الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العلم والدين: مواجهة ضارية أو توزيع أدوار

السيد نصر الدين السيد

2021 / 5 / 28
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


العلم والدين منظومتان لا غنى عن وجوهما سويا في حياة افراد أي مجتمع يسعى بجدية للارتقاء برفاه أعضائه. فإسهام انجازات منظومة العلم في عملية الارتقاء هذه لا جدال فيها وتتبدى على عدة مستويات. وفي المقابل توفر منظومة الدين لأتباعه إجابات على الأسئلة الوجودية التي تشغلهم. اجابات تتسم ببساطة صياغتها وبموسيقى تراكيبها اللغوية.
لذا يخطئ من يتصور ان بالإمكان تحديث أيا من مجتمعات الشرق الأوسط حداثة حقيقية تتجاوز قشرة براقة تبهر الناظرين دون الاخذ في الاعتبار منظومة الدين. وهي المنظومة التي أسهمت عدة عوامل في تغولها فأصبحت هي المصدر الرئيسي لمكونات الرؤية الكلية للمجتمع المصري (*)، وامتد تأثيرها السلبي ليشمل الشرائح العليا للطبقة الوسطي وهي الطبقة التي كانت مرشحة لقيادة عملية التغيير. وينجح من وراء هذه الظاهرة في خلق جهاز مناعي لمقاومة انتشار قيم الحداثة فيشوهوا الحضارة التي انتجتها. ولا يكتفون بتشويهها، بل يسرقون إنجازاتها في جرأة غير مسبوقة فتسمع عن الاعجاز العلمي للكتب المقدسة. وهنا يبرز السؤال المحوري التالي:
ما هي العلاقة المثلى بين العلم والدين في إطار الدولة الحديثة؟
ويتطلب الإجابة على هذا السؤال التعرف اولا على المقصود من كل عبارتي "منظومة الدين" و"منظومة العلم" ومقارنة خصائصهما. وثانيا عرض النماذج المختلفة للعلاقة بين المنظومتين.

العلم والدين: تعريف ومقارنة
تقابلنا عند محاولة تعريف الدين مشكلة تعدد الديانات في عالمنا المعاصر والتي يبلغ عددها حوالي 4300 ديانة. وللتغلب على هذه المشكلة علينا ان نذكر أنفسنا بأن الدين ما هو الا ظاهرة متعددة الابعاد التي تتضمن القائمة التالية أمثلة لأبرزها.
1. البعد الفلسفي: الإيمان بوجود قوة علوية، أيا كان مسماها، خالقة للكون ومسيطرة على كل ما يدور فيه من أحداث.
2. البعد العقائدي: العقائد التي تميز هذا الدين عن غيره من الديانات
3. البعد الأخلاقي: مجموعة الأوامر والنواهي التي تشكل سلوك المنتمين.
4. البعد التعبدي: كافة الطقوس والفرائض التي على طائفة المؤمنين القيام بها.
5. البعد المتعلق بالوحى: آليات تواصل القوة العلوية مع مخلوقاته من البشر.
6. البعد الاجتماعي: المعتقدات التي تنظم العلاقات بين طائفة المؤمنين وسلوكياتهم المقبولة.

في حالتنا سنكتفي بالأربعة أبعاد الأولى ونصوغ التعريف التالي للدين: كـ "منظومة اجتماعية يؤمن المنتمين إليها بوجود كيان ما، أيا كان مسماه، خالق للكون ومسيطر على كل ما يدور فيه من أحداث وبأن عليهم الالتزام بما يمليه عليهم في نصوص مٌنَزَلة (البعد المتعلق بالوحي) يؤمنون بصحة ما جاء فيها إيمانا مطلقا لا يقبل النقاش (البعد العقائدي)، حتى في حالة غيبة أي شواهد محسوسة، لتصير "اعتقادات". وتتضمن هذه النصوص:
 ردودا على كافة الأسئلة التي تحير الإنسان ولا يجد إجابة لها (البعد الفلسفي)
 مجموعة الأوامر والنواهي التي على طائفة المؤمنين الالتزام بها (البعد الأخلاقي)
 الطقوس والفرائض التي على طائفة المؤمنين القيام بها (البعد التعبدي)."

هناك بعض الابعاد لا تقبل التعديل (البعد العقائدي على سبيل المثال) حيث يعني تعديلها تحول المنظومة من شكلها الحالي الى شكل جديد أي فقدانها هويتها وهذا هو الجزء المنغلق. من هذا المنظور لابد لن يكون الدين أي دين منظومة منغلقة

اما العلم فتعرفه موسوعة ستانفورد للفلسفة بأنه "أي نشاط ممنهج ومنضبط يسعى وراء الحقائق المتعلقة بعالمنا وتتضمن قدر كبير من الشواهد الإمبريقية" (Plantinga, 2008). ولقد شهد المنهج العلمي (اول مكونات منظومة العلم) لاث تحولات كبرى). اما المعرفة العلمية (المكون الثاني لمنظومة العلم) فمن اهم خصائصها هي خاصية "التجددية" النابعة من أنه لا توجد، في عرف العلم، حقائق نهائية لا تقبل النقض والتفنيد. فالمعرفة العلمية، كمنظومة من الحقائق المؤقتة، هي منظومة منفتحة تقبل استبعاد أو تعديل ما يثبت خطأه أو ما تتأكد عدم فعاليته من حقائق، وهى في الوقت نفسه تتقبل كل ما ثبتت صحته وتأكدت فعاليته. وهذا ما يطلق عليه مبدأ "التفنيد" Falsifiability الذى يؤدى بالضرورة أنه "لا عصمة" Fallibility للمعرفة العلمية فهي ليست معصومة من الوقوع في الخطأ.
وانطلاقا من هذين التعرفين سنعقد مقارنة بينهما مستخدمين الخمس معايير التالية:
1. الهدف الذي تسعى المنظومة
2. منظومة المبادئ الحاكمة التي تستخدمها المنظومة في انتاج المعرفة
3. طبيعة الشواهد التي تعتمد عليها المنظومة في تقرير صحة المعرفة المنتجة
4. صلاحية المعرفة
5. درجة موضوعية الاحكام

بالنسبة للمعيار الأول تهدف منظومة العلم الى كشف الأسباب الطبيعية (لا الميتافزيقية) وراء حدوث الظواهر الطبيعية والبشرية والقوانين التي تحكم سلوكها، بينما تهدف منظومة الدين الرد على تساؤلات وجودية من قبيل "ما هو الهدف من وجودنا؟" و"ما هو مصيرنا؟". وبالنسبة للمعيار الثاني، منظومة المبادئ الحاكمة فهي في حالة العلم منظومة منفتحة محتواها قابل للتعديل على عكس منظومة المبادئ الحاكمة لمنظومة الدين التي تتميز بثبات المحتوي. وبالنسبة للمعيار الثالث تعتمد منظومة العلم على الشواهد المحسوسة Empirical التي يمكن قياسها في حين تعتمد منظومة الدين على الشواهد غير محسوسة (ميتا فيزيائية). وبالنسبة لصلاحية المعرفة التي تنتجها منظومة العلم فهي صلاحية مؤقتة انطلاقا من قابليتها للتفنيد المستمر على عكس تلك التي تنتجها منظومة الدين وتتمتع باستقرار نسبي. وأخيرا تتصف منتجات منظومة العلم (في صورته الأولى ما قبل نظريتي النسبية الخاصة والكم) بالموضوعية الفائقة على عكس منتجات منظومة الدين التي تسودها الذاتية.


النموذج المنشود: من "التكامل" الى "الاستقلال"
يعتبر آيان باربور (1923-20139) أستاذ الفيزياء في جامعات شيكاغو وديوك و ييل الامريكية من اهم دارسو العلاقة بين العلم والدين كما يعتبر تصنيفه الرباعي لنماذج هذه العلاقة من اكثر التصنيفات استخداما. وطبقا لباربور توجد اربع نماذج لعلاقة منظومة العلم بمنظومة الدين وهى (Barbour, 1990, 1998):
I. نموذج الصراع
II. نموذج الاستقلال
III. نموذج الحوار
IV. نموذج التكامل

I. نموذج الصراع
انه النموذج الذي يمثل الصراع الحتمي بين منظومتين تؤمن كل منهما بامتلاكها للحقيقة الكاملة وبضلال الأخرى غير المحدود. لذا لا يكون من المستغرب ان تتسم أولى لقاءتهما بعنف مشهود. وهكذا شهد ميدان كامبو دي فيوري (ميدان الزهور) في روما يوم 17 فبراير سنة 1600 تنفيذ حكم الإعدام حرقا. وكانت جريمته إشاعة أفكار مخالفة لأفكار الكنيسة عن مواقع النجوم وحركات الاجرام السماوية. وشهد عام 1633 محاكمة الفاتيكان للعالم الإيطالى جاليليو جاليلى (1564-1642) بتهمة الهرطقة والخروج عما هو معلوم من الدين بالضرورة وذلك بإعلانه في كتابه الشهير "حوار حول النظاميين الرئيسيين للعالم" أن الأرض تدور حول الشمس مخالفا بذلك تعاليم الكنيسة التي كانت تؤمن بعكس ذلك. يجسد نموذج الصراع التناقض التقليدي بين التفسير المادي لظواهر الواقع الذي يلتزم به العلماء والتفسير المرتكز على الفهم الحرفي للنصوص المقدسة.
واليوم يتجسد الصراع في تيارين رئيسيين. الأول هو "علم الخلق" الذي يحاول المنتمين اليه اثبات الوصف التوراتي لعملية ظهور كوكب الأرض وقاطنيه وبأنها من صنعة الخالق وليست نتاجا لعملية التطور. وفي المقابل نجد "المادية العلمية" بمقولتيها عن "المادة" بوصفها المكون الرئيسي للكون، وعن "المنهج العلمي" بوصفه الوسيلة الوحيدة التي يوثق بها في انتاج المعرفة المتعلقة بالكون.

II. نموذج الاستقلال
يقوم هذا النموذج على التفرقة بين طبيعة الأسئلة التي تحاول منظومة العلم الإجابة عليها بتلك التي تحاول منظومة الدين. فبينما تحاول منظومة الدين الإجابة على أسئلة من قبيل:
 ما هي طبيعة الروح؟
 هل توجد حياة بعد تلك التي نحياها؟
 ما هو السبب الذي وجدنا من أجله؟
 هل توجد معجزات؟
 هل يتطلب الايمان بمعتقد ما اعمال العقل؟
 ..................................

تحاول منظومة العلم الإجابة على أسئلة من قبيل:
 هل نعيش وحدنا في هذا الكون بالغ الضخامة؟
 كيف يتشكل وعي الانسان؟
 ما الذي علينا فعله لزيادة انتاجنا من الطاقة الشمسية؟
 كيف سنتمكن من السيطرة على البكتريا الضارة؟
 متى سنتمكن من امتلاك روبوت ذكي قادر على تلبية احتياجاتي بمجرد التفكير فيها؟

من الأسئلة موضع اهتمام كل منظومة يتضح ان مجال فعل منظومة العلم هو العالم المحسوس Empirical الذي يمكن ملاحظة وقياس معطياته (عالم الشهادة) بينما مجال فعل منظومة الدين هو العالم غير المرئي (عالم الغيب).

III. نموذج الحوار
وغاية الحوار، أي حوار، هي " بناء موقف جديد أكثر تقدما ونضجا وعقلانية من الموقف الفكري السابق على الحوار". والحوار "يفترض استعدادا مبدئيا ومعلنا ومقبولا من كل طرف لقبول حجة الطرف الآخر إن أصابت موقع الحقيقة وكبد الصواب. والحوار يفترض قبول كل طرف لتعديل مواقفه التي كان عليها قبل بدء الحوار إلى مواقف أخرى جديدة يثبت الحوار صدقها". (فرحات, 1997). وأطراف الحوار في حالتنا هذه هما منظومتي العلم والدين ومحركه هو تآكل مفهوم الموضوعية المطلقة الذي ميز منظومة العلم قبل ظهور نظرية النسبية الخاصة ونظرية الكم. وقد شجع هذا التآكل البعض لمقارنة ذاتية التجربة الدينية بذاتية فعل الملاحظة الفيزيائي. وغاب عن أنصار هذا التوجه ان ذاتية التجربة الدينية هي "ذاتية اشخاص" وذاتية "الفعل الفيزيائي" هي "ذاتية مواقف".

IV. نموذج التكامل
ينطلق أصحاب هذا النموذج من قناعتهم ان التعامل الفعال مع مشكلات الواقع لا بد وان يأخذ في اعتباره، وفي آن واحد، كافة المنظورات المختلفة. والمنظورات في حالتنا هذه منظوران: المنظور العلمي والمنظور الديني. وهي قناعة تبدو صائبة للوهلة الأولى. الا ان الاختلافات الجوهرية بين أنطولوجيا وأبستمولوجيا منظومة العلم وأنطولوجيا وأبستمولوجيا منظومة الدين تجعل من ضمهما في اطار موحد امر في حاجة لدراسة اعمق.

وسأترك للقارئ حرية اختيار النموذج الأمثل للعلاقة بين العلم والدين في اطار الدولة الحديثة

(*) “الرؤية الكلية" هي مجموعة القيم والمبادئ التي يتبناها أفراد مجتمع ما وتشكل الإطار الذهني الذي يستخدموه لفهم ما يدور في واقعهم من أحداث وظواهر ويستعينون به كـ "مرجعية" لتوجيه وتقييم أفعالهم.
المراجع
Barbour, I. G. 1990. Religion in an Age of Science. San Francisco, CA,: Harper,.
Barbour, I. G. 1998. Religion And Science: Historical and Contemporary Issues. London: SCM Press.
فرحات, م. ن. 1997. البحث عن العقل: حوار مع فكر الحاكمية والنقل. القاهرة: دار الهلال.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - العلم والفلسفة بدلا من العلم والدين
منير كريم ( 2021 / 5 / 28 - 11:24 )
تحية للاستاذ
العلم لايعترف بالدين ولا يعترف الدين بالعلم فلكل منهما مجال وطرق بحث ونتائج مختلفة
وما يقال عن التوافق بينهما هو محض تلفيق
في العصور الحديثة حلت الفلسفة محل الدين والفلسفة تتوافق مع العلم جيدا لان كل منهما قابل للتخطيء وقابل للتطور وما لاتجيبه عليه الفلسفة او العلم لايجيب عليه الدين
شكرا لك

اخر الافلام

.. المقاومة الإسلامية في العراق تعلن استهدافها هدفا حيويا بإيلا


.. تونس.. ا?لغاء الاحتفالات السنوية في كنيس الغريبة اليهودي بجز




.. اليهود الا?يرانيون في ا?سراي?يل.. بين الحنين والغضب


.. مزارع يتسلق سور المسجد ليتمايل مع المديح في احتفال مولد شبل




.. بين الحنين والغضب...اليهود الإيرانيون في إسرائيل يشعرون بالت