الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحانة

محمد اسماعيل السراي

2021 / 5 / 18
الادب والفن


منذ وقت ,لم اعد اعلم , كم هو مقداره بالتحديد.. ربما ساعتان, آو خمس ساعات. وربما سنة. وربما  دهرا. وانا جالس هاهنا...الى هذه الطاولة الخشبية المتواضعة ..العارية, بلا مفرش... في حانة متواضعة .. تقبع في ازقة احدى محلات بغداد ,التي تعج بالحانات ودور السينما...
مطأطأً راسي الثقيلة نحو الطاولة. وبعينين ذاهلتين, غائبتين عن الحاضر , وبصعوبة, أتفرس سطح الطاولة الخشبي وشقوقها,, وخطوط الدوائر التي تبدو على السطح  والتي ربما تشير الى زمن التكوين ,او العمر البيولوجي للشجرة  ,التي صنعت منها هذه الطاولة...انها طاولة غضة خشبها غير مصقول ,,رصت فيها الالواح وثبتت بمسامير وركبت على اربعة قوائم..فكانت طاولة..هكذا..!!!!
وعلى الطاولة هنا, امامي,,كانت تقبع اشيائي.. عدة المزاج: كاس مملوءة الى النصف من خمرة رخيصة,وزجاجة في النزع الاخير,وصحن( مزة) لم يتبقى منه الا بضع حمصات,وانية باقلاء اوشكت على النفاذ..وسيجار مشتعل في المنفضة..
يصدح في اركان الحانة ,لحن بكائي, بصوت  مغن شعبي , اللحن  قادم من مسجل الصوت المتمترس على رفوق احدى المكتبات في ركن من اركان الحانة.. يهيئ لي ان هذا المغني كان يندب حظه العاثر مع الحياة وربما الحبيب ايضا,,او هكذا تناهى الى مسمعي:
(انه اليا ويل
يا ويللاه...)
لا اعلم , لم تحديدا اخذني هذا الصوت الى ذكرى عالقة في ذهني في كثير من الاحيان, عن صبية كانوا يجوبون ارض الجنوب المقدس ,,يهرولون بدشاديش (الجوبان),,ويقرعون بطبول من صفيح ..ينادون السماء ويتوسلونها ان تصفح عن قمرهم(سين)..الذي اكله الخسوف ,,والذي اتخذ هيئة حوت كما يبدو ..وهم يرددون برجاء:
((ياحوته ذبيّ..ذبيّ....هذا عور شلج بي..))
وايضا,ذكرني ذلك الصوت بأجساد اجدادي الغابرين والتي سحقتها في زوايا اور ولكش, سنابك خيل الجنود الفاتحين, القادمين من عمق الصحراء..
وكذلك ذكرني بجدي البعيد الذي نحر عنقه المغول والقوا بجثته في نهر دجلة,, فاختلطت دماءه بحبر الورق والكتب..
وايضا,بجدي الاخر الذي ثقب جسده رصاص الجندرمة.. لانهم ضبطوه يسرق رغيفا وجبنا  من مؤنة العصملية....
في عتمة الحانة ..وضبابها الكثيف, بسبب  سحب دخان السكائر والتتن ,الذي يلفها ويجعل من مناخها المحلي جوا طقسيا اشبه مايكون بالجو الطقوسي الذي يفعله العراف او(الشيخ الروحاني) في غرفة (النصب) التي يهيئها روحيا بنشر محروق البخور بكثافة لاضفاء الرهبة على قلوب وعقول زبائنه وضحاياه المساكين..في هذا المناخ الضبابي الذي استشعرت فيه روحانية وسكينة على نحو غريب ومفاجئ ,على الرغم من ان رواد هذا المحفل هم من السكارى والسوقة والدهاقنة...نعم حدث هذا!!
ومن خلال هذا الضباب,والعتمة,الواقعيين,,مضافا اليهما ضباب السكر والوهم,والوهن,,الذي اقتحم تلافيف دماغي,كنت المح اشباحا او اطيافا لاجساد بشرية وهي تتراقص تملة على انغام هذه الموسيقى الحزينة..بعض هذه الاشباح ترقص واقفة,,او تكاد..شبه واقفة(معوجة)..وبعضها الاخر يتراقص جالسا على كرسيه...
حتى اني تسائلت مع نفسي:
-هل كانت الاغنية حزينة كما فهمتها انا ..ام كانت سعيدة!!؟
لم الرقص على هكذا نغم بكائي؟, هل انا سكران لهذه الدرجة فلم اعد اميزمغزى اللحن !!!؟؟
ام ان الاخرين هم السكارى؟
ام اننا جميعا هنا سكارى في هذا المكان بسبب الخمرة المغشوشة..والحياة المغشوشة والهموم والضيم ؟..فلم نعد نميز الحزن من الفرح؟
 لان ايامنا باتت كلها حزن ومأساة وانعكس ذلك حتى على افراحنا وأغانينا وملهاتنا ..فلا باس ان نسرق من الحزن رقصة, وبعض الفرح....
وبعد زمن,ربما يقدر بساعة او بعضها ,,,او ايام..؟,,لم اعد احصي الساعات صراحة,,, ومن وسط هذا الضباب والعتمة الطقوسيين ,كانت تحدث هنالك جلبة.. وتتناهى الى سمعي  صرخات وصياح وجدالات..لااعلم,هل هي عراكات سكارى؟ ام نقاشات حادة..ام احاديث بصوت مرتفع؟ ام مجرد هممات ثكالى  ,ولكني بسبب السكر ربما,وغياب الوعي بالوجود,لم اعد اميز شيئا من حولي؟ لم اعد افقه الاحداث والزمن...
دلقت اخر ماتبقى من الزجاجة على اخر ماتبقى في الكاس ,,وكرعتها دفعة واحدة ..ثم ناديت على النادل فدفعت  له حسابي,,ونهضت قدر استطاعتي...وخرجت...
وفي يوم تالي,جلست في نفس الحانة..الى نفس الطاولة..وطلبت ذات المشروب..واستمعت الى ذات الموسيقى..
نفسها اشباح السكارى..
نفسه الجو المعتم الضبابي..
نفس الناس...نفس الحزن..
نفس الرقص...
وكان الاحداث هنا, تعيد نفسها كشريط سينمائي مكرر....
...محمد اسماعيل السراي..
باحث وكاتب مقال وقصة قصيرة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - الناقد الفني طارق الشناوي يحلل مسلسلات ونجوم رمضان


.. كل يوم - طارق الشناوي: أحمد مكي من أكثر الممثلين ثقافة ونجاح




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي لـ خالد أبو بكر: مسلسل إمبراطور


.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي: أحمد العوضي كان داخل تحدي وأثب




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي : جودر مسلسل عجبني جدًا وكنت بق