الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بانوراما المصالحات التركية العربية

جاسم ألصفار
كاتب ومحلل سياسي

(Jassim Al-saffar)

2021 / 5 / 27
مواضيع وابحاث سياسية


24-05-2021
شرعت تركيا ربيع هذا العام في مسار إعادة ضبط الجوانب المختلفة للعلاقات الثنائية والمتعددة الأطراف إقليميا، خاصة مع الدول العربية. وتجلى ذلك في عدة مجالات للحد من التوتر الإقليمي المتولد عن حالة التناحر المتصاعدة منذ فترة طويلة نسبيا، مع المملكة العربية السعودية ومصر وسوريا. إضافة الى علاقاتها غير المستقرة مع العراق. فما هي دوافع السياسة الخارجية التركية الجديدة، وهل أن انقرة مقبلة على ترتيبات طويلة الأمد متبنيةً لخيار العودة الى علاقات المصالح مع دول المنطقة، أم هي خطوة تكتيكية استباقية للالتفاف على الرؤيا الجديدة لإدارة بايدن في التعامل مع ملفات الشرق الأوسط؟
لنبدأ بمصر، حيث أدى الانقلاب العسكري في مصر عام 2013 بقيادة عبد الفتاح السيسي وازاحة الاخوان المسلمين عن السلطة إلى فتور حاد في العلاقات المصرية التركية. منذ ذلك الحين والعلاقات المصرية التركية تشتد في توترها وتتسع رقعتها الجغرافية لتشمل دول أخرى ولاعبين اقليميين اخرين. دخلت القاهرة وأنقرة في مواجهة مباشرة في موقفيهما من الازمة الليبية، وتنمية الموارد المعدنية في شرق البحر المتوسط، والمشكلة الفلسطينية، وغيرها. في الوقت نفسه، كان العامل الرئيسي الذي أزعج السلطات المصرية هو الدعم النشط من قبل القيادة التركية لتنظيم الإخوان المسلمين الذي يخوض صراعا دمويا مع نظام السيسي في مصر.
وفقا لذلك، لم يكن من الممكن التنبؤ باي انفراج قريب للعلاقة بين مصر وتركيا، لذا فالإنعطافة التركية نحو مراجعة العلاقات الثنائية مع مصر من أجل تحقيق انفراج فيها، كانت مفاجأة للخبراء والمهتمين في قضايا الشرق الأوسط. وكانت تصريحات وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو بشأن استئناف الاتصالات بين أنقرة والقاهرة على المستوى الدبلوماسي، التي أدلى بها في 12 مارس 2021، نقطة الانطلاق لمناقشة كاملة للملفات الرئيسية في العلاقات المصرية التركية.
وجدت مبادرة تركيا تعبيرًا عمليًا لها في أوائل شهر مايو من هذا العام، عندما وصل إلى القاهرة وفد من كبار المسؤولين الأتراك برئاسة نائب وزير الخارجية سيدات أونال، على خلفية تصريحات ممثلي حزب العدالة والتنمية الحاكم بأن البرلمان التركي وافق بالإجماع على تشكيل لجنة داخلية برلمانية للصداقة مع مصر. وتعزيز هذا التوجه بتصريح المتحدث باسم حزب العدالة والتنمية عمر جليك على أن بلاده تعمل على تشكيل آليات جديدة لمناقشة مشاكلها مع مصر.
وتشير وسائل الإعلام العربية إلى أن المساعي الدبلوماسية الكبيرة التي بذلتها تركيا أثمرت عن استعداد القيادة المصرية للحوار حول أكثر القضايا إلحاحًا في العلاقات المصرية التركية. على وجه الخصوص، يُذكر أن المحادثات بين الطرفين تمحورت حول أربعة جوانب أساسية: إعادة العلاقات الدبلوماسية، والتنسيق في الصراع الليبي، والتعاون في شرق البحر الأبيض المتوسط ، فضلاً عن الموقف من دعم تركيا للإخوان المسلمين وموقف مصر فيما يتعلق بحركة فتح الله غولن.
وفقًا لجدول أعمال المفاوضات التي جرت بين مصر وتركيا بداية شهر أيار في العاصمة المصرية، يراعي الطرفان مصالح كل منهما في جميع القضايا المشتركة والحد بشكل كبير من احتمالية حدوث تدخل عسكري أكبر لجيوش الدولتين في الصراع الليبي، والحرص على أن يسهم الموقف المشترك للقاهرة وأنقرة بشأن ليبيا في الترسيم المبكر للحدود البحرية بين دول شرق البحر الأبيض المتوسط ، وكذلك دخول تركيا في منتدى غاز شرق المتوسط وحل النزاعات البحرية القائمة والبدء في أقرب وقت ممكن بتطوير رواسب الهيدروكربون دون عوائق.
وتجدر الإشارة بصورة خاصة إلى أن اتفاق الطرفين على وقف الحملة الإعلامية، غير الودية، المتبادلة، أصبح إلى حد ما قاطرة جميع الخطوات الأخرى لتحسين العلاقات الثنائية. ووفقا لذلك أعطت الحكومة التركية تعليمات بتعليق جميع البرامج السياسية في وسائل الإعلام المرتبطة بجماعة الإخوان المسلمين والموجهة ضد الرئيس عبد الفتاح السيسي والتي اعتبرتها القاهرة استعدادًا لاستئناف حوار شامل. ووصف رئيس وزارة الإعلام المصرية، أسامة هيكل، هذه الخطوة بأنها "لفتة طيبة من تركيا".
بالإضافة إلى مصر، بدأت تركيا في مراجعة العلاقات مع المملكة العربية السعودية، التي تدهورت بعد دعم أنقرة الصريح لقطر في نزاعها مع دول الخليج الأخرى، وكذلك فيما يتعلق بمقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي. وتلى التدهور في العلاقات السياسية تدهورا تاما في العلاقات الاقتصادية بين البلدين، وكما ذكرت صحيفة "زمان" التركية أن "صادرات تركيا إلى السعودية تراجعت إلى الصفر تقريبًا بعد أن فرضت المملكة حظرًا غير رسمياً على البضائع التركية". ثم جاءت الأحداث الليبية لتزيد الأزمة تعقيدا، وتحول دون أي فرصة للحوار بين البلدين.
أصبح عدم تسييس قضية خاشقجي نقطة أساس لتطبيع العلاقات الثنائية في المحادثات بين وزيريَ خارجية تركيا والسعودية في الرياض، والتي جرت في 10 ايار من هذا العام. مهد لذلك تصريح السكرتير الصحفي للرئيس التركي إبراهيم كالين، الذي رحب بالمحاكمة التي أجرتها السعودية للمتهمين بقتل خاشقجي عام 2018 في اسطنبول، والتي بنتيجتها حكمت المحكمة على ثمانية أشخاص بالسجن لمدد تتراوح بين سبعة وعشرين عامًا.
وفي نفس السياق، اعترف وزير خارجية تركيا مولود جاويش أوغلو بأن العلاقات مع الرياض كانت جيدة قبل اغتيال خاشقجي، وأن الخلاف، برأيه، نشأ في سياق "السعي لتحقيق العدالة وتقديم كل المسؤولين عن الجريمة إلى المحاكمة". وشدد جاويش أوغلو على أن تركيا لا تربط الجريمة بأي شخص من القيادة الحالية للمملكة. كان هذا تحول كبير في الموقف التركي بعد أن انتقدت أنقرة بشدة الإجراءات القانونية السعودية ضد المشتبه بهم في مقتل خاشقجي.
فيما يخص العلاقات التركية مع جارتيها العراق وسوريا، فهناك حقيقة لا يمكن تجاوزها وهي أن تركيا تضع علاقاتها مع الدولتين الجارتين، في سياق مصالحها أولا والملابسات الإقليمية والدولية المؤثرة بالشأنين العراقي والسوري ثانيا. تركيا تعي طبيعة العلاقات التي تربط إيران بالدولتين وانعكاسات ذلك على الموقف الأمريكي. فمع أن إدارة بايدن لا تتعامل بود مع النظام التركي الا انها تدرك أهمية الدور التركي في كبح جماح الطموحات الإيرانية في كلا الدولتين وخلق توازن مصالح إقليمي ينعكس إيجابيا، حسب الفهم الأمريكي، على موازين القوى المحلية.
من جهة أخرى، تدرك تركيا أن هاجس الخوف عند البلدين على وحدة أراضيهما واكتمال سيادتهما عليها، ليس مصدره الوحيد وجود القوات التركية على أراضيها، كما أن الاهتمام العراقي والسوري في العلاقة مع تركيا ينصب بالدرجة الأولى على تأمين مصادر المياه، مما يجعلهما حريصتين على وجود علاقات دبلوماسية طبيعية مع تركيا. لذا فتحسن العلاقات التركية العراقية الذي لوحظ حتى بداية هذا العام لم يمنع تركيا من تنفيذ أجنداتها بفرض معادلتها الأمنية في العراق.
وتستند هذه المعادلة، التي بدأت أنقرة بالفعل في تنفيذها على الأرض، إلى تحويل الأراضي العراقية إلى خط أمامي للأمن التركي وساحة معركة لحرب تركيا ضد مقاتلي حزب العمال الكردستاني. وأنقرة لا ترى سبيلا لفرض معادلتها الا القوة، من خلال تكثيف عملياتها العسكرية وتوسيع نطاقها داخل الأراضي العراقية.
في الوقت نفسه، تراهن تركيا على إمكانية تحقيق تقدم في التفاهمات مع حكومة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي بالتعاون والاتفاق بشأن موضوع الموارد المائية. ومن جهتها أعربت حكومة الكاظمي عن أملها بالتوصل إلى اتفاق دائم وواضح مع تركيا بشأن الموارد المائية. لذا أعلن وزير المياه العراقي مهدي رشيد مؤخرًا عن أن بلاده سلمت رسميًا لتركيا بروتوكول التعاون المائي، والذي وافق عليه مجلس الوزراء العراقي مؤخرًا. ويتضمن بروتوكول التعاون اقتراحا بالتصريف المنتظم للمياه التي يريدها العراق من نهر دجلة.
العراقيون لا يستبعدون أن تسعى حكومة حزب العدالة والتنمية الإسلامي في تركيا، المعروفة بميولها الانتهازية، إلى الضغط على العراق للموافقة على إنشاء قواعد عسكرية تركية على أراضيه مقابل حصة من الموارد المائية التي طلبتها حكومتها.
يخشى العراقيون، وخاصة الأكراد، أن يعكس التدخل التركي في العراق طموحات أنقرة في الغزو الإقليمي، كما حصل في سوريا، حيث تسيطر أنقرة على جزء كبير من شمال وشرق سوريا بذريعة ملاحقة الجماعات الكردية المسلحة التي تعتبرها أنقرة منظمات إرهابية. وقد أفادت مصادر عراقية أن الخطوط العريضة للمنطقة الآمنة التركية بدأت تتشكل داخل الأراضي العراقية، حيث تتوقع ألا تنسحب تركيا من مناطق عملية "مخالب النمر".
تهدف أنقرة إلى تعميق التعاون مع بغداد وأربيل لتوسيع عملياتها العسكرية ضد حزب العمال الكردستاني، ليس فقط في جبال قنديل في شمال شرق العراق، ولكن أيضًا في سنجار في الشمال الغربي،" قال عضو سابق في البرلمان التركي أيكان إردمير، مدير البرنامج التركي في المؤسسة الأمريكية للدفاع عن الديمقراطيات في تصريح لصحيفة روسية أن " أنقرة تعول على زيادة وجودها بالقرب من الحدود العراقية السورية من أجل "إحكام قبضتها الخانقة" على مناطق شمال شرق سوريا المجاورة. والتي يسيطر عليها تحالف غير حكومي موال للولايات المتحدة، وعموده الفقري هو الجماعات شبه العسكرية الكردية الذين تتهمهم أنقرة بأنهم مقربون من حزب العمال الكردستاني".
وقال إردمير: "تشعر الحكومة التركية بالحاجة إلى تحقيق هذه الأهداف بشكل عاجل قبل أن تبدأ إدارة بايدن في تكريس المزيد من الوقت والطاقة للمنطقة". حيث يعتقد أردوغان أن بايدن شخصية مؤيدة للأكراد، لذا من المرجح أن يعامل تركيا بقسوة أكثر من ترامب. وبالتالي، فإن أردوغان مهتم بترسيخ وقائع على الأرض قبل أن تغير إدارة بايدن الحسابات لصالح الأكراد العراقيين والسوريين والأتراك على حساب الكتلة الحاكمة الإسلامية القومية المتطرفة في تركيا.
المبادرات التركية واجهت حتى الان ردود فعل متحفظة وكلمات عامة من مصر والمملكة العربية السعودية والعراق وسوريا. ويكمن عدم التحمس للمبادرات التركية في عدم وثوق تلك الدول بدوافع أنقرة التي يرونها بالشكل التالي:
أولاً، أدركت القيادة التركية أخيرا عدم قدرتها على تحمل التكلفة الباهظة للسياسة الخارجية الإقليمية المفرطة في النشاط والعدوانية. والتي كان من تبعاتها وضع اقتصادي شديد الصعوبة في البلاد، تفاقم بسبب جائحة فيروس كورونا، وأدى بالتالي إلى إضعاف شعبية حزب العدالة والتنمية في تركيا. وأن الازمة الاقتصادية الداخلية هي التي تدفع الحكومة التركية إلى الاعتدال في طموحاتها الإقليمية وتبني مواقف أكثر انفتاحًا ودبلوماسية في التعامل مع الدول الإقليمية.
ثانيًا، يبدو أن الرئيس أردوغان توصل إلى قناعة (ربما مؤقتًا) بأن "الإسلام السياسي" الذي تبناه ودعمه بعد ثورات "الربيع العربي" غير قادر على تغيير الأنظمة القائمة في مصر والسعودية وسوريا وليبيا ودول أخرى في المنطقة. وفقًا لذلك، اضطرت تركيا لتعديل تكتيكاتها فيما يتعلق بجيرانها مع الحفاظ على الطموحات الاستراتيجية للقيادة التركية الحالية.
ثالثًا، تسعى تركيا لتسريع عودة حليفها الرئيسي قطر للعب دور بارز في المنطقة. ففي قمة مجلس التعاون الخليجي التي عقدت في يناير 2021 بين قطر والسعودية والإمارات والبحرين ومصر، تم التوقيع على "بيان المصالحة". وكانت هنالك ملاحظات خلافية وجهت للدوحة تدور حول التعاون القطري التركي الوثيق. وبالتالي، فإن تغيير موقف عدد من اللاعبين الإقليميين تجاه تركيا سيسهم بالتأكيد في استعادة مكانة قطر بعد عزلتها السياسية والاقتصادية الطويلة.
رابعًا، تهتم أنقرة بشكل حيوي بالبدء المبكر في انتاج الطاقة في البحر الأبيض المتوسط، مما سيخفف من مشاكل البلاد الاقتصادية ويزودها بالغاز لمدة عشرين عامًا على الأقل. في الواقع الاقتصادي الحالي، يعد هذا الهدف أحد الأولويات لإبقاء الدولة واقفة على قدميها في إطار طموحات قيادتها الحالية السياسية الداخلية والخارجية.
خامساً، إن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مثقل بخطاب الإدارة الأمريكية الحالية، واخره اعتراف واشنطن بالإبادة الجماعية للأرمن في عهد الإمبراطورية العثمانية. منذ وصوله إلى السلطة، انتقد جوزيف بايدن بانتظام أردوغان، متهماً إياه بقمع المعارضين وتحجيم دور منظمات المجتمع المدني.
وهكذا، بدأت أنقرة، وإن كانت مضطرة، مرحلة جديدة "بتصفير" مشاكلها مع دول الاقليم. مصر والسعودية تريدان أيضًا طي صفحة الماضي مع تركيا. العراق، رسميا، اكتفى ببيانات احتجاج على غزو أراضيه غير معززة بأي فعل، أما سوريا فلم تتفاعل بشكل واضح بعد مع إشارات طيبة في الاعلام التركي. ومن الواضح أن هذه الدول العربية سوف لن تقم بأي خطوة جدية مقابلة ما لم تتلمس وضوحا في موقف القيادة التركية تتحدد فيه مدى جدية نواياها وما إذا كانت مبادرتها ليست مؤقتة ولا هي مناورة لاسترداد الانفاس. في النهاية، من الواضح حتى الان هو أن تركيا في هذه المرحلة تسعى لحوار مصالح لا لحوار ثقة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. انطلاق معرض بكين الدولي للسيارات وسط حرب أسعار في قطاع السيا


.. الجيش الإسرائيلي يعلن شن غارات على بنى تحتية لحزب الله جنوبي




.. حماس تنفي طلبها الانتقال إلى سوريا أو إلى أي بلد آخر


.. بايدن يقول إن المساعدات العسكرية حماية للأمن القومي الأمريكي




.. حماس: مستعدون لإلقاء السلاح والتحول إلى حزب سياسي إذا تم إقا