الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الخراف الضالة - رواية- القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد (10)

احمد جمعة
روائي

(A.juma)

2021 / 6 / 3
الادب والفن


قبل نهاية 2012

تناصف العام الثاني وطرق الخريف أبواب نهاية 2012 وما زالت تخوم تداعيات حالة الطوارئ تخيم على البلاد.
دواليب العصي دارت مرة أخرى بمرور سنة أخرى على الأحداث الدامية، وسرت شائعات عن بداية حرب أهلية على الأبواب في ظل تفاعل كيمياء الحرب النفسية المتصاعدة مع ما اكتنزته النفوس من احتقان يتوق للانفجار حينما اصطدم الجميع بجهات مسدودة مع عودة تنامي العنف، بدا للناس في المحرق أن عليهم اللجوء للاعتماد على الذات في المواجهة التي بدأت تلوح في الأفق مع اشتداد الانسداد في العودة للوضع الطبيعي لما قبل الدوار، وقد برزت وجوه وأصوات كانت خافتة فيما اختفت وجوه وأصوات سادت الفترة السابقة وقد دفع ذلك شباب المدينة للبروز في الواجهة وتراجعت الوجوه التقليدية التي طفت علي السطح عندما وقعت الأحداث الدامية في السنة المنصرمة، ومن الوجوه التي طفقت تبرز على الساحة يعقوب الذي رغم أنه لا ينتمي عمرياً لفئة الشباب يقود المظاهرات والاحتجاجات الشبابية وقد أعجب ذلك سعد بن الناصر الذي استدعاه ذات مساء بمنزل بوعلي الهوى وصافحه وما أن وقع نظره عليه قال مازحاً.
- كان يختبئ فيك قائد سياسي ولم نكن ندرك ذلك.
شعر الآخر بالخجل من هذا الإطراء الذي جاء من أهم شخصية بالبلد والتفت نحو خاله المستلقي على الكنبة بالقرب من مدفأة كهربائية كانت تبعث بالدفء في وصاله المجمدة بفعل البرودة الشديدة التي حملتها موجة الرياح الشمالية المنحدرة من وراء موجة المطر الأخيرة، كان منكفئاً في زاوية من الصالة وقد تدثر بالأغطية القطنية السميكة وبقربه علبة ترمس الشاي الحليب بالزنجبيل الذي تجيد أعداده شقيقته المتواجدة إلى جانبه منذ أن خرج من المستشفى بعد إصابته بالوعكة الغامضة لبضع أيام، كان المكان الذي انزوى فيه بصالة المنزل الجديد الذي خصصه له سعد بن ناصر هو ملتقى الرجلين الذين أصبحا في الفترة الأخيرة أكثر من صديقين.
- أين شقيقك حمد؟
اغتنم يعقوب الفرصة التي أتيحت له وقرر إيصال رسالة شقيقه حول الفتاة المحتجزة لدى الجهات الأمنية.
- محبط بسبب اعتقال المرأة المغرم فيها.
- من الجماعة؟
- نعم طال عمرك إنه مشغول بالبحث عمن يفرج عنها.
انتظر ردة فعل الرجل العجوز الذي تطلع إليه وهو يبتسم فيما بدا بوعلي الهوى بعيداًً عن متابعة الحديث، هز الرجل رأسه ومط شفتيه ونظر إلى يعقوب وقال مازحاً.
- ما رأي خالك؟
التفت الإثنان نحو الهوى الذي تفحصهما قائلاً.
- تابعت كل حديثكما من البداية وأرى أن تساعده، إن كانت امرأة محبة فستحفظ له مكاناً في قلبها، وإن كانت امرأة كارهة فيعرفها ويتخلص من وهم حبها وبذلك داوى جرحه.
حين نقل يعقوب خبر ما جرى بينهما إلى حمد تطلع الآخر نحوه وقال بارتياح ظاهر.
- ما قاله الخال هو فعلاً ما سيحدث لي، هذا ما أردته، اختبار الحب.
- كيف وقعت بهذا الفخ؟
- يعقوب.. المسألة شائكة والعاطفة لم تعرفها في حياتك ومصيرك سيكون مثل الخال، لا زوجة ولا أولاد، أنت تسير على دربه بعكسي أنا ابحث عن حياة وأسرة..هل في ذلك غموض؟
شهدت الأيام التالية انبعاجاًً في النفوس وتمخضت التداعيات التي تلت إعلان حالة الطوارئ عن انشقاقاً اجتماعياً وطائفياً، ودخلت البلد في عتمة مناخية خيمت على المدن والقرى وبدت مظاهر التوتر عند الحواجز الأمنية المنصوبة في منتصف الجسور وعلى مداخل الأحياء والطرق فيما توغلت قوات مكافحة الشغب إلى أعماق القرى المحتقنة وجرت أعمال التفتيش والاعتقال بصورة يومية بحثاً عن المحتجين، كانت الأوضاع العامة هادئة والسكون يطبق على الأمكنة التي شهدت خلال الفترة الماضية اضطرابات دامية وقد زرع هذا الهدوء الطمأنينة في نفوس الناس الذين اعتلت مشاعرهم خلال مرحلة العنف والخوف والقلق، ترقب الكثيرون ردة فعل الأطراف المشتركة في الأحداث وتبدلت المشاعر بين خوف من حالة الغموض التي تكتنف الوضع وبين ارتياح انعكس على المشاعر لدى البعض للاستقرار الذي حل محل الاحتقان السياسي الموازي لأعمال العنف التي سادت.
توقف كل شيء وأصبح الوضع برمته كأنه في مرحلة انعدام الوزن حيث لا حراك سياسي ومظاهرات متقطعة و احتجاجات مماثلة، وترقب الناس ما تسفر عنه فترة حالة الطوارئ، غير أن الحياة العامة مضت طبيعية في الشوارع والأعمال والناس خرجت للعمل واللهو والتسوق وارتياد المطاعم والمقاهي وذهب الأطفال إلى المدارس وأخذت الحياة تعود إلى طبيعتها رغم حضر التجول وانتشار الحواجز الأمنية وأعمال التفتيش المتزامنة مع حملات الاعتقال المستمرة، في هذا المناخ المتقلب والمشوب بالغموض اندمج يعقوب مع الشباب في الأعمال الشعبية وزج بنفسه في دوامة الأعمال التطوعية من خلال اللجان التي تشكلت لإدارة المستشفيات والمراكز الصحية فيما واظب حمد على متابعة أخبار فتاته المحتجزة إلى أن تأكد من الإفراج عنها بعد أيام قليلة ولكنه صدم بوجود هاتفها الجوال مغلقاً فيما لم يتمكن من الاتصال المباشر بها وقد ارتفعت درجة حرارة عاطفته التي انطفأت خلال الأحداث بعد أن علم بإلقاء القبض عليها ثم الإفراج عنها بعد أيام.
تراوحت صحة الخال بين المد والجزر، مرت أيام كان خلالها نائماً طوال الوقت لا يكاد يصحو، يتناول أدويته ثم يعاود النوم ويستيقظ بالليل يتأمل السماء ويخرج للفناء بضع دقائق ثم يعود لغرفته وكانت الأيام التي يزوره فيها سعد بن ناصر هي الوقت الملائم الذي يجد نفسه محاطاً بمشاعر البهجة من خلال ما يتناوله الحوار مع الرجل من تفاصيل الأيام الخوالي، كان سعد بن ناصر الذي ما زال ينتظر موافقة زوجته لاستقباله بالبيت يقضي معظم الأوقات في قصره بجانب العشيقة الأوكرانية لونا التي لم يستطع بعد كل السنوات التي قضاها معها أن يتصرف معها بنذالة.
شكلت محاولة عودة سعد بن ناصر إلى أسرته نقطة تحول في حياة شخص آخر هو يعقوب، وقد حدث مرة أن شاهدها وهو في زيارة له إلى القصر حين رآها وهي تتجول بالحديقة المطلة على الباحة الخارجية، شهق فجأة وكأنه لأول مرة يرى امرأة بهذا الجمال والرشاقة، فأسرع الخطى نحو الداخل من دون أن يواصل النظر إليها، ولكن ظل طوال الليلة التي قضاها بعدها وأفكاره معلقة بها لم يعد يعقوب قبل وبعد مشاهدتها، لقد أحدثت هزة داخلية وانتابته رعشة جسدية لم يسبق أن اجتاحته من قبل، كان منظرها وهي بقميص أحمر خفيف وسروال جينز أسود قد تركت فيه انطباعاً غير مسبوق وهو الذي لم يحدث أن توقف أمام امرأة بهذا الشغف الداخلي الغريب.
- كانت امرأة أجنبية لم أر مثلها من قبل.
هكذا وصفها لشقيقه حمد بعد أن عاد إلى المنزل وأردف مازحاً.
- هل تظن أنها زوجة بو محمد؟
- منذ متى أنت تهتم بالنساء؟
سأله حمد وهو يبتسم.
- منذ رأيت هذا الغزال الانكليزي.
- كيف عرفت أنها انكليزية؟
صمت يعقوب ثم انفرجت أساريره عن ضحكة صغيرة قائلاً
- كانت طازجة.
- ماذا؟
- ولّد لدي انطباع بأنها تعيش معه
نظر إليه يعقوب بتأمل وقد بدت ردة فعله مقتضبة وقال بلهجة أبوية منفعلة.
- اسمع .. لا دخل لنا بحياة الرجل ولا لمجرد التخمين، أنسى الأمر نهائياً وابتعد عن النظر إليها في المرة التالية أذا ما كتب لك العودة هناك لسبب من الأسباب.
ترك حمد المكان وظل يعقوب وحده يستعيد الوقت كله الذي قضاه هناك، راحت عيناه تجولان بين السقف والأرضية وكأنه يرى المكان لأول مرة، أخذ يستعيد زوايا المنزل بأرجائه كلها وهو البيت الذي خصصه لهما سعد بن ناصر إكراماً للخال من دون أن يعرف الدوافع والأسباب وراء هذه الكرم، كان شعوره في هذه اللحظة خليطاً بين النشوة العابرة بالسعادة لدى رؤيته للمرأة الأجنبية بقصر سعد بن ناصر.
على الضفة الأخرى راح حمد يطوف الشوارع مستعيداً هو الآخر وسط كآبة عابرة طيف زهرة التي خرجت للتو من الاحتجاز وفسر شعوره بأنه حالة من التيه الناجم عن فقده للحب وتذمره من العمل الذي بدا له بعد الأزمة مملاً ويتطلع لتغييره، فقد سأم العمل بنفس الوظيفة كل هذه المدة وأخذ يتطلع لتغيير في مجال العمل، جاءت الأحداث المتلاحقة لتفرغ رغبته المكبوتة في التحرر من روتين ما يقوم به هناك، حاله حال الكثيرين من الذين تولد لديهم شعور بالرغبة في الإفلات من أسر الوظائف التي كانوا يقومون بها طوال السنوات الماضية، عكف يدّور الأفكار في رأسه ويصب فيها خيالاً جارفاً ينحى به للدخول في مغامرة تغير مجرى حياته.
في المنزل الجديد انخرطت عائشة شقيقة بوعلي الهوى في عمل متواصل لترتيب المكان الذي أصبح بالنسبة لها مع الوقت عبئاً غير متوقع من حيث التنظيف والرعاية وصيانة المرافق المتعددة، فقد اعتادت على المنزل القديم المحدود المرافق الذي لم تكن توليه الأهمية نظراً لغياب الجميع عنه بالخارج، أما هذا فما أن انتقلوا إليه حتى أصبح الواحد منهم لا يكاد يغادره إلا لساعتين أو ثلاث ثم يعود إليه بالإضافة إلى استقرار بوعلي الهوى فيه طوال الوقت بعد مرضه الأخير وزيارات البعض من أصدقائه من البحارة القدماء والجيران ممن دأبوا على معاودته بين وقت وآخر عندما انكفأ على نفسه وآثر الجلوس في المنزل وهو الذي لم يكن يبرح الشوارع والمقاهي والأحياء والسواحل، ، كل ذلك مضى وانتهى إلى غرفة مطلة على البحر يتناغم فيها مع الأيام الخوالي، ينظر للبحر من بعيد ويتلمس هيبته ويتذوق طعمه مع الهواء الرطب المنبعث من الرياح الجنوبية المحملة بالندى، اكتفى الهوى بهذه الصومعة المنزلية على البحر، يلقي عليه الأصدقاء والجيران بالتحية من وقت لآخر ويسعى الجميع للإحاطة بتنبؤات الرجل وسبر غور الحوادث المحتمل وقوعها لإدراكهم بأنه يمتلك قوة سحرية هيأت له قراءة الآتي، ألفوا الرجل وألفهم حتى في أوقات المحن التي يتعرضون لها أو تتعرض لها البلد كانت العلاقة تحكمها كيمياء سرية لا يبدو لها وجه سوى الألفة المزمنة بينه وبينهم، عندما تعرض الهوى لوعكة صحية غامضة ربطوا بينها وبين لغز حياته المبهمة طوال العقود السالفة، كان مرضه واحدة من الأحداث التي تداعى فيها الحي إلى الالتفاف حوله، وفي هذه الأثناء تعمقت علاقته بعائشة شقيقته التي كانت في السابق عبارة عن علاقة أخوية روتينية يدخل ويخرج الدار وكأنها قطعة من أثاث المنزل رغم الاحترام والمحبة التي تسود العلاقة بينهما، وفي الفترة الأخيرة حينما سقط الرجل ونقل الى المستشفى وظل في حالة صامتة ومنكفئ على ذاته ولجت المرأة التي كانت شقيقته فيما سبق إلى أخذ دور الراعية الصحية والمتحدثة الروحية والمواظبة على الجلوس بالساعات حوله والتطرق إلى كل الموضوعات التي لم تكن في سابق الزمن محور للحديث بينهما، كانت تدخل وتعلو وجهها ابتسامة مشرقة وتتدفق حيوية برغم تقدمها في السن حيث قاربت من السادسة والخمسين، تجلس بقربه وتنظر في عينيه لتبحث أولاً عن ملامح الحالة النفسية والمزاجية من خلال نظراته الغائرة والتي يحيط بها عادة الإبهام فتعود من جديد لتتأمل وجهه ثم تبادره في كل مرة بسؤال يكون مدخلاً لفتح الحديث.
