السماح له بتجاوز سنوات التدريب والصمت والتأمل العميق الخاص بالمعبد الداخلي لجماعة إخوان فيثاغورس , لكن فيثاغورس رفض قبوله لعنجهيته و قلة علمه الذي كان باستطاعته الحصول عليه بسهولة وفقاً لوضعه المادي لو أراد , غضب كايلون و قرر الانتقام , و بدأ بإلقاء خطابات تحريضية وهمية حول الأفكار والمعتقدات الفيثاغورية , واصفاً سكان كروتون بأنهم كالماشية لأنه يتم التحكم فيهم والسيطرة عليهم من قبل قادة فيثاغورس , فثارت الجموع الغوغائية و قامت بإحراق مجموعة من المنازل التي كان يعيش فيها إخوان فيثاغورس مما اضطر أعضاء الجماعة إلى الفرار فوقعوا بأيدي الغوغاء و طُعن الكثير منهم حتى الموت وهرب بعضهم إلى المناطق الريفية المحيطة , نجا فيثاغورس بعد أن شكل أتباعه جسراً بشرياً لمساعدته على التسلق خارج أحد المباني المحترقة , لكن حالة من التأمل أصابت فيثاغورس و هو في هذا الموقف العصيب , فوقف يتأمل حقل الفاصولياء الممتد أمامه , ثم ركز نظره على حبة فاصولياء تتدلى قرب قدمه نابضة بالحياة و الشمس تنخفض بهدوء في السماء فتخيل أن الحبة تنضج بصورة سماوية , و بينما هو في هذا الموقف المنعزل و المنفصل تماماً عن كل ما يجري حوله , داهمته الغوغاء و عاجلوه بعدة طعنات أنهت حياته على الفور . (*3)

- سقراط :
أما سُقراط ( 470 ق.م – 399 ق.م ) الذي اتُهِمَ بامتناعه عن عبادة آلهة المدينة ( أثينا ) و باختلاقه بدعاً دينية و بإفساده شباب أثينا و تم الحكم عليه بالإعدام بعد محاكمة تُعد من أشهر المحاكمات في التاريخ عرَّى فيها سقراط نفاق أثينا و كشف زيف معتقدات مجتمع أثينا التقليدية ببسالة أسطورية , مُحَوِلاً محاكمته بأكملها و حتى موته إلى شاهد تاريخي يُثبت جهل قضاة محكمة أثينا و مجتمعها و أحقية حججه و رؤيته , لقد كان باستطاعة سقراط أن ينافق قليلاً أثناء المحاكمة و يسقط التهم التي وجهت إليه و بالتالي حكم الإعدام بتجَرُع السم لكنه لم يفعل , و كان باستطاعته أن يهرب من السجن بعدما أكد له صديقه كرايتون أنه قد أعد كل ما هو ضروري لنجاته بسلام ودقة لكنه رفض , و مضى بتنفيذ الحكم فتجرع السم بثقة و أدان أثينا و ديمقراطيتها للأبد .
يقول سقراط مخاطباً قضاة المحكمة : " طالما أني أتنفس وأملك القوة ، لن أتوقف عن ممارسة الفلسفة وإسداء النصح لكم وتوضيح الحقيقة لكل من أصادفه , وبذلك أيها السادة ، سواء برأتموني أم لا ، أنتم مدركون أنني لن أغير سلوكي ، حتى لو مت مئة مرة . " (*4)
لقد انتصر سقراط على موته , فاسمه و تعاليمه و مدرسته باقية حتى الآن , أما أسماء قضاته و منافقي عصره فقد دَرَسَها النسيان .

- يسوع المسيح :
للأسف بمجرد أن يصبح الموضوع دينياً فإنه يغدو من شبه المستحيل أن نعثر على معلومة يقينية أو شبه يقينية , فمعظم المصادر تكون إما لمتدين امتلأ عقله بمزيج من الخرافات و الحقائق أو لحاقد امتلأ فكره بالبغض و الكره .
إذ لم أستطع أن أعثر على معلومة واحدة مفيدة حول تاريخ ولادة المسيح و تاريخ استشهاده ( أو رفعه كما يقول المسيحيون ) , و لكن يرجح أن ميلاد المسيح كان في السنة الخامسة أو الرابعة قبل الميلاد كما يقول الدكتور فريدريك .و. فارار في كتابه حياة المسيح صفحة /25- 825/ , و يذكر أيضاً في الصفحة /822/ أن حياة يسوع على الأرض كانت ثلاثة و ثلاثين سنة فقط ما يعني أن وفاته كانت بتاريخ 28 أو 29 بعد الميلاد و بهذا يكون ميلاده و موته ( 4 أو 5 ق.م – 28 أو 29 ب.م ) . و بعد هذه المقدمة حول ميلاد المسيح و موته فإننا لا نملك ( و بعيداً عن الدين و التدين ) إلا أن نقف احترماً و إجلالاً لشجاعة و جسارة هذا الرجل الذي تحدى إرهاب التوراة و تعاليمها المخزية كإجبارها اليهود على النفاق رغماً عنهم وإلا فالرجم مصيرهم , هذا الرجل الذي استطاع بثلاث سنوات فقط أن يؤسس مدرسة جديدة مناقضة تماماً لكل ما أوعزت به التوراة من قتل و رجم و جلد و سفك للدماء , هذا الرجل الذي أصبح أيقونةً للثورة و الانتفاض على النفاق و الإرهاب , و أصبح صليبه و ألمه شاهداً تاريخياً عليهما . (*5)
و لعلها من أشد مفارقات عصرنا أن يتم دمج تعاليم القتل و الإرهاب المُوَلِّد للنفاق ( التوراة ) بتعاليم التسامح و الحرية ( الإنجيل ) في كتاب واحد ( الكتاب المقدس ) و هذا أمر يحتاج للتوقف عنده طويلاً و البحث فيه عميقاً .

- هيباتيا الإسكندرانية ( ايباثيا ) ابنة ثيون :
كما هو الأمر بالنسبة للمسيح فقد دخلت هيباتيا في نطاق الحيز الديني و بات العثور على معلومات يقينية حولها صعب جداً , إلا أن أغلب المصادر تقول أن حياتها كانت بين ( 350 أو 370 ب.م – 415 ب.م ) في حقبة كان الصراع فيها بين الثلاثة : المسيحية – الوثنية الرومانية – اليهودية على أوجه , و ما وصلنا من معلومات عنها هو أنها كانت أول عالمة رياضيات و فيلسوفة ملهمة فاقت جميع الفلاسفة في عصرها , و يذكر المؤرخ نيكيفوروس كاليستوس عن هيباتيا أنها : " كانت خليفة الفلسفة الأفلاطونية و كانت متطوعة لتلقين جميع الراغبين ما تملكه من معارف و كان جميع طلاب الفلسفة يهرعون إليها , لا لمجرد بلاغتها في عرض الحجج و حسب بل لأنها كانت تساعدهم بحكمتها في الإدارة , و كانت مُكرَّمة من الجميع و محط كلام الجميع .
كانت هيباتيا تتردد بتواتر كبير لدى أوريستوس ( الحاكم الروماني للإسكندرية – وثني العقيدة ) و تمكث عنده مطولاً , الأمر الذي أثار حولها نقمة الإكليروس المحيط بـ كيرلس ( رئيس أساقفة الإسكندرية المسيحي ) و اتهموها بأنها هي التي منعت الحاكم أوريستوس من التصالح مع كيرلس , فقام بعض محبي كيرلس يقودهم شخص يدعى بطرس كان يشغل منصب قارئ ( للصلوات في الكنيسة ) بمراقبتها أثناء خروجها من البيت , و بعد أن جرّوها إلى كنيسة كيزارون و خلعوا عنها ثيابها و قتلوها رجماً ثم مزقوها إرباً , ساروا بها في المكان المسمى كانارون و ألقوها في النار " (*6)
بدأ الأمر عندما قبض اليهود داخل معبدهم على مسيحي متعصب يدعى هيراكس , كان قد دخل كي يتجسس عليهم محاولاً إيجاد دليل يثبت تورطهم في مؤامرة ضد المسيحيين , رفع اليهود شكواهم لأوريستوس حاكم الإسكندرية الذي أمر بعقابه بتهمة التحريض على العنف , فوصل الخبر لكيرلس رئيس الأساقفة المسيحيين في الإسكندرية فانزعج من تصرف أوريستوس تجاه هيراكس الذي كان أحد رجاله و قام بتحريض المسيحيين لمهاجمة اليهود فقتلوا منهم ما قتلوا و من نجا من اليهود تم طرده من المدينة , ثم استولى المسيحيون على ممتلكاتهم و قاموا بتحويل المعابد اليهودية إلى كنائس , و في ذروة نشوتهم بهذا النصر الكبير على اليهود أخذ رُعاع الرهبان المسيحيين يبحثون عن هيباتيا .
و يَصف الباحث مانجاسار م. مانجاسريان الحادثة كما دونها المؤرخون كالتالي :
(( في صباح اليوم التالي ، عندما ظهرت هيباتيا في عربتها أمام بيتها ، ظهر خمسمائة رجل ، مرتدين ملابس وقلانس سوداء ، خمسمائة راهب تم تجويعهم في جوف رمال الصحراء المصرية ، خمسمائة فارس من فرسان الصليب ، تمامًا مثل إعصارٍ أسود ، اقتحموا الشارع وانقضُّوا على عربتها وقاموا بجرِّها من مقعدها وسحبها من شعرها إلى - كيف لي أن أقول تلك الكلمة ؟ - إلى الكنيسة . يُشير بعض المؤرخون أن الرهبان قد طلبوا من هيباتيا أن تُقبِّلَ الصليب فتصبح مسيحية وتنضم لدير الراهبات إن كانت تبتغي الإبقاء على حياتها. على أي حال ، فقد أقدم هؤلاء الرهبان ، بقيادة بطرس القارئ اليد اليمنى للقس كيرلس ، على تجريدها من ملابسها بشكلٍ مخزٍ . وهناك ، بالقرب من المذبح والصليب ، قاموا بسلخ لحمها المرتجف بقشور المحار . وعلى إثر ذلك الفعل الشنيع ، اختلط اللون الرخامي لأرضية الكنيسة بدمائها الدافئة ، حتى المذبح والصليب قد تم تلطيخهم جراء العنف أثناء تمزيق أوصالها ، حيث قدمت أيدي الرهبان ، في ذلك الوقت والمكان ، مشهداً تجزع له النفس وتعجز عن وصفه الألسنة . ثم أُشعِلَتْ النيران في الجسد المشوَّه والذي شهد على الكراهية والتعصب الذي فاض من نفوسهم . )) (*7)
قبيل هذا الوقت الدامي الذي قُتلت فيه هيباتيا ، أمر كيرلس بإحراق جامعة الإسكندرية و تدمير كل المعابد الوثنية .
تلى ذلك نزوح وهجرة جماعية للفنانين والمثقفين من الإسكندرية .
فيما بعد أعلنت الكنيسة كيرلس الأول قديساً , تقديراً لجهوده المبذولة في قمع الوثنية و تكريس الإيمان الحقيقي !
و بهذا غدت هيباتيا شهيدة بدايات الإرهاب المسيحي و النفاق الذي فرضه .
و مما يجب ذكره أن السجال لا يزال قائماً حتى الآن بين العقلانيين و المسيحيين المتعصبين حول من قتل هيباتيا , لهذا و للأسف فنحن نعرف عن موتها أكثر مما نعرف عن أعمالها و علمها .

- جوردانو برونو و ليس غاليليه :
( 1548م – 1600م ) فيلسوف و فلكي و رياضي إيطالي تجرأ على مقارعة الكنيسة حتى النهاية , ناقش في العقيدة الآريوسية التي تنكر ألوهية المسيح و عارض الفساد الأخلاقي و الاجتماعي السائد , انتقد الأخلاق النصرانية بشدة و خصوصاً مبدأ الكالفنية الذي يقول بأن الإيمان وحده هو طريق الخلاص , نادى لاعتبار الكتاب المقدس كتاب تعاليم أخلاقية و روحانية و ليس كتاب علمي فلكي , أكد على صحة نظرية كوبرنيكوس التي تقول بدوران الأرض , و التي كانت محرمة من قبل الكنيسة , و ذهب إلى أبعد من ذلك حيث وضع فرضية تقول أن النظام الشمسي هو واحد من مجموعة نظم في صورة نجوم تغطي الكون و تقول أيضاً بألوهية ولانهائية الكون , و أن كل من النظم النجمية الأخرى تشتمل على كواكب ومخلوقات عاقلة أخرى , استمرت محاكمته سبع سنوات رفض فيها التراجع عما يعتقده و يؤمن به , فحكم عليه من قبل البابا بالهرطقة و اقتيد بفمٍ مسدود إلى ساحة الزهور في روما و أحرقته الكنيسة حياً .
في عام 1899م أي بعد ما يقارب ثلاثمائة عام على الجريمة قامت العقول الحرة ببناء تمثال لجوردانو برونو شهيد الإرهاب و النفاق الكنسي وضعته في ساحة الزهور في روما , في نفس المكان الذي أُحرق فيه , و لا يزال منتصباً ينظر بجرأة الأبطال إلى الفاتيكان حتى اليوم .
كان جوردانو برونو ملهماً لـ غاليليو غاليليه ( 1564 – 1642م ) الفيلسوف و الفيزيائي و العالم الفلكي الإيطالي أيضاً .
في عام 1610م نشر غاليليو كتاب الرسالة الفلكية ، والذي يصف مشاهداته المفاجئة التي وصل إليها بعد أن قام بتصنيع تلسكوبه الجديد ، ومنها أقمار المشتري الأربعة التي تسمى الآن أقمار غاليليو , و بناءً على هذه المشاهدات تبنى غاليليو نظرية مركزية الشمس التي صاغها العالم كوبرنيكوس , فقامت قيامة الكنيسة الكاثوليكية عليه و أعلنت محكمة التفتيش رسمياً عام 1616م أن نظرية مركزية الشمس " هرطقة " , و حظرت الكتب التي تتحدث عن مركزية الشمس , و بسبب صداقة غاليليو مع البابا أوربان الثامن طلبت الكنيسة من غاليليو التوقف عن الإيمان بهذه الأفكار أو تعليمها أو الدفاع عنها , فقبل مرغماً و تابع عمله واضعاً نظرية حول التيارات البحرية عام 1616م والمذنبات عام 1619م , و في عام 1632م نشر غاليليو كتابه : حوار حول النظامين الرئيسيين للكون ، حيث دافع فيه ضمنياً عن مركزية الشمس ، فانتشر الكتاب و حاز شعبية واسعة , فردت محكمة التفتيش الكاثوليكية بإعادة محاكمة غاليليو عام 1633 ووجدته "متهماً بقوة بالهرطقة " و طالبته بنبذ و لعن و إنكار ما صرح به فرضخ أيضاً مرغماً , لتحكم عليه بمنع كتبه و السجن إلى أجل غير مسمى ثم تم تخفيف الحكم إلى الإقامة الجبرية حيث بقي غاليليو في بيته حتى موته عام 1642.
عام 1992م أي منذ ما يقارب الثلاثين عاماً فقط , قدم الفاتيكان اعتذاراً رسمياً لغاليليو و قرر إنشاء تمثال له , و في عام 2008م تم وضع التمثال المذكور داخل جدران الفاتيكان .
و لا أظن أن هذه المفارقة تخفى على القارئ النبيه , فلماذا تم الاعتذار رسمياً لغاليليو الذي مات في بيته بعد أن رضخ لطلبات محكمة التفتيش , بينما تم تجاهل جوردانو برونو الجسور الثائر الذي أحرقه الفاتيكان حياً بأمر رسمي من البابا بذاك الوقت ؟!

- الحلاج :
هو أبو المغيث الحسين بن منصور الحلاج ( 858 – 922م ) فيلسوف و شاعر متصوف , بعض المراجع تقول أنه عراقي و بعضها الآخر يقول أنه فارسي , نال شُهرةً واسعة و أتباعاً كُثر , و هو الصوفيُّ الأكثرُ إثارةً للجدل في التاريخ الإسلامي والأعمق أثراً , له عدة مخطوطات كتبها أثناء سجنه شطح فيها أبعد ما يكون عن " و خاطبوا الناس على قدر عقولهم " جُمعت بكتاب اسمه : كتاب الطواسين , و ديوان شعر صوفي يترنم به كل من يقرأه :
أَنا مَن أَهوى وَ مَن أَهوى أَنا نَحنُ روحانِ حَللَنا بَدَنا
نَحنُ مُذ كُنّا عَلى عَهدِ الهَوى تُضرَبُ الأَمثالُ لِلناسِ بِنا
فَإِذا أَبصَرتَني أَبصَرتَهُ وَ إِذا أَبصَرتَهُ أَبصَرتَنا
أَيُّها السائِلُ عَن قِصَّتِنا لَو تَرانا لَم تُفَرِّق بَينَنا
روحُهُ روحي وَ روحي روحُهُ مَن رَأى روحَينِ حَلَّت بَدَنا
دفع الحلاج حياته ثمناً لصدقه و جرأته في طرح القضايا الإصلاحية فقد كان يرى أن التصوف جهادٌ في سبيل إحقاق الحق ، وليس طريقةً خاصة بين المتصوف والإله فقط ، فكان التصوف بالنسبة للحلاج جهاداً ضد الظلم والطغيان في النفس والمجتمع , لذا كان دائم الاعتراض على الأوضاع القاسية التي يعاني منها الزنج في مناجم الملح وكان يوجه سهام نقده للخلافة العباسية ، وهو الموقف ذاته الذي اتخذه في الدفاع عن البدو الجائعين الذين أتوا إلى البصرة وبغداد في جماعات بحثاً عن الطعام .
استمرت محاكمة الحلاج بتهمة الزندقة والكفر تسع سنوات ، حيث جادله الفقهاء والقضاة في آرائه ، و عندما أحس الحلاج بالخطر خاطب قضاته بقوله : " ظهري حمي ، ودمي حرام ، وما يحل لكم أن تتهموني بما يخالف عقيدتي , ومذهبي السنة ، ولي كتب في الوراقين تدل على سنتي ، فالله الله في دمي " .
لكن ذلك لم يردعهم عن الحكم عليه بالقتل بحيلة من الوزير حامد بن العباس الذي رفع أمره للخليفة المقتدر بالله و ضغط عليه فصادق الخليفة على حكم إعدامه بطريقة دموية أراد منها الوزير حامد بن العباس أن تكون عبرة لكل الصوفيين و لكل من يجرؤ على الخروج عن النفاق العباسي الرابض على صدور الناس .
و نودِيَ ببغداد ألا تُشترى كتب الحلاج و لا تُباع
و قبل تنفيذ الحكم بيوم أنشد الحلاج :
عجبتُ منكَ و مني يا منيةَ المُتمني
أدنيتني منكَ حتى ظننتُ أنكَ أني
و غبتُ في الوجدِ حتى أفنيتني بكَ عني

و أيضاً :
لي حبيبٌ حبه وسط الحشا لو يشا يمشي على خدي مشا
روحهُ روحي و روحي روحهُ إن يشا شئتُ و إن شئتُ يشا

و جيء بالحلاج لتنفيذ الحكم و بغداد بأكملها قد احتشدت , و عندما رأى الصليب و المسامير ضحك و قال :
" اللهم هؤلاء عبادك قد اجتمعوا لقتلي تعصباً لدينك و تقرباً إليك , فاغفر لهم , فإنك لو كشفت لهم ما كشفت لي لما فعلوا ما فعلوا , و إنك لو سترت عني ما سترت عنهم لما ابتليت بما ابتليت , فلك الحمد فيما تفعل و لك الحمد فيما تريد . " (*8)
ثم تقدم صاحب الشرطة فشده إلى آلة الصلب و أمر الجلاد أن يضربه ألف سوط ..
ألف سوط و لم يئن الحلاج أو يتأوه .. بل كان في كل سوط يقول : أحدٌ أحد
ثم تقدم الجلاد شاهراً سيفه , فقطع يده اليمنى , و الحلاج مبتسمٌ يناجي ربه بهدوء , ثم قطع له اليسرى , و الحلاج على صمته , و لما اصفر وجهه من النزيف رفع ذراعه إلى وجهه و خضَّبَه بالدم كي يخفي اصفراره و قال مبتسماً : رُكعتان في العشق لا يصح وضوؤهما إلا بالدم .
أُعيد إحكام شدِّه إلى آلة الصلب و ترك على حاله لليوم الثاني , و في الصباح احتشدت العامة حوله و بدأ التعذيب مجدداً , فقُطعت رجله اليمنى , ثم اليسرى , و السوط لا يزال ينزل على ظهره , و هو يُنشد :
اقتلوني يا ثقاتي إن في قتلي حياتي
و مماتي في حياتي و حياتي في مماتي
إن عندي محوُّ ذاتي من أجَّلِ المكرمات
و بقائي في صفاتي من قبيح السيئاتِ
فاقتلوني و احرقوني بعظامي الفانياتِ
ثم مُروا برفاتي في القبور الدارسات
تجدوا سرَّ حبيبي في طوايا الباقياتِ

و مضت الليلة الثانية و الحلاج معلق على صليبه , و في صباح اليوم الثالث تقدم الوزير حامد و تلا أمر الخليفة ثم قرأ فتوى الفقهاء بأن في قتل الحلاج صلاحٌ لأمر المسلمين , ثم أمر الجلاد بقطع رأسه و الإجهاز عليه , ففعل .
نُصِب رأس الحلاج على جسر بغداد ليومين , ثم طيف به في خراسان التي كان له فيها أتباع كُثر , و حرق جسده و وضع رماده على منارة تذروه الرياح ..
انتصر الحلاج و سقطت الخلافة العباسية , انتصر الحلاج و زال الإرهاب و النفاق , انتصر الحلاج في حركة التاريخ و ضميره .
لقد أرادوا له بحرقهِ و نثر رماده الفناء , فكان أن ذهب الإرهاب و النفاق إلى مزبلة التاريخ , و استقر الحلاج في البقاء .
لا يمكنك أن تقرأ الحلاج و كلماته دون أن يتقمصَك و يتلبَسك ..
لا يمكنك أن تقرأ الحلاج دون أن يجعلك متصوفاً , فتتخيل نفسك بلباس الصوف الخشن و على رأسك خِرقة المتصوفين , مُزدرياً رفاهية الحياة , و بدلاً من أن ترى عينيك ما هو خارج رأسك فإنك ترى نفسك تغوص في دواخلها و أعماقها .
و هذا الإلهام بالجرأة و الصدق و الإنسانية و معرفة النفس هو مقصد الحلاج و غايته .
إن جُرم الزندقة في الإسلام كما الهرطقة في المسيحية , جُرمٌ جاهز لكل الخصوم السياسيين و الدينيين و الاجتماعيين , و تهمة حاضرة لكل من تسول له نفسه الخروج عن النفاق الذي تفرضه السلطة الدينية .
قدرُنا في هذه الأرض الملعونة بكل أنواع الإرهاب , أن نعاني و نمارس كل أنواع النفاق مرغمين , ننتظر مسيحاً و حلاجاً جديداً ينقذنا من رُهابنا و خوفنا .
كنا قد رأينا كيف يُسارع الفاتيكان اليوم للاعتذار عما فعله في الماضي , طمعاً في إعادة الثقة بالدين , و معرفةً بأن النفاق لابُد منتهي و لابُد مفضوح و إن طال الزمن , و هذا نابع من فهم ممتاز لحركة التاريخ و السيرورة , بينما يستمر الإرهاب الإسلامي فارضاً نفاقه على كل من يعيش بكنفه , ضارباً الحضارة و المدنية و حقوق الإنسان رمال الصحراء , مُلاحِقاً كل من يُعمل عقله و فكره في إنسانية الإنسان و حقه في الحرية و الكرامة و الحياة بصدق مع نفسه و مع الآخرين .
ففي بيئة من الحرية يسودها احترام حق الإنسان بالاعتقاد و التعبير و مفهوم تقبل الآخر المختلف دينياً و قومياً و عرقياً , تزول أغلب أنواع النفاق و تغيب , و يبقى فقط النوع الأسقط و الأحقر و هو النفاق السياسي الشخصي , نفاق طالب السلطة و السياسة على جمهوره , و تأتي سقاطة و حقارة هذا النوع من النفاق من كونه لا يوجد إرهاب حقيقي يُجبر السياسي على كتم و ستر قناعاته عن الآخرين سوى الإرهاب النفسي الذي يتسبب به صاحبه لنفسه خشية عدم الوصول إلى ما يريد و ضياع مصالحه الشخصية في حال فشله .
يُعلمنا التاريخ أن الدول و الأمم تنمو و تزدهر بقدر ما تتقبل حرية الاختلاف و الرأي و تزول و تندثر بقدر ما تتعصب و تتطرف .

في الختام أرجو أن أكون قد قدمت لك يا قارئي نظرة جديدة نحو النفاق و المنافق , نظرة تجعلنا نتفهم أسباب النفاق , فنعذر المنافق قليلاً و نحتويه باعتباره ضحيةً و مجرماً مُكرهاً على فعلته في آنٍ معاً , ضحية لكل هذا الإرهاب المُمارس علينا بكل أنواعه , نظرة تلهمنا أن نواجه المنبع و أن نتجرأ على نقاشه و حواره لا أن نتفاخر بمحاربة الضحية فقط , تلهمنا التمثل بمنارات الصدق مع النفس و شهدائه و أن نكون فيثاغوريين و سقراطيين و هيباتيين و جوردانيين و حلاجيين .

_________________________

المراجع و المصادر :
(*1) : معجم لسان العرب لابن منظور - فعل نفق 10 / 357
(*2) : نفس المصدر السابق
(*3) : مقال لأستاذ الرياضيات بروس بنينجتون بعنوان : وفاة فيثاغورس - ترجمة الدكتور رحيم الشياع الساعدي
(*4) : كتاب عزاءات الفلسفة – آلان دو بوتون
(*5) : كتاب حياة المسيح – د. فريدريك و. فارار
(*6) : دراسة لـ مكاريوس غبور بعنوان : هيباتيا من قتلها
(*7) : كلمة ألقاها الباحثMangasar M. Mangasarian أمام الجمعية الدينية المستقلة على مسرح ماجستيك في شيكاغو
(*8) : كتاب الحلاج شهيد التصوف الإسلامي – طه عبد الباقي سرور








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نعمت شفيق.. رئيسة جامعة كولومبيا التي أبلغت الشرطة لاعتقال د


.. في قضية ترحيل النازحين السوريين... لبنان ليس طرفًا في اتفاقي




.. اعتقال مناهضين لحرب إسرائيل على غزة بجامعة جنوب كاليفورنيا


.. بينهم نتنياهو.. مذكرات اعتقال دولية بحق قادة إسرائيل بسبب حر




.. اعتقال مصور قناة -فوكس 7- الأميركية أثناء تغطيته مظاهرات مؤي