الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شهيدُ الغرام

ضيا اسكندر

2021 / 5 / 25
سيرة ذاتية


طرقاتٌ قويّةٌ متسارعةٌ على الباب ببراجم يدٍ ثقيلة، جعلت فؤادي يهبطُ إلى أمعائي. تُرى، من سيكون غير المخابرات في خبطاتهم الهمجية تلك؟! تبادلنا النظرات المرتابة أنا وزوجتي هُنيهةً، ومضيتُ نحو الباب وأنا أزدردُ آخر ما تبقَّى من لعابي. وبيدٍ مرتجفةٍ فتحتُ الباب، لأفاجأ بصديقي أيمن؛ زميلي في الشركة التي أعمل بها. التفتَ خلفه باضطراب وكأنَّ أحداً ما يطارده، واندغرَ داخلاً بيتي دون أيّ تحيّة أو كلمة! رحّبتُ به بكلماتٍ قليلة، مندهشاً من سرّ حالته وسبب هلعه، وأنا أراقب وجهه المخطوف المتوتّر الذي ينمُّ عن وضعٍ ينذرُ بأفظع المخاطر. فأجاب بذعر، بأن ثمّة رجالاً يركضون خلفه بالشارع ليُمسِكوا به من أجل إجباره على الزواج من فوزية!
همدَتْ هواجسي دفعةً واحدة، وأدركتُ فوراً فداحة الحالة النفسية التي وصل إليها. ورجَوته التحلّي بالهدوء والجلوس. وطلبتُ من زوجتي إحضارَ كأسٍ من الماء ليبلَّ ضيفنا ريقه. هرعت زوجتي إلى المطبخ، وهي الأخرى تلبّستها مشاعر الحيرة والجزع، من هذا المشهد الذي لم تألفه سابقاً من صديقنا أيمن. فالجميع يعرف قصته الغرامية مع فوزية.
قلت له وأنا أضيّفه سيجارة مدارياً حالته المزرية:
- لِمَ كلّ هذا الخوف يا أيمن؟ ألمْ تكن أمنيتك وما زالت، هي الزواج من فوزية؟! ها هم ذووها يتوسّلون إليك القبول بها. عليك أن تفرح لا أن تهرب منهم!
أجاب بكلماتٍ متلاحقة وهو يلهث بعد أن مجَّ سيجارته بأقصى ما تتسع إليه رئتاه:
- أخشى أن يكون فخّاً لقتلي.. لا أثق بهم إطلاقاً.
ثم نهض متّجهاً صوب الباب بحذر، وتسمّر على العين الساحرة يراقب مدخلَ البيت، وهو يتمتمُ بكلماتٍ غير مفهومة.
تُرى، هل فقَدَ صديقي عقله ووقع ضحيّة الحبّ؟
* * *
أيمن رجلٌ في العقد الخامس من عمره، متزوج وأبٌ لخمسة أولاد. لم يعرف الحبَّ في حياته كلّها. ولديه تَوْقٌ أسطوريٌّ لمعايشته بأيّ شكل. فقد تزوّج كما هو حال غالبية أبناء القرى عندما أصبح في سنﱢ الزواج. وانتقل إلى المدينة وتوظّف في شركة حكومية مكافأةً له من السلطات، بعد أن نجا بأعجوبة من محاولة اغتيال تعرَّض لها من قِبل جماعة الإخوان المسلمين. حيث قاموا بإطلاق النار عليه في قريته، وأصابوه بعدة رصاصات في بطنه وفي عنق فخذه. تمَّ إسعافه إلى المشفى وخضع لعدّة عمليات جراحية. وكانت النتيجة عاهة دائمة في رجله اليسرى سبّبت له ضموراً وعجزاً، وبات يعرجُ بوضوح لدى سيره.
وفوزية صبيّة في العقد الرابع من عمرها. من عائلة ميسورة مالياً. لم تتزوج بسبب افتقارها إلى الجمال. موظفة في ذات الشركة، بل في ذات القسم الذي يعمل فيه صديقنا أيمن. وتشاء الظروف أن يبدأ الغزل بينهما تدريجياً، وصولاً إلى هُيام أيمن بها لدرجة الهوس. فهذه الحالة العاطفية لم يعشْها سابقاً. وكأنه يريد أن يعوّض كل ما فاته من حلاوة الغرام التي سمع عنها بهذه العلاقة.
وفوزية تريد زوجاً لتحطّمَ جدران العنوسة التي بدأت تشرئبُّ من حولها. وترغب بالأمومة كغيرها من النساء. وفي أسوأ الأحوال، فهي بحاجة لرجلٍ يذكّرها بأنوثتها التي أخذت بالأفول. ووجدت ضالَّتها بأيمن. لكن تردّدها بشأنه كزوج، كان ينيخ على صدرها؛ فهو متزوج، وفقير، وأعرج، ولا يمتلك وسامة الرجال كما تتمنّى.. وفوق كل ذلك، ملحد والعياذ بالله! لذلك، كلما طرح عليها فكرة زيارتهم لطلب يدها، كانت ترفض، مدّعيةً بأنها لا تنظر إليه إلّا كزميل، ولا تفكر بالزواج منه إطلاقاً. وعندما يقتنع ويقبل بالتخلّي عنها، كانت تستميله ببعض الحركات الماكرة، وتستدرجه مرةً أخرى إلى ساحتها. فهي بأمسﱢ الحاجة له، كونه الوحيد من عالم الرجال الذي اهتمَّ بها وأحبَّها.. فوجوده في حياتها على علّاته، خيرٌ من جحيم غيابه. وبقيت علاقتهما على هذه الحال أشهراً عديدة.
باح لي بمكنوناته العاطفية تجاه فوزية. وبأنه يحبها إلى درجة العبادة. وصار مدمناً على السهر، ونومه متقطّع، وشهيّته للطعام ضعيفة. ويسمع يومياً أغاني أم كلثوم. دائماً يسرح بمخيّلته في تذكّر محبوبته كناسكٍ لا ينفكّ عن التسبيح بخالقه. حتى أنه في إحدى الجلسات قال لي وهو ينظر سادراً إلى البعيد: «هل تصدّق بأنني لا أتخيّل فوزية تدخل إلى التواليت كبقية البشر؟!» وأضاف متابعاً: «قد تقول عنّي: أيمن رجلٌ شرّير! لأنني أتمنّى أن تُصاب بمرضٍ ما، يستدعي حاجتها لمتبرّعٍ بالدَّم أو بكلية، لأقوم بإنقاذها إثباتاً منّي لحبّي العظيم لها؟!». وكثيراً ما كان يحتفظ بأغلفة الشوكولاتة التي كانت تضيّفه إيّاها فوزية، وكذلك الأمر المناديل الورقية. فيُخرجها من جيوبه ويلثمها كالمخبول بين الحين والآخر. ولشدﱢ ما كان يطرب مصفّقاً براحتيه، ضاحكاً ببراءة طفل، عندما يسمع منّي أيّ عبارة إعجاب، أو مديح، لحالته الرومانسية الاستثنائية في هذا العصر. فتراه يعرجُ مهرولاً بقامته النحيلة وطوله الفارع والسعادة تنضح من وجهه، ليقدّم لي أيّ شيء بحوزته معبّراً عن فرحته. تارةً يلحُّ عليّ بقبول سيجارة أجنبية منه، أو يهرع ليشتري لي سندويشة فلافل من محلّ قريب، ويعود بسرعة وهو يصيح من أعماقه بمرح عبارته الأثيرة: «لكْ لعْيونك..!».
ومع مرور الأيام بدأ يهلْوس، ويتصرّف بغرابة. وهو المشهود له برجاحة العقل والاتزان والرأي الحصيف. زرتُه مرّاتٍ عديدة في بيته للتخفيف عنه. واستقبلته عشرات المرات في بيتي. والحديث الأوحد الذي لم يعدْ بمقدوره الابتعاد عنه هو علاقته بفوزية. وغالباً ما كنت أثنيه عن فكرة الزواج. موضّحاً له بأنه مقبرة للحبّ. وأن استمرار علاقتهما على حالها، أفضل لكليهما. لكنه كان يخالفني الرأي، ويصرُّ على المضيّ قُدُماً في هذه التجربة الفريدة في دنياه، إلى أن يحققَ رجاءه في الزواج. وازدادت حالته سوءاً، وبدأ يذوي كورقة خضراء في لفح الشمس، إلى درجة أنه أخذ يفكّر بالانتحار. ليتخلَّص من وحشته المسوَّرة بإحساسٍ مُهين. فالحياة بدون فوزية لا معنى لها إطلاقاً.
أمام تردّي أوضاعه النفسية إلى هذا المستوى، خفتُ عليه. فهو من أعزﱢ الأصدقاء. لذلك قرّرتُ التدخّل. وطلبتُ من فوزية لقاءً خاصاً كوسيطٍ بينهما، بعد الاستئذان من أيمن. وقد استجابت لفكرة اللقاء. قلت لها بعد مقدّمة كان لا بدّ منها، بأنني وبحكم زمالتي معها، وصداقتي القوية مع أيمن، أسمح لنفسي أن تصغي إلى ما سأقوله، وتعمل على تنفيذ اقتراحي إن هي قبلت به. لأنني لا أبتغي من وساطتي إلّا الخير لهما. رحَّبت فوزية وطلبت مني إفراغ ما في جعبتي فقلت:
- تعرفين يا آنسة كم أنت عزيزةٌ عليّ، وكم أكنُّ لك من التقدير والاحترام. وكذلك الأمر صديقي أيمن. وليس سرّاً بأنه يحمل لك من المشاعر الودّية ما يعجز اللسان عن وصفه. فإذا كنتِ لا تبادلينه ذات المشاعر، ولا ترغبين الارتباط به كزوج، وهذا حقّك، أتمنّى عليك برجاء، الانتقال إلى قسم آخر في الشركة، لتبتعدي عن ناظِرَيه. فتخفُّ لهفته تدريجياً، وتخمدُ عواطفه، ويعودُ إلى رشده. فقد أصبح على حافَّة الجنون..
أجابت وكأنها كانت تدركُ ما أنا قادمٌ إليه، وقد حضّرت ردَّها بعناية قائلةً:
- بدايةً، أشكرك على وساطتك الخيّرة. وأعرف مدى حبّك لصديقك أيمن. ولكن، لنفترض أنني شقيقتك، وجاء رجلٌ يطلبُ يدي بصفات أيمن، هل كنت تقبل به صهراً؟ صحيح أنه طيب وشهم وكريم و.. لكنه باختصار ليس طلبي. ويستحيل عليَّ التفكير به كزوج. أمَّا بخصوص انتقالي إلى قسمٍ آخر، فهذا أمر لا يمكن أن أفكّر فيه بتاتاً. فكما تعلم، دوامي قصير، وطبيعة عملي سهلة، وبيتي قريب.. ولا مصلحة لي إطلاقاً بالتخلّي عن كل هذه المزايا، إكراماً للسيد أيمن. فلْينتقلْ هو إذا أراد.
وانتهى اللقاء دون أن نصلَ إلى نتيجة.
سارعتُ لزيارة أيمن في بيته لوضعه بصورة ما جرى. كان متلهفاً لسماع مجريات الحديث الذي دار بيني وبين محبوبته فوزية. وبعد انتهائي من ذكر التفاصيل. اقترحتُ عليه تركها وشأنها والإقلاع عن التفكير بها نهائياً. اجتاحه شحوبٌ مفاجئٌ وابتلع ريقه. أغمض عينيه برهةً ثم نظر إليّ بصمت واجماً منكسراً. بدا لي أنه شاخ خمس سنوات في غضون خمس دقائق. غطسنا في صمتٍ عميق، نتبادل نظرات خاطفة، دون أن ندري ماذا نقول. ثم قام متمهّلاً يعرج في غرفته. أشعل سيجارة. سحب منها أنفاساً نهمة. ذهبَ وأتى. وقف إلى خزانته وأخرج منها غليوناً سبق أن أبديتُ إعجابي به، وقال بصوتٍ ينمُّ عن عذابٍ دفين: «اتركْه معك ذكرى منّي». وعاد ليستلقي على السرير. وقد اكفهرَّ وجهه وبدا ممتقعاً، وكأنه عقد العزم على القيام بفعلٍ كبير. ما جعل صدري يضجُّ بالقلق. تُرى، لماذا أهداني غليونه؟! وما هي دلالة ذلك؟!
ودَّعته مغادراً وهو في ذروة بؤسه العاطفي. وأنا مسربلٌ بالإحباطِ والتوجَّسِ من المصير الذي ينتظر هذا العاشق المهجور. العاجز عن أن يجعل قلبه يخفقُ مع قلبِ فوزية.
خرجتُ من بيته كئيباً تتلاطمني رياحٌ خريفية شديدة وسط ظلامٍ بارد، وأنا أغذُّ السير مغادراً الحيّ البائس عند الطرف الشرقي من المدينة. الذي كان يأمل أيمن التخلّصَ منه والالتحاق ببيت فوزية، والعيش معها في حيّها الراقي في مركز المدينة.
وقفتُ في منتصف الشارع الخالي من المارّة، واستدرتُ ملقياً نظرةً أخيرةً على بيت صديقي. ألْفيتُ الستارة التي تحجبُ شرفته تصطفقُ مهتاجةً بعنف. وكأنها غاضبة من خَطْبٍ جللٍ وشيكٍ تأبى وقوعه. أغمضتُ عينيّ على حزنٍ لم أعرفه من قبل. واعتزمتُ العودة إلى بيتي الذي يبعد أكثر من نصف ساعة، سيراً على الأقدام.
في اليوم التالي كان خبر انتحار أيمن بطلقٍ ناريّ من مسدّسه على صدغه الأيمن، حديث الشركة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الإنفاق العسكري العالمي يصل لأعلى مستوياته! | الأخبار


.. لاكروا: هكذا عززت الأنظمة العسكرية رقابتها على المعلومة في م




.. ألفارو غونزاليس يعبر عن انبهاره بالأمان بعد استعادته لمحفظته


.. إجراءات إسرائيلية استعدادا لاجتياح رفح رغم التحذيرات




.. توسيع العقوبات الأوروبية على إيران