الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حول رواية - محاولة للخروج - للروائي عبد الحكيم قاسم

محمد علي سليمان
قاص وباحث من سوريا

2021 / 5 / 20
الادب والفن


يعترف عبد الحكيم قاسم أن روايته " محاولة للخروج " " قوبلت ببعض الفتور من أصدقاء لي، وتحمس لها آخرون مثل إدوار الخراط، لكني أنا نفسي أحبها وأراها قريبة جداً من نفسي. فقد ثرثرت فيها كثيراً عن نفسي بين يدي فتاة سويسرية تعرفت عليها مصادفة وصحبتها إلى سقارة وإلى القناطر وإلى قريتي البندرة مركز السنطة غربية " . وقد تكلم عبد الحكيم قاسم عن نفسه في الرواية بمرارة، فقد كان في فترة من حياته يعاني فيها الوحدة والغربة والفشل فكان يدافع عن كيانه بالثرثرة ليقتل الصمت الكابوسي في داخله.
وموضوع الرواية يقوم على مقولة " الريفي والخواجاية "، وعبد الحكيم يعترف بأهمية هذه المقولة عنده، والخواجاية في المقال الروائي هي فتاة سويسرية، تنتمي إلى الريف السويسري، وبالتالي لا تحمل عقدة الغرب الاستعماري، ولكنها ككاهن الكنيسة تتقبل الاعتراف بصمت، ذلك أن الرواية هي رواية الفتى الريفي وهمومه الشخصية وهموم وطنه حيث الفقر والقهر يطحن المجتمع.
والمقال الروائي للرواية مخادع، فإن مقولة " الفتى الريفي والخواجاية " تقترب من مقولة هيغل " السيد والعبد "، لكن مقولة هيغل تقوم على الصراع الاجتماعي، إنها علاقة عداء طبقي، لكن مقولة عبد الحكيم قاسم تقوم على التعارف الذي يقترب من الصداقة ومن الحب، لذلك فإن رأي الدكتور فيصل دراج حول الرواية الذي يلخصه عبد الحكيم " أم من قبيل النقد الصارم مقالة فيصل دراج، الناقد الفلسطيني، الذي سماني عبداً، ورواية محاولة للخروج ثقافة عبيد " ، لا ينطبق على الرواية، فهي بعيدة عن منطق السيد والعبد، وربما يعود رأي الدكتور فيصل إلى أن الرواية في ثرثرتها لا تتكلم عن الصدام الحضاري مع الغرب، إنها تتكلم عن شاب مصري وفتاة سويسرية " وجهها هادئ، بدأت آلفه، أتامله بلا توتر، لا أكتشفه، إنما أتأمل ملامح أعرفها، معرفة قديمة ودودة " (ص18)، وهي تتشوق إلى شيء إنسانية كالنظافة والشرف والعدالة ( ص73)، جمعتهما رحلة سياحية، وما جرى بينهما هو ما يجري بين كل شاب وفتاة، علاقة يسعى خلالها الشاب ليتجاوز علاقة الصداقة وتسعى الفتاة لجعل العلاقة في نطاق الصداقة، والانجذاب الجسدي في المقال الروائي هو انجذاب الغريزة لا انجذاب العقل ولا علاقة له بالتواصل الحضاري كما في رواية الرحلة إلى أوروبا، ولنتذكر النهاية المأساوية في رواية الكاتب سليمان فياض " أصوات _1972 " حول اللقاء الحضاري في الريف المصري، حيث تموت الفرنسية سيمون أثناء إجراء عملية ختان حسب الطقوس الريفية.
تدور أحداث رواية " محاولة للخروج " عام 1966، وفي تقديمه للرواية " أنا " يقول الراوي " فقد أصبحت في الثلاثين من عمري ولم أنجز شيئاً، مع العلم أنني كنت دائماً مفعم القلب بالرغبات العظيمة، ولم أقعد أبداً راكداً، ولم أنم إلا قليلاً.. لكن قاهرة يوليو لم تقتل بعد حلمي " (ص5). ثم يقدم قرى مصر:
_ كم هي فقيرة وقذرة هذه البيوت.
نظرت حيث تنظر، البيوت مكدسة ومتداعية وقذة، والناس دؤوبون معلولون كقرية نمل. أحسست بالخجل والقهر، التفت لها..
إنها خير من بيوت الناس في القرى الأخرى.
لم تفهم تماماً فرنسيتي الركيكة، ولكن بنبرة التحدي في صوتي جعلها تجفل وتعلق بسرعة..
_: مساكين.
نكست عيني وأنا أعترف، لكن باعتزاز..
نعم نحن فقراء.
....
لا إنني قروية، أبي مزارع.
حقاً، إنني من قرية أيضاً، أبي فلاح. يمكنك أن تري قريتي، ستحبينها جداً، نحن فقراء، متخلفون، لكن سوف تجدين أشياء لطيفة، مصر ليست القاهرة، إنها الريف " (ص11).
وهذا القروي يقدم نفسه للفتاة السويسرية " أقدم لك نفسي، إنني أعبدك ولا عمل لي " (ص70)، فهو يجد فيها خلاصه " الزبث هي خلاصي " (ص84).
وعبد الحكيم قاسم، والرواية سيرة شخصية، يحب الحياة " ما أجمل الدنيا، ما أجمل أن يعيش الإنسان ألف عام وأن يكون طيباً " (ص91)، وهو يريد أن يتغير نحو الأفضل " كل صباح أقول لنفسي من اليوم سأكون إنساناً آخر، أجمل ساعات يومي هي الصباح لكنها، أعني.. سرعان ما تجرفني الأحداث، الأشياء الصغيرة والضجيج، إن العالم حولي صعب ومروع " (ص47). وعبد الحكيم لا يتعامل مع إليزبث بلؤم الصياد، حتى أن أحلامه يبدو رومانسية " كم حلمت بان تكون لي فتاة لطيفة مثل إلزبث، وأن نمشي معاً في شارع هادئ نتكلم " ولكن حتى في الحلم هناك القهر " كم حلمت، وكم حكيت لنفسي الحكاية وأنا في فراشي أتأهب للنوم، ودائماً كان خاطراً مفزعاً يهاجم الحكاية ولما تكتمل، وأنا أتأمل يقظاناً في تهاويل السقف المخيفة، القهر يخالط دمي ويفسد علي كل شيء مثل مريض الملاريا " (ص93). وهذا القهر الذي في أعماقه يلاحقه في كل لحظات الفرح " يتكلمان عني دون شك، وسوف يتقدمان إلي حالاً ويأمران بالقبض علي، وعندئذ يخرج من كل الجوانب المظلمة مخبرون على وجوههم أقنعة، شراسة مروعة، فإنني متهم بشيء على وجه التأكيد، أغمضت عيني، يفقد كياني تماسكه، يستحيل إلى كمية من رمل ناعم، أغور، أهوي، كأني معلق بين ساعدين حديديين يحملانني ماضيين بي " (ص93). ولكنه رغم ذلك يقاوم القهر، ولا يريد أن يفترس هذا الجنون حياته. وهذا الخوف يلاحف إليزبث، فعبد الحكيم يخيفها أحياناً، وهي لا تستطيع أن تفهمه، إنها لا تعرف متى يضحك ومتى يكون جاداً. وهي تخاف من صديقه الكاتب النوبي الضئيل الجسم:
" _: أليس فيه شيء ما، عذاب ما؟
_: لقد خفت منه.
_: إنه ليس مخيفاً، إنه حزين، كلنا حزانى بشكل أو بآخر " (ص42).
كما أنها تبدي الخوف من الحياة السياسية في مصر " لكن حياتكم السياسية تبدو مخيفة، لا أفهم حقاً " (ص45). و" لم أكن أبداً خائفة هكذا في حياتي " (ص94). حتى أن القاهرة تبدأ في الضغط على روح إلزبث، وبدأت تتغير " وجهها مربد، نحيف، يا إلهي، حينما رأيتها للمرة الأولى في الأتوبيس السياحي، أين ذلك الكبرياء؟ دوائر اللامبالاة حول نهايتي الفم، سحب الدخان المحلقة في كسل، مرغت بهاءها، طمست روعتها بأوحالي، أهذا كل ما كنت اريده؟ لا، لا لم أكن أريد هذا " (ص146). ولكن هل يستطيع عبد الحكيم، هذا الفتى الريفي، كاتب القصة الخجل والمهزوم والعاجز (ص148) أن يغير إليزبث؟ لا بد إن من غيرها هي القاهرة التي تحطم الروح " أوف، فظيع، لم أر مدينة كهذه أبداً " (ص150)، وقالت " وهي تفح فحيحاً مكتوماً: مروعة بلدك هذه، مروعة " (ص151).
