الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سردية الوهم والدم

أم الزين بنشيخة المسكيني

2021 / 5 / 27
الادب والفن


في "كعبة جهيمان" لعبد الحليم المسعودي

"حقائقنا أوهام نسينا أنّها كذلك" (نيتشه)



"كعبة جهيمان" مسرحية تاريخية تراهن على تغيير سياسات الذاكرة في ثقافة صار فيها التاريخ إلى ركح كبير لصناعة الوهم ..وهو ركح ينضّده المسعودي على امتداد خمسة عشرة لوحة ينصّبها في قلب الصحراء العربية، مانحا هذا القحط المظلم حقّ الخروج إلى الضوء. لكنّ أيّ ضوء نحتاجه كي نبصر بما يحدث في العتمة بين صحراء الجغرافيا وصحراء القلوب؟ إنّ العتمة هنا ليست درجة ضوئية ضعيفة فقط بل هي حيرة سردية بين ضوء لا يكفي ونور لا يصل ..فأضواء ركح هذه المسرحية كلّها خافتة تدفعك إلى التمييز بين الضوء والنور...ألعاب الضوء والنور هي كألعاب الجوع، جوع هائل إلى تشغيل جهاز الوهم من جديد، في دول لم تستطع فيها الحقيقة أن تصل إلى أيّ مكان..تلك هي حكاية جهيمان الذي عاد من أجل زعزعة أمن الله الإسلامي التقليدي- الداعم للعروش هناك- بأسطورة المهدي المنتظر في عصر ما بعد ديني وما بعد علماني معا ... من أجل ذلك انتصب الضجيج اللاهوتي في ثوب جديد كي "يتطهّر من الوهم بالدم" (278).. هنا يولد الوهم في ضرب من التهكّم الأسود من آلام ضرس جهيمان وبُصاقه معا..ضرس هو بمثابة عقل نخره السوس فصار يهذي مردّدا "لا دواء للكعبة إلاّ الهدم، لا دواء للكعبة إلاّ الردم، الكعبة ضرسي النّخرة"(ص.176). إنّ الوهم، وهم الخلاص اللاهوتي أشبه بضرس أتى عليه السوس..لكن التخلص من هكذا ضرس يقتضي الدخول في تجربة من الألم والهذيان الجماعي الذي قد يحتاج إلى وقت طويل يكون فيه السرد مجازا للعبور، أو طريقة في منح الزمان شكله المناسب..
إنّ كعبة جهيمان عاصفة سردية دموية في قلب الحرم المكي الذي مرّت به عواصف شتّى عبر التاريخ "عاصفة الفيل، وعاصفة المنجنيق، وعاصفة القرامطة.." وعاصفة جهيمان نفسه..هذه المسرحية تأريخ لآخر العواصف التي هدّدت ولا تزال بتمزيق ستائر الكعبة كآخر ما تبقى من الله الإسلامي في صحراء العرب..ورغم ذلك "ليست ستائر الكعبة بمهمّة إذا مُزّقت، المهمّ أنّها لا تمزّق القلوب". (ص.273) ..لكنّ الستائر والقلوب مُزّقت والأرواح هُدرت وحصل المحظور..فهل ثمّة من ينقذ وجه الله من التحوّل إلى بندقية؟..أيّ معنى للخلاص عندئذ؟ هكذا يسأل الطفل التونسي إسماعيل كآخر الشخصيات ظهورا "هاي، يا عبدو بامبا...هاي يا بامبا..المهدي متى سيظهر؟" يجيبنا المسعودي في نحو من المراوغة الفاتنة بالأمل على لسان عبدو مليك "ليس بعدُ، ليس بعدُ انظر إلى ساعتك لا يزال هناك متّسع من الوقت"..(287)..ولكن عقارب الساعة في هذا الركح تدور عكس الزمن.. أيّ معنى للزمنية العربية حينئذ؟ هل يمكن لملّة ما أن تسير نحو النور وهي تعدل ساعتها عكس الزمن التاريخي؟ هل يمكن للذين يتشبثون بوهم الخلاص الديني الانتماء إلى سرديات المستقبل؟ ما الفرق حينئذ بين القيامة والمستقبل؟
إنّ كعبة جهيمان تبدو اذن بمثابة نصّ فلسفي بامتياز يحرج الركح التقليدي بقدرته الساحرة على هندسة التسآل ومسرحة الأفكار والأحداث واللعب بالاستعارات المستحيلة والمواقع الأكثر خطرا. إنّنا إزاء نصّ مسرحي يزعزع كل تقاليد الفرجة، بل هو يدمّر الركح ويحوّله إلى لوحة تنثر صمتها وضجيجها ووكوتها الميتافيزيقية في واد غير ذي زرع. لا نحتاج إلى متفرّجين لأنّ الصحراء تنمو وحيدة بقدرتها على تحويل الكثبان إلى عواصف رملية تشوّش الرؤية وتدفع أحيانا إلى الاختناق..ولا يطلب العابرون من الصحراء شيئا غير إضاءة خفيفة وبعض القهوة..

1)لعبة الضوء والظلام : في عتمة الروح..
يمتدّ النصّ السردي لكعبة جهيمان على خمسة عشر لوحة تبدأ بالضوء الخافت وتنتهي بالظلام..وبينهما هرج ومرج وضياع وعطب في كلّ شيء :عطب في عجلة سيّارة لندروفر التي تقلّ البعثة الأمريكية التي يترأسها أبراهام ومعه أوليفيا وسارّة . وعطب في ساعة الطفل اسماعيل..عطب في عقل جهيمان الذي وصل به الوهم إلى التجرأ على التلويح "بهدم الكعبة" وتحويلها إلى باحة لإطلاق الرصاص وزهق الأرواح ..كل الشخصيات معطوبة أيضا : الشيخ العنيكب الداعية ضرير، راكان أخرس..جهيمان ضرسه نخره السوس..العجلان يشكو من "المثانة والبواسير والضغط" (56)..حمادي بسباس التونسي أعرج (ص.41).. أوليفيا فاشلة عاطفيا وهاربة من حبيب مدمن على الكحول كان "يشبعها ضربا" (83).. وكذلك أرغمها إبراهام "على الإجهاض" (84).. وسارة "العاقر"(85).و"مانكينات نسوية عارية بعضها مكسور الأذرع والبعض الآخر مقطوع الرأس". (171). في هذا الركح الكبير الكلّ بلا رأس ...الكلّ يركب اللغة من جهة الضجيج..الكلّ يتحدّث ..كلّ وقصّته..لكن لا أحد يملك حياة يومية.. لا أسواق ولا مدينة ولا حديث عن الأكل أو الشرب..رغاء الإبل وهذيان جهيمان وتلعثم راكان الأخرس..هرج وشتم وسعال الشيخ الضرير.. وسباب وعراك منذ اللوحة الثانية بين غلام الباكستاني ورسلان حول هرّة..في هذا الركح تتحوّل بيت الصلاة إلى "حظيرة تيوس" (39)..ليس ثمّة من ينظر ولا من يفكّر ولا من يفهم..وجهيمان سيدهم لا يعرف القراءة ولا الكتابة..إنّ المسعودي قد هيّأ لنا بحنكة سردية غير مسبوقة ركحا عالمه انهار منذ وقت طويل..لكن خبر انهياره لم يصل إلى أسماع سكّانه بعدُ..
تبدأ المسرحية على إيقاع "عزف مكتوم لقيتارة غجرية" وتنتهي على إيقاع "أصوات الرصاص". لكن بين موسيقى الجاز التي جلبتها سارة الأمريكية إلى قلب الصحراء العربية وأصوات الرصاص لأتباع جهيمان العتبي داخل الحرم المكي ثمّة هوّة سردية سحيقة..ورغم ذلك لم تمنع قيتارة الغجر أبراهام من اغتصاب أوليفيا ولا أوليفا من قتل أبراهام دفاعا عن نفسها..في الحالتين تنتصر سردية الدماء..لكنّ صوت سارة التي بقيت هناك في الصحراء تستغيث إنّما قد تكون وعدا مسرحيا بنهاية مغايرة توقّعها المرأة بوصفها مستقبل العالم.
هناك في نقطة ما من الخلاء يبدأ المسرح في إنجاز التاريخ دونما حاجة إلى مؤرّخين بالرغم من أنّ أوّل ظهورا أبطاله يأتون إلى هذه الصحراء تحت راية التاريخ ..لقد جاؤوا إلى هنا كعلماء آثار..لكن هل سيكون ما جاؤوا من أجله؟ لا شيء يحدث في هذه المسرحية مثلما يريده أبطالها..الكلّ سيعبر "بفجر الجنائز" (ص.249)..وستمتلأ التوابيت ببنادق الموت بدلا عن نعوش النساء. إنّه "ليل بؤس العالم ..وهو ليل طويل" (العبارة لهيدغر)..لكن كيف يمكن عبوره؟ هيدغر كان يقول "وحدهم الشعراء سيقتفون أثر المقدّس...في هذا الأزمنة الرديئة"..لكن كيف نقتفي آثار المقدس بعد تدنيسه بأرواح الأبرياء؟ كيف نتطهّر من الدماء التي ذهبت هدرا في هذه الصحراء التي تسطو على قلوبنا؟ يبدو أنّ "المسلم الأخير" لا يزال في المنفى وهذا المنفى هو بمثابة كهف أرواحنا المتعبة بأوهام انسحب عالمها ونسيت فيها الشمس طريقها إلينا..إنّه "ليل طويل والأفق أحمر واليوم قائظ..والجماعة لا تزال في الركعة الأخيرة من صلاة الفجر"( بعبارات المسعودي) ..ورغم ذلك نراه يجهد نفسه كي يمنح هذه الصحراء الممتدّة في قلوبنا منذ البداية "ضوءا يغسل الموجودات والصحراء" (ص.9)، كما يجهد نفسه أيضا كي يجعل الكعبة في "مكان كلّه نور، لا يحتاج إلى الضوء"...(272) ..مادام " القلب هو كعبة الإنسان" (ص.274). لكنّ معركة الكاتب مع الضوء لم تكن دوما مضمونة النتائج ..وانتصرت العتمة في معظم اللوحات وتراوح الضوء بين "إضاءة خفيفة" (ص.35) و"الإضاءة الشاحبة" (ص.35)..وخلوّ اللوحة الخامسة من الضوء..حيث يعوّض الضوء "عطر حريمي" .وفي اللوحة السادسة يكون "الضوء الشفاف" (ص.115.) وفي السابعة "ضوء خافت كأنّه يودّع يوما قائظا ويستقبل مساء متوغّلا في الليل والرطوبة.."(ص.135). وفي اللوحة الثامنة هو "ضوء القمر وقد صغر حجمه" (ص.155). وفي اللوحة التاسعة "إضاءة بنفسجية مائلة إلى الزرقة ثم إلى حمرة متغيّرة" (171). وفي اللوحة العاشرة "ينهمر ضوء خافت مائل إلى الزهري كأنّه ضوء الفجر" (181). وفي اللوحة 11 "الأفق أحمر في خلفية الركح منذر بيوم قائظ"(199). وفي اللوحة 12 "ضوء ليلي خفيف" (ص.227). وفي اللوحة 13 ""إضاءة خفيفة " (ص.249). وفي اللوحة 14 تبدأ الإضاءة شيئا فشيئا بالصعود على فراغ أخضر عجيب يسبح في ضوء خافت يوحي بالرهبة والخشوع"..(263).أمّا في اللوحة الأخيرة ليست ثمّة ضوء أصلا ، ثمّة "أصوات الرصاص..إنّهم يقتلون الناس.." (281-282).
2)لعبة اللوحات والألواح : في زمن السرد
بين اللوحات والألواح يمكنك أن تختار جنس هذا الركح المنتصب وحيدا في صحراء بلا متفرّجين..يمكنك أن تركب الجمع اللغوي الذي يناسبك إن كنت تشتهي سماع صوت الربّ من قمّة جبل سينا كما فعل موسى أو إن تجاوزت هذه المزحة اللاهوتية نحو لوحات متبجّحة بأسماء فان غوغ وبيكاسو وسلفادور دالي وكاندنسكي..لكنّ "كعبة جهيمان" تدفعك إلى الضحك من كل العصائد اللاهوتية وتنثر الألواح في قلب الصحراء التي أنجبتها كي تمنح السرد شكل الزمن المناسب أو أفق الكينونة الذي يجعلنا نلتقي بالماضي حيث نريد..لا حيث يوجد..تخرج الألواح عن طورها الديني بوصفها وصايا الربّ العشر، وتفسح المكان للوحات أكثرعددا ممّ كتب "بأصبع الله نفسه" كما جاء في سفر الخروج.
تبدأ المسرحية إذن من "سيّارة لاندروفر حمراء متوقّفة في الخلاء" لقد أصابها عطل ما..وهذه السيّارة ينزل منها ثلاثة غرباء جاؤوا للتنقيب عن الآثار، بحسب ما يصرّحون به، رجل هو أبراهام ماكنتوش وامرأتان أوليفيا مدينا وسارّة إيستمان..ينفتح النصّ إذن على خروج عن إطار اللوحة..لوحة ستحتضن حادثة دموية خطيرة جدا في قلب الحرم المكّي..من توقيع جهيمان العتبي السعودي الذي اقتحم الكعبة في غرة محرم 1400 للهجرة (1979) من أجل الإعلان عن المهدي المنتظر وهو صهره محمد القحطاني.. وكلّ المسرحية تقوم في الحقيقة على هاتين الشخصييتين التاريخيتين. وهنا يتدخّل فنّ المسرحة من أجل أن يسمو على صناعة التاريخ نفسه. ألم يقل أرسطو أنّ "الشعر يسمو على التاريخ"؟ هذا هو ما راهنت عليه مسرحية كعبة جهيمان بالمصالحة بين التاريخ والسرد وبين النص والفعل وهي أطروحة يؤسس لها كتاب بول ريكور الأول ضمن ثلاثية الزمان والسرد بعنوان ثان هو "الحبكة والسرد التاريخي". من أجل ذلك يتمّ استدعاء مجاز الساعة ويكون أحد الشخصيات وهو عاصم العجلان "وكيل شركة أوميقا للساعات اليدوية"..ويتكرر ذكر مجاز "الساعة" في المسرحية على لسان جلنار في اللوحة الثانية (...54-50)..وعلى لسان العنيكب(103)..على لسان اسماعيل (ص.287)..
لكن كيف يتمّ تنضيد الزمنية السردية في هذا الفضاء المسرحي؟ وفق مفهوم الأبدية، أم وفق مفهوم التناهي؟ أيّ معنى للزمن في الصحراء؟ حاضر دائم وأبدية لا تنتهي (أوغسطين) أو هو ترتيب للأحداث السردية كما في فن الشعر لأرسطو؟ أو هو مقولة مطلقة (نيوتن)، أو حدس محض ما قبلي في العقل البشري (كانط)؟ أو هو أفق لإدراك الكينونة في العالم (هيدغر)؟ أم أنّ "الزمن يصير إنسانيا بقدر ما يتمّ التعبير عنه من خلال طريقة سردية، ويتوفر السرد على معناه الكامل حين يصير شرطا للوجود الإنساني" (ريكور،ص.95). لكن هل يمكن تعديل الساعة في الصحراء العربية على الزمنية الغربية الحديثة التي تجعل من الإنسان مركزها الأساسي؟ هذا هوالإحراج الأنطولوجي الكبير الذي يعبّر عنه المسعودي في اللوحة قبل الأخيرة في الحوار التالي :" الشيخ : ما الذي بين يديك؟هل هذا سوار؟..إسماعيل : لا..سمعته يقول إنّ في الكعبة من يصلح الساعات وهذه ساعتي معطوبة..الشيخ : ساعتك؟ الساعة لا تتعطب الساعة تحين.."..(ص.265).

3)لعبة الوهم والدم : في سردية المسلم الأخير
"الخلاص من الوهم بالدم" هذه العبارة التي جاءت على لسان الشيخ في اللوحة قبل الأخيرة تلخّص الرهان الأساسي للمسرحية..كيف تتمّ مسرحة لعبة الوهم والدم؟ لماذا تحتاج أوهامنا إلى الدم ؟ إنّها أوهاما دموية وليس مجرّد هلوسات سيكولوجية يمكن الشفاء منها بتحليل نفسي أو ببعض المهدئات المنوّمة..كيف يولد الوهم ؟ هذا السؤال مثّل إحراجا إشكاليا وفلسفيا بامتيازلكبار الفلاسفة منذ أفلاطون إلى كانط ونيتشه وفرويد مرورا الفلسفة العربية خاصة ابن سينا الذي أضاف الوهم إلى قوى النفس والفارابي الذي ناظر بين ما يصل إليه النبي عبر قوة المخيلة وما يصل إليه الفيلسوف عبر العقل. وإنّه من الصعب التحرر من أوهامنا هكذا أقرّ جميع الفلاسفة . لكن كيف تولد الأوهام في عقولنا؟ من عدم القدرة على إدراك الحقيقة لوهن ما في نفوسنا..يجيب الفلاسفة : في بداية الكتاب السابع من الجمهورية يصرّح أفلاطون أنّ السجين المتحرّر من الكهف يجد صعوبة في التخلص من أوهامه السابقة والعيش من دونها. ويعتبر أفلاطون أنّ التربية الفلسفية هي وحدها قادرة على تحريره من أوهامه أي من دائرة الرأي والعالم المحسوس وضجيج السفسطائيين. ويعتبر الشيخ الرئيس ابن سينا أنّ الوهم قوة من قوى النفس الباطنة إلى جانب المصوّرة والمفكّرة والذاكرة.. أمّا ديكارت فهو يعتقد أنّه ثمّة "شيطان ماكر" هو صانع الأوهام في نفوسنا وهي أوهام تولد في الحلم حينما تنام عقولنا. والوهم عنده لا نتحرر منه إلاّ بتجربة الشك الجذري في كلّ معارفنا السابقة على لحظة التفكير، أي أنّ التحرّر من الوهم مشروط بتأسيس فكر حرّ من كل أشكال الوصاية على العقل البشري. ويُعتبر كانط أهمّ فيلسوف قد جعل من نقد الوهم المهمّة الأولى للفلسفة ..وهو ما أنجزه ضمن جدلية نقد العقل المحض التي تحمل عنوان منطق الظاهر أي الوهم. إنّ أهمّ ما يكتشفه كانط هو أنّ أوهامنا تولد من طبيعة عقولنا في إدراك ما ليس في مستطاعها. وهنا كلّ آلة النقد التي شغّلها كانط بوصفها هي شعار الحداثة الأوروبية قائمة على تحرير العقل من أوهامه التي تولد فيه من ادّعاء زائف بقدرته على معرفة ما وراء الطبيعة. لذلك على الفلسفة أن تشتغل على رسم حدود العقل وتنبيهه إلى أوهامه. فالعقل البشري عقل متناه لا يعرف غير الظواهر. أمّا عالم الأرواح والغيب والآلهة واليوم الآخر، كلّها أسئلة خارجة عن نطاقه لذلك عليه أن يتحرّر منها. والدرس الكبير ههنا هو التالي : أنّ العقل البشري في كل ثقافة مطالب بالاعتراف بحدوده أمام مسائل تخص الله والعالم والنفس. وتلك هي نهاية الميتافيزيقا التقليدية في الثقافة الأوروبية الحديثة.
لكن هل وصل هذا الدرس الفلسفي الكبير إلينا؟ هل استطعنا الحسم في علاقتنا بالمسائل الروحية والإلهية؟ إنّ جهيمان العتبي يقنعنا بأنّ مفاتيح العقل في ثقافتنا لا تزال بأيادي الدعاة واللاهوتيين ورجال الدين. يبدو اذن أنّ الصحراء العربية مازالت تستأنف تشغيل مكنة الوهم وهذا الأمر قد يدوم طويلا. كانط قد كتب نصّا سنة 1776 أي قبل نقد العقل المحض بخمس سنوات تحت عنوان "أحلام إشراقي.." ينقد فيه الكاتب السويدي شفندنبورغ الذي يعتقد أنّه قد اكتشف في نفسه قدرة على التواصل مع عالم الأرواح وقد اعتبر كانط ذلك تخريفا وهلوسة ، ونحن نعثر على هذه الهلوسات ضمن اللوحة التاسعة وعنوانها ضرس جهيمان..هناك يهيء لنا المسعودي لوحة الهذيان المطلق..لوحة الوهم في توهّجه..لوحة أشبه بانفجار في جمجمة..صوت الغرانيق تحوم حول الكعبة.."غرانيق سافلة" ..تداع حرّ..إسهال لغوي..تضخّم للأنا..حمّى سردية..بركان مسرحي ..انهيارالركح ...سقوط إلى المهاوي السحيقة لنفس مختلّة ينهشها الوهم ويأكلها ويحوّلها إلى لحم يشتهي السكاكين والسواطير...والمهاريس..حفرة الوهم سحيقة تبتلع جهيمان وتجعله يشمّ "رائحة الشواء تخرج شائطة من كبدي، كبدي تنقره الغربان" (173) أصوات غريبة لا يسمعها غير الغارق في أوهام الصحراء وحيدا "رغاء إبل ونوق وصوتا حادّا كالنشيج يصعد ثم يختفي..." (173) ..لا شيء يصدر عنه غير الهذيان "أطيعوني أكن يعسوب الفرقة الناجية، أطيعوني أكن لكم شفيعا..أنا الرّاعي أنا الواقي أنا الباقي، أنا أمّي، أنا كالنبي الوصي، أنا الجليّ أنا التقيّ، العتيّ، البهيّ، الصفيّ أنا العتبي".(175)..ذاك هو النصّ الأكبر والبيان الوحيد لصانعي الوهم..وسرديتهم الوحيدة..يشعلون رماد الذاكرة ثمّ يحترقون بنارها ..ولا يزال اذن جهيمان العتبي (سنة 1979) أي بعد قرنين من نصّ "أحلام إشراقي.."و كتاب نقد العقل المحض لكانط يربّي الأوهام بالرصاص والنار في مدجنة "المسلم الأخير"..لكن ألا يمكن اعتبار آلة صناعة الأوهام قد غيّرت من عناوينها؟ إنّ ما حدث في كعبة جهيمان من طفرة للوهم الديني تحت راية أسطورة المهدي المنتظر إنّما يمكن تأويله في أفق براديغم ما بعد ديني وما بعد ميتافيزيقي معا. يتعلق الأمر بمبايعة محمد القحطاني صهر جهيمان العتبي من أجل افتكاك السلطة السياسية ..ههنا يتمّ تشغيل آلة الأوهام الدينية داخل أجندات سياسية..لا من أجل الله الذي بقي محاصرا في الكعبة تهدده أصوات الرصاص، حيث تتحول الكعبة إلى مخزن للأسلحة ..إنّما من أجل المُلك..
4) النساء وغواية الصحراء :
كعبة جهيمان مسرحية تاريخية مذهلة من جهة هندستها ومن جهة فكرتها ومن جهة طاقتها على التخييل والمراوغة السردية ومن جهة لغتها الناطقة بفصاحة الصحراء العربية..اقتدار في حجم غواية الصحراء بوجوهها الثلاثة التي لا تُقاوم" (22) أي "العربية البترائية ولّادة الملوك والأباطرة..والعربية الصحراوية..صحراء النفوذ والربع الخالي..والعربية السعيدة، أرض البخور، بلاد اليمن.."..هي الصحراء الفاتنة مولد الأنبياء والهراطقة والشعراء والمجانين والصعاليك والزنادقة..هكذا عبّرت سارّة الأمريكية عن غواية هذه الصحراء .."هذه الأبدية الشاهقة"..(21)..إنّ مديح الصحراء الذي نقرأه تحت قلم المسعودي إنّما هو ضرب من إنصاف الذاكرة..ذاكرة المكان الذي "رشّ فيه العرب دماؤهم"..وتصحيح وجهة نظر الآخر عن الصحراء العربية..وهو ما جاء على لسان سارة :"..لكن ثمّة شيء غامض في روح هؤلاء العرب، شيء محيّر وآسر ومنفلت" (120)، أو "..العرب كلّهم غير قابلين للانقراض" (121)..
لكن من سيحمي هذه الصحراء من سفك الدماء؟ إنّه صوت سارة التي تستغيث في الصحراء وحيدة وهو آخر صوت نسمعه من هذا النص المسرحي، ولعلّه يكون صوت آخر الأحياء هناك. وهي سارّة التي تقول منذ اللوحة الأولى أنّ "التهديد يأتي دائما من امرأة" (ص.28). في هذه المسرحية يخصّص المسعودي إذن مكانة هامّة للنساء..ثمّة أربعة نساء في نوع من زعزعة العدد أربعة الذي تسمح الشريعة للرجل بالجمع بينهنّ .لكنّ المسعودي يقوّض هذا المبدأ الديني وتظهر كل امرأة منهنّ خارج إطار الهيمنة الذكورية. وأقوى النساء قدرة على زعزعة النظام البطريكي هي جلّنار المرأة السعودية الوحيدة في هذا الركح لا تخاف سلطة جهيمان..بل بالعكس هو من يخافها..لقد انتصر المسعودي للقضية النسوية بمنح جلّنار منزلة سيّدة هذا الركح..فيما أعلى من سلطة جهيمان..فهي أوّل من ظهر من الشخصيات الأساسية منذ اللوحة الثانية التي عنونها المسعودي باسم جلّنار..وهي الوحيدة التي تجرّأت على اقتحام بيت الصلاة والكشف عن وجهها داخل حرمه ..وهي الشخصية الأولى والوحيدة أيضا التي تجرّأت على فضح كلّ شخصيات المسرحية من أتباع جهيمان..لقد كشفت عن حقيقة الجميع : رسلان الجحود الذي شغّله عمّ جلنار في الحرس سابقا، والذي صار "فويقها جوعان على باب الله" وعجلان "آكل لحم اليتامى"، والغلام الباكستاني "حارس نظيف لميضة عفنة"..وحمّود الذي طرد زوجته المصرية و"دفعها للتسوّل"..الكلّ هنا منخرط في فلاحة الوهم..الكلّ يكذب إلاّ جلّنار..لقد أسقطت جلّنار كلّ أقنعة هذه الجماعة الدينية المتطرّفة في جرأة غير مسبوقة لامرأة سعودية تعيش تحت الاضطهاد الذكوري...لقد حرّر المسعودي صوت المرأة وحوّلها من "العورة"" والحرمة" إلى صوت الحقيقة الذي يصدح عاليا في هذه الجماعة الدينية "اللعنة عليكم جميعا، تحومون الآن حول جهيمان لتستروا عوراتكم . أين سيّدكم جهيمان؟"(53)..هكذا يتمّ إنصاف المرأة بالسرد حيثما تصرّ الدول على استئناف اضطهاد النساء ..ويمكن اعتبار جلّنار أهمّ شخصية في هذه المسرحية التي تقصّ حادثة تاريخية سوداء في التاريخ المعاصر للحرم المكّي، كان فيها جهيمان العتبي هو قائد الجماعة الدينية والمبشر بالمهدي المنتظر..لكنّ المسعودي لا يمنح الكلمة لجهيمان إلاّ في اللوحة السابعة ويجعله يدخل هذا الركح تحت عنوان مثير للسخرية السردية هو "البصاق" كما لو كان جهيمان هو بصاق تايخي مقرف..في حين تدخل جلنار الركح منذ اللوحة الثانية..وهي الوحيدة التي تتجرأ على جهيمان وترعبه وتجعل يختفي وراء القحطاني خوفا من غضبها..(ص.191).
بمثابة خاتمة :








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا