الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عندما كنا عربا

سميح مسعود

2021 / 5 / 31
الادب والفن


عنوان هذا المقال ليس من بنات أفكاري، إنه عنوان كتاب لعاشق من عشاق اللغة العربية البروفيسور الإسباني إميليو غونثاليث فيرين من جامعة إشبيلية، التي يدرس فيها الفكر العربي والإسلامي، وله خبرة ومعرفة حقيقية عميقة بالثقافة العربية المعاصرة، لمعرفته بالدول العربية، خاصة وأنه عمل أستاذاً زائراً في جامعتي القاهرة ودمشق، وكتب كتباً ومقالات كثيرة في مجال اختصاصه، وحاز على جائزة "خوفيانوس" للمقالة، كما اهتم بتاريخ الشطرنج، ودافع دائماً عن أهمية الحوار العربي الأوروبي.
التقيت به قبل فترة من الوقت في مدينته إشبيلية ، في يوم ربيعي مشرق جميل،وقد تم اللقاء في رحاب" مؤسسة الثقافات الثلاث" وبين لي في بداية اللقاءأن هذه المؤسسة قد أسست في عام 1998 بمبادرة أندلسية مغربية، لدعم قيم التسامح والسلام والحوار، وتعزيز التعاون بين الشعوب والثقافات في منطقة البحر الأبيض المتوسط، من خلال عقد المؤتمرات والندوات وتنظيم المعارض الثقافية، وهي تجسد في أهدافها الحضارة العربية في الأندلس، التي جمعت بين العرب والإسبان واليهود في تعايش ثقافي واجتماعي مشترك، لم تعرف الأمم القديمة مثيلاً له.
وفيما كنت أجمع شتات أفكاري حول الثراء المعماري لمبنى المؤسسة، التقط "إميليو" طرف الحديث، وأخد يتحدث عن الاستعراب في إسبانيا، وتأثير الفونس العاشر الحكيم على دعمها بعد استرداد الأندلس، ثم تحدث بإسهاب عن أهمية اللغة العربية في الثقافة الإسبانية، وذكر قاموسًا بالكلمات العربية في اللغة الإسبانية، ألفه المستعرب "بيدرو دي الكلا" في القرن الخامس عشر، وذكر أعمالاً مهمة في مجال اللغة العربية لصديقه المستعرب "فيديريكو كورنتي"، منها القاموس العربي الإسباني، والقاموس الإسباني العربي.
وجدت متعة بحديثه عن اللغة العربية، وبينما كنا نحتسي القهوة، توقف عن الحديث فجأة، وسلمني كتاباً كان يحمله بيده، ثم قال تلقائياً: "أهديك هذه النسخة من كتابي "تاريخ الأندلسس" باللغة الفرنسية وهو من إصدار المؤسسة."
شكرته على هديته، وفي لحظة أخذ يتحدث بحماسة ظاهرة عن كتابه، وما ذكره بين دفتيه من معلومات، عن أسماء مهمة لها مكانتها العلمية والفكرية في تاريخ الأندلس من أمثال ابن رشد وابن حزم وابن طفيل، ولهم تأثيرهم الكبير في عصر التنوير الأوروبي، وأكدت له في سياق حديثه، على اهتمامي الزائد بفكر ابن رشد التنويري، الذي استبق به عصر التنوير بفترة طويلة.
وبينما كانت الأفكار تدور في رأسي حول الحضارة الأندلسية وأبعادها، سألت "إميليو" مستوضحًا عن الكتب التي أصدرها حتى الآن، ردّ علي بإسهاب عن كتبه، ثم ذكر كتابًا بعنوان أثار اسمه دهشتي "عندما كنا عرباً" .. لاحظ استغرابي من سماعي العنوان، فكرّره مرة أخرى، وبيَّن لي أنه قدمه ووقعه قبل فترة وجيزة من الوقت في إحدى قاعات "البيت العربي" في مدريد، وأنه سيزور بيروت لتقديمه في الجامعة الأمريكية.
وهنا وجدتني أسأله بحماس زائد: "هل لك أن تعرفني على كتابك بكلمات موجزة؟"
فأجابني قائلاً: "أكدت في كتابي على أن الإسبان كانوا عرباً بشكل حقيقي لفترة تزيد عن خمسمائة سنة، كانوا عرباً بطريقة تفكيرهم وطريقة كتابتهم ومعارفهم وحتى نظرتهم الأخلاقية للحياة والمجتمع، وأنهم بالإنجازات العلمية والجغرافية والفلكية والفلسفية التي حقّقها العرب والتي امتلكها الإسبان عندما كانوا عرباً، استطاعوا أن يبنوا إمبراطوريتهم العظمى."
وأضاف مستدركاً أن كريستوفر كولومبوس هو ابن المعرفة الجغرافية العربية الإسبانية، وأن اللغة الإسبانية كانت تكتب بحروف عربية، وتسمى "الخاميدو" وكانت منتشرة بين المسلمين والمسيحيين واليهود السفرديم، بينما كانت اللغة العربية الفصحى لغة الأدب والدين والعلم.
ثم بيّن لي أنه تطرق في كتابه لكل الأسماء التي أثرت فعلاً في النهضة الأوروبية، وركز كثيراً على ابن طفيل، معتبراً أن قصته "حي بن يقظان" أخذ منها الكاتب الإنجليزي "دانيال ديفو" قصته الشهيرة "روبنسون كروزو"، التي نشرت سنة 1719، كما أخذ عنها الكاتب الإنجليزي "روديارد كبلينغ" شخصية الفتى ماوكلي" بطل مجموعته القصصية في كتاب "الأدغال". "
وبين بكلمات منقاة بعناية بأن قصة"حي بن يقظان" هي أعظم وأجمل قصة فلسفية صوفية رمزية في كل العصور الوسطى، أثارت شغف الأدباء والفلاسفة والمتصوفين والمفكرين لقرون عديدة، وتمَّت ترجمتها إلى أكثر من أربعين لغة حتى زمننا الراهن، لا ينافسها في هذا أي عمل عربي آخر، وتمكّن فيها ابن طفيل الإجابة عن أسئلة كثيرة حول الوجود والحضارة، من خلال التفكير والتأمل، واستطاع بهذا إنشاء مذهب فلسفي كلامي خاص به، يعترف له الكثيرون، بأن ما قام به هو أهم وأقدم محاولة إبداعية في هذا المجال.
تحدث عن أسماء أخرى ذكرها في كتابه، وتكلم في هذا الشأن عن شخصية الطبيب والفيلسوف ابن سينا، الذي عُرف بإتقانه أربع لغات، وكانت كتبه تدرس في كل جامعات أوروبا، واستطاع شفاء أمراض كثيرة لم يعرف العالم طرقاً للشفاء منها، كما تحدث عن ابن رشد وفلسفته العقلانية، وعن فكر ابن خلدون الذي أثَّر كثيراً على النهضة الأوروبية.
وأنهى حديثه لي باقتباس من المستعرب الإسباني المعاصر "خوليو سامسو" مؤرخ العلوم العربية الأندلسية في جامعة برشلونة: "لولا ما فعله العرب، أو الإسبان عندما كانوا عرباً في مختلف العلوم، لما كان هناك احتمال بحدوث النهضة الفكرية والعلمية التي نراها اليوم".
ثم استطرد بالتحدث عن العلامة ابن خلدون؛ مبيناً أنّ إشبيلية نظمت معرضًا دولياً في عام 2006 تحت رعاية الملك كارلوس، في ذكرى مرور ستة قرون على وفاة ابن خلدون ذي النسب الأندلسي ومؤسس علم الاجتماع، شارك فيه بعض الرؤساء العرب، واستمر قرابة خمسة أشهر، بمشاركة مجموعة من الدول العربية والأوروبية، قدمت في المعرض وثائق ومخطوطات، ذات صلة بالقرن الرابع عشر الذي عاش فيه ابن خلدون.
كما أقيمت على هامش المعرض ندوات وفعاليات ثقافية في إشبيلية وبعض المدن الإسبانية، وسعى المعرض من كل هذا التعريف بعظمة التقدم الثقافي والفلسفي والتجاري والسياسي في منطقة البحر الأبيض المتوسط، ودعا إلى دعم العلاقات التاريخية والثقافية بين البلدان المتوسطية، وتقوية الحوار الثقافي بين الشعوب.
التفتُ إليه، قائلاً: "هل كرمت إشبيليا غير ابن خلدون؟"
أجابني: "تم تكريم شعيب أبو مدين، بإقامة نصب تذكاري له في قريته قطنيانة القريبة من إشبيلية، وهو شاعر ومتصوف، تتلمذ عليه محيي الدين بن عربي، ولقبه بمعلم المعلمين."
ثم تابع حديثه قائلاً: "إشبيلية تذكر بفخر واعتزاز أبناءَها النابغين في العلم والشعر والأدب والفلسفة، من أمثال: شيخ المتصوفين محيي الدين بن عربي، والشاعر ابن فرح الإشبيلي، والشاعر ابن هانئ الأندلسي، والطبيب ابن زهر الإشبيلي، وغيرهم".
نظر "إميليو" إلى ساعة يده، وهو يقول: "لدي محاضرة بعد نصف ساعة، ولا بد لي من اللحاق بطلابي في الجامعة."
شكرته على الوقت الذي خصني به، وبعد مغادرته تجولت في حديقة المؤسسة، وجدتها واسعة مزروعة بأشجار النخيل والليمون والزيتون والبرتقال، ووقفت أمام شجرة زيتون زرعت بمناسبة الذكرى السبعين للنكبة الفلسطينية بحضور شخصيات رسمية من مدريد وإشبيلية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه


.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما




.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة


.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير




.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع