الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ظل آخر للمدينة 34

محمود شقير

2021 / 5 / 28
الادب والفن


كانت لدي رغبة في السفر إلى مصر للدراسة في إحدى جامعاتها (مصر حيث عبد الناصر هناك وحيث ممثلو السينما المصرية وممثلاتها الجميلات، والروائيون وكتاب القصة القصيرة الذين أصبحت من المعجبين بكتاباتهم)، ولم تسمح لي أحوال أبي المادية بذلك.
قدمت طلباً للحصول على وظيفة، ولم تواجهني أية تعقيدات في ذلك. صدر قرار بتعييني مدرّساً في مدرسة قرية خربثا بني حارث. ذهبت إليها وعملت فيها أربع سنوات (سوف أعمل في مهنة التدريس سنوات طويلة، أحقق نجاحاً فيها، ومع ذلك لا يفارقني الخوف من الإخفاق، سوف تكون نماذج بعض المدرسين الذين درّسوني حاضرة في ذهني، أقتدي بالمعلمين الناجحين، أحرص على علاقات طيبة مع الطلبة. سوف يسكنني الرعب من معاناة بعض المدرسين: مدرس التاريخ في المدرسة الرشيدية، كانت حصته مليئة بالفوضى، لا أحد من الطلاب يصغي إليه، والصف يبدو مثل منحلة، وأحياناً يضطر مدير المدرسة إلى قرع باب الصف، والدخول إلى الحصة، لمعرفة أسباب هذا الضجيج. تنقلب سحنة المدرس من شدة الحرج، يهدر بصوت أجش، متوعداً الطلبة المشاغبين بعد خروج المدير، ولكن دون جدوى. مدرس الرياضيات النحيف ذو الصوت الرفيع، يعلق له الطلبة ذيلا طويلاً من ورق فيما هو يتجول بين المقاعد، دون أن يشعر بذلك، ودون أن يعرف سبباً للضحكات الساخرة والتلميحات الخبيثة، ثم يتمادون أكثر، فيرشقون الحبر الأزرق السائل من أقلامهم على ملابسه. وسوف تكون نماذج بعض المدرسين الذين عملوا معي في مدارس مختلفة، حاضرة في ذهني: ذلك المدرس الذي كان يرتدي بدلة مترهلة، ما إن يقترب من ملعب المدرسة، حتى يتجمع من حوله الطلبة، بعضهم يشاغله بأسئلة سخيفة، فيما يقوم بعضهم الآخر بملء جيوبه بالحصى، يدخل مبنى المدرسة، ثم ينتبه إلى ما يثقل جيوبه، فيقوم بتفريغها لكي تمتلئ بالحصى من جديد، فيما هو متجه عبر الملعب إلى بيته بعد انتهاء الدوام. ذلك المدرس الذي كان يستفزه أحد الطلبة عن قصد، يشتبك المدرس معه قاصداً معاقبته، يتدخل طلبة آخرون، بحجة فض الاشتباك بين المدرس وزميلهم الطالب، يتعقد الاشتباك، فلا يدري المدرس فيما إذا كان الطلبة يقومون بفض الاشتباك، أم إنهم يمعنون في محاصرته وجره من زاوية إلى أخرى في غرفة الصف، وهو مرتبك حائر لا يعرف ماذا يفعل أو ماذا يقول!).
كانت الوظيفة سبباً محفزاً لأسرتي لكي تلح علي بضرورة التفكير في الزواج، فهي مدخل إلى الاستقرار وتحصيل دخل ثابت. ولم أكن كارهاً لذلك. ربما خطر ببالي في فترة ما تأجيل هذا الأمر إلى حين الانتهاء من دراستي الجامعية في مصر. وحينما شعرت بأن ذهابي إلى مصر لم يعد ممكناً، وجدت أنه لا داعي لتأجيل فكرة الزواج، وبخاصة أن الغالبية العظمى من أبناء جيلي في ذلك الزمن كانوا يتزوجون في سن مبكرة، ما يعني أنني سأبقى مدرساً طوال حياتي، وأنني سأبني أسرة مثل غيري من صغار الموظفين.
ولم يكن ذلك سيئاً بالنسبة لي في لحظة معينة، بل إنني كنت أرسم لنفسي أحلاماً وردية في ظل حياة اجتماعية هادئة، يزيدها هدوءاً دخل ثابت وتطلعات بسيطة مشتقة من وعي بسيط وعلاقات اجتماعية عادية (تعرفت إلى فتاة قروية نحيلة، دعوتها ذات مرة لكي تذهب معي إلى القدس، وافقت بعد أن اختلقت حيلة ما تبرر لأهلها هذا الذهاب. مشت إلى جواري بثوبها الفلاحي المطرز بخيوط حمراء وزرقاء وخضراء. كانت مثل حمامة وديعة وكنت مسكوناً بالخجل. جلسنا في كافتيريا اكسبرس خضر في أول طلعة حارة النصارى، ولم يكن في الصالة أحد سوانا، شربنا عصير البرتقال ودار بيننا حوار حميم لم يتكرر مثله كثيراً بسبب صعوبات اللقاء. ثم تعرفت إلى فتاة من المدينة. كانت متوسطة الجمال، ولها نهدان ضامران. وبعد شهرين من العلاقة التي نشأت بيننا تفتحت أنوثتها وترعرع نهداها. وكنت في الحالتين غير قادر على اتخاذ قرار شجاع في الارتباط بأي منهما، بسبب تربيتي المحافظة وشدة تأثير والدي علي، وهو التأثير الذي لم أتمرد عليه إلا في سنوات لاحقة، وبسبب حكمة أمي التي تنطوي على شكوك لازمتني طويلاً: الفتاة التي تضحك لك تضحك لغيرك).
وهكذا بدأت تتحدد ملامح حياتي الواقعية وكذلك وضعي الاجتماعي، ولم تكن فكرة الكتابة والإخلاص لها تظهر في ذهني إلا على نحو غير محدد المعالم. ورحت أقدح زناد فكري في البحث عن زوجة شابة. ولم يخطر ببال أبي أو أي أحد من أفراد أسرتي، أنني سأبحث عن زوجة من مدينة القدس أو من القرية التي ابتدأت العمل فيها معلماً، لاعتبارات نابعة من تحفظ نابع من بيئة مفرطة في التزمت، وبسبب مواقف مسبقة غير قابلة للمراجعة، تجعل من الصعب التسليم بارتباط شاب من أصول بدوية بفتاة فلاحة أو مدنية.
كان تفكير أبي وأمي منصباً على بنات قريتنا دون سواهن، ولا أنكر أنني كنت متأثراً بهذا التفكير منقاداً إليه. ولم تكن في عائلتي الممتدة فتيات في سن الزواج. لذلك رحت أفكر أنا وأبي وأمي شرقاً وغرباً، وأحياناً كان يشاركنا التفكير عمي الذي أمضى في ما بعد فترة من عمره ممرضاً في مستشفيات الكويت، وهو يأتي بعد أبي في ترتيب أعمامي من حيث العمر. كنا نجتمع مساء في غرفة أبي، نقبل ونرفض ونقترح ونغربل وندني ونستبعد، حتى وقع النصيب على فتاة من بنات القرية، كانت تقيم مع أهلها في بلدة صويلح، بعد هجرة من القرية إلى حيفا لمدة عام، وبعد هجرة نهائية إلى صويلح إثر النكبة الفلسطينية، ولم أكن أعرفها ولم تكن تعرفني. قام بالتعريف أحد أبناء القرية الذي يرتبط بصلة قرابة مع أهلها. إذاً، كان زواجي تقليدياً بكل ما تحتمله الكلمة من معنى.
ذهبت صحبة أبي وأمي إلى بيت الفتاة بناء على موعد مسبق، وتم التعارف في تلك الزيارة واتفقنا على الخطوبة وبعد نصف عام من ذلك تزوجتها، وجئت بها في يوم العرس الذي جرى في الحادي والعشرين من تموز العام 1961 لتعيش معي في جبل المكبر. عشنا معاً منذ ذلك التاريخ وأنجبنا ثلاثة أولاد وبنتين، ومع مرور الزمن أصبح لدينا سبعة أحفاد وست حفيدات.
غير أن رغبة دفينة ظلت تلح علي بين الحين والآخر، بعدم التسليم بوضع الموظف الصغير الذي يظل طوال عمره ساعياً من أجل رزق محدود وطموحات صغيرة. ولم يهدأ توقي لاستكمال دراستي الجامعية.
يتبع..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس


.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني




.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/