وفي القرية يظهر عبد الحكيم أن الفلاحين لم يتخلصوا من الظلم بعد الثورة، وأنها لم تنصف هؤلاء الناس الطيبين:
" هذه الأرض؟
_: تملكها أميرة، لها موظفون يأتون إلى دارنا، نفس المكان الذي كنا فيه منذ ساعة، ويأتي الفلاحون خائفين يلقون أمامهم بنقودهم، قديمة ملوثة بعرق أيديهم، والموظفون يصرخون، وأبي يتوسل، الآن أعطت الثورة الأرض لنا.
_: إن ذلك رائع.
_: لكن لا زال هناك موظفون يصرخون، والفلاحون يتوسلون.
_: إني لا أفهم، لا أفهم شيئاً أيضاً " (134).
ورغم أن محاولة الخروج من هذه المتاهة هي حلم كل شاب " أختي تحتضن ابنها إلى صدرها، تلصق خدها بخده، لكن عينيه ليستا في حضن أمه، مهاجرتان، طائرتان، جناحان محلقان، يا إلهي، لا شفاء، رحلة مقدورة، النداء الآسر، نداهة المتاهة المجنونة الصخب " (126)، فإن عبد الحكيم قاسم في الرواية يفضل الالتصاق بالأرض، بالناس المعذبين:
" _: لماذا تبقى هنا؟
_: علي أن أبقى، لا أدري لماذا، لكن علي أن أبقى " (ص163).
ويحكي لها " عن ناس في قريتي مرضى، في بطونهم جزء تالف، يظل بفرز الماء بلا انقطاع حتى تمتلئ بطونهم، يفرغون هذا الماء لكن بطونهم تمتلئ مرة أخرى.. رأيت كثيراً منهم وأنا صغير، لونهم أصفر وأسود، عيونهم صفراء تماماً وبنية، بطونهم كبيرة جداً، مثقلة بالماء، يجلسون ساكنين بجوار الحيطان ينظرون للعالم نظرات مليئة بالإدانة.. عندي شيء مثل هذا، في روحي جزء تالف، يفرز الماء بلا انقطاع " (ص164).
طبعاً عبد الحكيم ليس قديساً، وفي الجانب الآخر " كم تمنيت أن آتي بها إلى غرفتي لأحردها من ثيابها وأفترسها (ص160)، فهل تمنيات عبد الحكيم في الرواية بما تحمل من العنف هي محاولة للانتقام من أوروبا؟ أو أنها رغبة المجتمع المتخلف للاندماج الحضاري مع المجتمع الأوروبي المتقدم؟ في المقال الروائي تظهر إليزبث مصدومة من تخلف المجتمع العربي، وهي تريد أن تأخذ عبد الحكيم إلى أوروبا كمعادل لأخذ المجتمع العربي إلى الحداثة، لكن بقاء العلاقة في حدود الصداقة وعدم حصول اللقاء الجنسي قد يكون على مستوى المقال الروائي معادلاً موضوعياً لعدم اندماج الشرق المتخلف بالغرب المتقدم، وتبدو الرواية وكأنها لحظة روائية عابرة لذلك الغرب المتطور المتعاطف مع الشرق المتخلف.
وعبد الحكيم، هذا الذي لا يكف عن الثرثرة، يعجز في النهاية عن الكلام " لا جدوى، لا جدوى من أي شيء، رغبتي في الكلام تولد وتموت دون أن تتحقق " (ص155)،
لكن في داخله مجوسي يصرخ " لا، لست متسامحاً، لست متسامحاً ابداً " (ص164)، إنها صرخة إنسان متمرد، صرخة من يريد أن يكون " السيد " لا صرخة من يريد أن يكون " العبد ".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه


.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما




.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة


.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير




.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع