الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المثقف وأوتاد الثقافة المنفتحة

الياس خليل نصرالله

2021 / 5 / 16
الادب والفن


المثقف يتحلى بالقيم الانسانية السامية، والشجاعة الفكرية، يناقش بتروٍ وعقلانية ما يسمعه أو يقرأه او يشاهده. فهو لا يتلقى ما سمعه او قرأه كالببغاء، او يمتصه كإسفنجة، إنما يقوم بغربلته وتمحيصه، وسبر أغواره، ليتمكن من الادراك والتمييز بين الحقيقة والخرافة وبين ما هو بناء وهدام. والمثقف يبادر للتفاعل مع قضايا ومعضلات مجتمعه، يدعم الإصلاح والتغيير والتطور، ليحقق العيش هو وكافة شرائح مجتمعه واقعًا تسوده المحبة والتسامح والرفاه والطمأنينة. شعاره في الحياة "دَعْ الأفكار تتفتح كما الأزهار تتفتح،". ويعترف بالتعددية، ويرفض ويناهض كل موروث يعيق ويعرقل مسيرة التطور، وحرية الفكر والنقد. والمعيار لتقويم انفتاحه الفكري، هو درجة قدرته على التحاور والتقبل لأراء مخالفة لرأيه وجاهزيته للاعتراف باخطائه، ومبادرته لتطبيق الرأي الآخر لادراكه واقتناعه بصحته.
اما المتعلم هو من تعلم أمورا ، لم تخرج عن نطاق الإطار الفكري، الذي اعتاد عليه، حيث الكثير منهم يسعون بشكل قهري لاجترار الاراء والمعلومات الداعمة فقط لرأيهم، أي هم ممسوسون بالانتهازية والجمود العقائدي، والفكر السلفي المقولب، المتقوقع في دياجير الماضي السحيق وتهميش وتعنيف المغاير له.

ما زالت مجتمعاتنا تفتفقر الى ابجديات الثقافة لتلتحق بركب الحضارة. ويعود ذلك لعوامل عديدة منها أنظمة الحكم العربية الاستبدادية، التي يساندها القوى التقليدية السلفية.وهذه الانظمة، بطبيعتها من ألد اعداء الثقافة والتنوير والحريات. ومن الطبيعي ان يؤدي واقع الاستبداد، تدمير الاقتصاد وتعميق وترسيخ افقار الشعب، وقهر كل الحريات والحقوق، سيكلوجية الاحباط، وانتظار الحلول الغيبية. ومن الحتمي في دولة يسودها الفقر المدقع لمعظم شرائح المجتمع ان تنعدم كل امكانية للثقافة، التعليم، والتطور للشعب، وهذا العامل الاساسي لتفشي الامية وقهر، واقصاء كل فكر انساني ثوري وعصري في عالمنا العربي. وتزيد في بيئة استبدادية احتمالات غياب قيادة، منظمة، واعية، وظهور قيادات ثقافية شعبوية، مما يؤدي لتهميش قدراتها التأثيرية. ويطرح "رسلان عامر" عوامل ازمة المثقف العربي، في مقاله: هل يستطيع المثقف العربي ان يستعيد دوره، "بأن هذه الازمة، تعود الى الفراغ القيادي الثقافي، الذي استغله الاسلام السياسي ليهيمن على الحراك الشعبي، ويترأسه بسبب حصول رِدة ثقافية (والنكسة)، فشل المشاريع التقدمية، المترافق بهيمنة الديكتاتوريات وتحالفها مع القوى الدينية والتقليدية، ولوجود تدخلات خارجية اقليمية ودولية، وقفت ضده بعنف، او استغلته ودفعته، وفقا لما يخدم مصالحها الخاصة، بعيدا عن المسار الوطني التحرري، و"لبقاء معظم المثقفين العرب متذبذبين بين الثقافة التقليدية الموروثة من عصر الانحطاط العربي وبين الثقافة العصرية العلمية الحديثة. وبرأيه من اسبابها الرومانسية (لدى المثقف)، والتي تتحلى بالانسياق العاطفي وراء الاحلام الدينية، او القومية، او الانبهار بالتجارب الاجنبية الكبرى ومحاولة تقليدها. واغتراب(المثقف)، وله شكلان، سلفي، يجعل قدوته وقبلته الماضي العربي الاسلامي،او خارجي يقتدي فيه غالبا بالغرب... ويربطها ايضا بعامل الإيمانية والتي هي تبنّي {فئات من المثقفين} ايديولوجيات غير دينية بنفس الطريقة التي يُسيس الاسلام السياسي الاسلام، فتأتي هذه الايديولوجيات، مغلقة، متعصبة، رافضة للاختلاف، قسرية، تفرض نفسها على الواقع وتحاول قولبته في قوالبها الجاهزة".
وهناك في مجتمعاتنا فئات ليست بقليلة من المتعلمين (حملة شهادات) اختارت الحصول على ألقاب اكاديمية لاكتساب مهنة توفر لها الدخل الوفير ومكانة وظيفية عالية، وتحرص على مساندة النظام، بشكل اعمى او عدم انتقاده. ولذلك تتنكر وتتخلى عن وظيفة التنوير، الابداع والنقد، والتفاعل مع هموم الشعب، بل تنصرف مجموعات منها الى ممارسة التسويغ، التبرير والشرعنة لاعتداء السلطة على حقوق وحريات المواطن. وعليه لكي ندرك دور المتعلم في المجتمع علينا ان نعايش مواقفه وافعاله وليس ما يزعم او يعتقد او يتظاهر عمله.
المثقف الديلكتيكي، هو النقد الاجتماعي، والعنصر الفعّال لبناء مجتمع اكثر بصيرة، عقلانية واخلاق سامية. فهو الممثل لقوة فاعلة، تملك القدرات والمؤهلات لتطوير المجتمع، من خلال التزامه بقضاياه، هو ضمير المجتمع، وحامل مشعل النور في سبيل المساهمة في تحقيق نظام سياسي واجتماعي واقتصادي أكثر إنسانية وتوازن وعدالة.
يدأب باستمرار ، ليذوت ويُجذر القيم والمبادئ، التي تنبذ كل مظاهر وممارسات التمييز على اساس اللون، الجنس، العرق والدين والقومية. ويدعم حرية التفكير والنقد والانفتاح الفكري العقلاني المتسامح. ان مقولة غرامشي تلخص واقع الكثير من المتعلمين في المجتمع "ليس بيننا من لا يفكر، بشكل أو آخر، ولكن بيننا الكثير من ينكر على الآخرين حرية تفكيرهم".
ان مقومات المثقف الديلكتيكي توظيفه ثقافته وعقله كوسيلة تساعده على الربط بين ما يستوعبه فكره من أفكار وتقنيات جديدة وبين ماكان يعرفه من قبل. ولينقلها مختلطة بعصارة فكره، ومقترنه ومدعومة منطقيا بموقف مؤيد او رافض للقضايا التي يتطرق اليها. وهو على يقين بانه يستحيل لأي نشاط انساني ان يكون خاليا من النشاط الذهني، ولن يتكامل بدون ارتباطه بنشاط يدوي. وتطرح النظرية المادية الجدلية، في هذا الشأن، ضرورة توفر الفهم العميق والدقيق، لكيفية التفاعل والتأثير المتبادل، بين البُنيتين التحتية والفوقية، ليتحقق التطور من الادنى الى الاعلى ومن البسيط الى المعقد، لينفي العوامل التي تعيق مسيرة البناء والتطور، والتمسك بكل تراث يدعم الارتقاء والتطور. او بلغة جرامشي، "العلاقة الدياليكتيكية بين البنية الفوقية، بقواها المهيمنة، والقوى الاجتماعية المسيطرة النابعة من علاقات الإنتاج".
وبرأيي اذا كان من العسير على المثقف استيعاب ومواكبة التغيرات في واقعه دفعة واحدة، فانه لا يتنازل عن محاولاته الدؤوبة والتدريجية لادراكها وتطبيقها ببحثه وكشفه ايتيولوجيتها (اي بحث اسباب، عوامل ظاهرة معينة ليتمكن استيعابها، وموازنة اسقاطات وثمن خطواته وافعاله). وهذه برأيي مقومات المثقف الذي يعايش هموم وتطلعات شعبه، اي يجد نفسه بين الناس، وليس في احضان المناصب والمال، فهو يعي ويدرك ان الترف يجمد العقل ويسخفه.

ان المثقف الديلكتيكي، يُطوّر نفسه باستمرار بدراسته وانفتاحه ومنطقه الجدلي لاستيعاب الثورات العلمية والتقنية والحقائق العلمية، ليتمكن من مواكبة الحداثة وتفسيره الواقع على ضوء المستجدات والمتغيرات.
ونجده يرفض مقولات وتأويلات مثقف الظل بان تردي اوضاع المسحوقين مصدره نزعتهم الاتكالية وكسلهم ولامبالتهم. لانه يعي ويدرك ان الانسان المقهور هو ضحية الاستغلال ويصارع الزمن والطبقية التناحرية الجشعة من اجل البقاء. وتنبع توجهاته وافعاله هذه لكونه صاحب فكر ومواقف ثاقبة، لا تعرف الهدوء والسكينة، ولا تلين لها قنات في انتقاد وتعرية الانتهاكات والفساد وصفقات امراء (تايكون) المال والسلطة. ولا ينحصر دوره فقط في ذلك، انما يثابر بان يتخذ منها موقفا شجاعا، ومتحديا، ليوفر الظروف والامكانيات لاقتلاعها، مهما كلفه ذلك من تضحيات مقننة. وعليه صدق من عرفه "بانه المدرسة والمحامي المجاني للمعذبين في الارض، انه القوة الدينامية والمتبصرة والرائدة، المؤثرة في مجتمعها والمتأثرة منه".
ان كل ما ذكرته يؤكد بان المثقف الديلكتيكي هو ضمير المجتمع، وحامل مشعل النور في سبيل بلوغ منظومة سياسية واجتماعية أكثر إنسانية وعقلانية. انه النقيض لمثقف الظل الذي دجن وسلّع قلمه، وهانت عليه كرامته لخدمة وتجميل إيديولوجيات سياسية واقتصادية قهرية لينطبق عليه مقولة هربرت ماركو زا "انه الانسان ذو البعد الواحد المسطح". وتضم هذه فئات وشرائح واسعة من المتعلمين المؤطرين والمحجمين في بوتقة وظيفة حكومية بيروقراطية يعايشون حياة سيزيفية قاتمة، ليجمع بين غالبيتهم عبارة تورجنيف "لقد خرجنا جميعاً من تحت معطف غوغول". انه مثقف الظل التقليدي، المتكسب بكتاباته المنمقة، وعباراته الجوفاء والطنانة لارباب السلطة والمال والجاه، تحركه مصلحة قوامها الخنوع والانتفاع لتصبح عنده، معاناة المعذبين في الارض في طي الكتمان والنسيان. ومن مثالب وعورات فئات واسعة من هؤلاء، ايمانهم الاعمى بان القوى المهيمنة معصومة عن الخطأ وليس لها بديلا. ويمكن ان يحرك بعضها فوبيا (خُواف) التغيير لتخوفها من الضياع من ناحية، وتفشي الفوضى من ناحية اخرى.
ومن الضروري القاء الضوء على دور ومكانة المرأة المتعلمة والمثقفة.
يعتمد كثيرون بتعريف المرأة المثقفة حسب المعيار التعليمي والحصول على القاب جامعية، الا ان واقع المرأة المتعلمة، يثبت ان ذلك ليس شرطا كافيا لتصبح الانثى مثقفة.
فالمرأة المثقفة هي صاحبة فكر متنور، يناقش ويحلل مختلف العقبات التي تعيق تحررها ومساواتها الحقيقية. فهي الرافضة لطغيان النزعات الذكورية، والخنوع والتذلل والغاء ذاتها امام الرجل، والتسليم الاعمي القهري بسُموه وتفوقه عليها.
رغم طموح الفتاة وتفوقها في مجالات متعددة، فقد استمرت مكانتها وحقوقها متدنية. ان وصول نسبة ضئيلة من النساء، إلى مواقع صنع القرار، كان وما زال يحمل طابعا شكليا، لتبقى تعايش وضعا ومكانة هامشية، مبتورة. فالتغيير الجذري سيتحقق بتغيرات جذرية في كل مركبات بُنية المجتمع ليوفر للمرأة حيزا ومساحة ليوفر لها الفرص والامكانيات لبناء مجتمع يتميز بتوفر تكافؤ الفرص والمساواة الجقيقية والملموسة بين الجنسين.
رغم التقدم النسبي الذي أحرزته المرأة، في مجالات متعددة؛ إلا أنها تعاني معاناة مزدوجة: معاناتها كمواطنة عربية، تحمل هموم شعبها العربي، وآلامه وآماله، ومعاناتها كامرأة، تعاني التمييز بسبب جنسها، والذي ينعكس من خلال قوانين اغير منصفة، التي تستمد شرعيتها من الموروث الديني، لتضعها في موقع التابع لا الشريك، الأمر الذي يضعف إمكانية استفادة الوطن من خبراتها وطاقاتها. وحين تحصل، من خلال نضالها الدؤوب، على بعض الحقوق، تتعرض لنقد شديد، من القوى المحافظة. وما زالت المرأة تناضل على جبهات عديدة: جبهة الفقر والتخلف، وجبهة الحريات التي لا تتجزأ، والتي تتضمن حريتها كامرأة، لذا نجدها تمارس نضالا مكثفا ومثابرا لتطوير قانون الأحوال الشخصية في بلدها، والمشاركة في النظام التنفيذي، والتشريعي، والقضائي، والإندماج في كل الاطر والمؤسسات الاقتصادية، والمجتمع المدني والسياسي، وكافة النشاطات والفعاليات في الدولة والمجتمع. ومن الصعب تحقيق المساواة الجوهرية، بدون إقتلاع وإجتثاث ما اكده هنريك ابسن في مسرحيته بيت الدمية "مازالت المرأة دمية الرجل. يحب كنس كل العوامل، التي تشرعن تفوق الرجل عليها، وممارسة كل اشكال العنف ضدها، ومحاربة الفقر، والتهميش، والافكار المقولبة، المغلفة بقدسية التقاليد والمفاهيم السلفية، لتخليد نزعة السطوة الذكورية البطريركية عليها.
واختتم موضوعي بما كتبه عالم الاجتماع العراقي "علي الوردي" "المتعلم لم يَزِده من العلم الا ما زاد من تعصبه وضيق افقه.... اما المثقف فيمتاز بمرونة رأيه واستعداده لتلقي كل فكرة جديدة، وللتأكد فيها، ولتمَّلي وجه الصواب فيها. وَمِمَّا يؤسِف، ان المثقفين بيننا قليلون، المتعلمون كثيرون، ومتعلمونا قد بلغ غرورهم مبلغا لايحسدون عليه، وهذا هو السبب الذي يجعل احدهم، لا يتحمل رأيا مخالفا لرأيه".

شفاعمرو 16 أيار 2021








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024


.. السجن 18 شهراً على مسؤولة الأسلحة في فيلم -راست-




.. وكالة مكافحة التجسس الصينية تكشف تفاصيل أبرز قضاياها في فيلم


.. فيلم شقو يحافظ على تصدره قائمة الإيراد اليومي ويحصد أمس 4.3




.. فيلم مصرى يشارك فى أسبوع نقاد كان السينمائى الدولى