- هل نمت جيداً؟
- هل تناولت دواءك؟
وكثيراُ ما يلفق الرجل الإجابات او يعكس السؤال حين يبادرها هو الآخر بطرح الأسئلة مثل..
- هل نام يعقوب بالدار؟
- هل ذهب حمد للعمل؟
كان يتعمد عكس الأسئلة من زاويته ليتخلص من أسئلتها التي يعرف أنها ستقوده لأبعد من مجردة السؤال، فقد كانت تتلصص على حركاته السرية المشوبة بالريبة وهي الحركات التي رافقت طفولته وشبابه ورجولته حتى كهولته، والتي من خلالها يعتكف المكان ويغلق عليه الباب ويختلي بذاته لساعات وأحياناً لأيام، كانت الأيام الأخيرة التي تلت خروجه من المستشفى تلازمه لتعويض الزمن الغابر الذي قطعه بين البحر واليابسة طائراً بحرياً وبرياً لا يستقر على شجرة ولا ينتهي عند منعطف إلا ويغادره لمنحنى آخر، فمضت السنون تطوي بعضها حتى كادت تنتهي عند حافة الآخرة، وقد غفل الجميع عن تأمل وجوه بعضهم البعض، كانت عائشة أكثرهم إفراطاً في هدر الوقت، تخطت الخمسين من عمرها ولم تكد تجلس ساعة واحدة متواصلة معه حتى في الحالة التي يعتزل فيها الخارج ويعتكف بالدار، كان يغلق عليه الباب وينتهي به المطاف لأيام لا يفتحه إلا لاستلام صينية الطعام كأنه في سجن وما زالت تذكر الساعات التي كانت تبكي فيها وحدها وهي ترنو بسمعها في فصل الصيف إلى عزف جارهم زايد المولع بالعود حين يصعد إلى سطح منزله الصغير الملاصق لمنزلها في غفلة من الجيران ويختلي بنفسه وينغمس في غناء " ليه يا بنفسج بتبهج وأنت زهر حزين" وغيرها من الأغاني القديمة فتصعد هي الدرج حتى منتصفه وتجلس على إحدى عتباته وتغمض عينيها وترنو إليه وهو يعزف على العود، ظلت لسنوات طويلة تستمع إليه وتصادفه في الطريق عندما كان عمرها في العشرينات وقد التقت عينيها بعينيه ولم يصادف أن تحدثت معه وكانت المرة الأولى التي رأته وجهاً لوجه وتحدثت إليه عندما زار شقيقها عند خروجه من المستشفى، جاء لعيادته وقد استقبلته عند الباب ورحبت به وقادته لحجرة الهوى الذي كان يحيط به عدد من رجال الحي ممن جاءوا للسلام عليه والاطمئنان على صحته، يومها رأت وجهه بعد كل تلك السنوات وربطت بين ملامحه وبين عزف أنامله، تأملت وجهه بعمق وأبطأت في اقتياده لغرفة بوعلي الهوى لتتمكن من اكتشاف أسرار السنين التي كانت تستمع فيها إليه من وراء حاجب الأسمنت أعلى السلم.
- اهدئي ولا تتعسفي في حكمك على الرجل.
رد عليها وقد علت وجهه شحوب ضاحكة كأنه يسخر من حكايتها التي سردتها له عن مغازلة الرجل لها عندما كانت بعمر الربيع على حد تعبيرها، تمعن في وجهها واسترسل قائلاً..
- ربما رأى شقيقتك التي لم تولد بعد.
أيقنت أن الهوى عاد إلى مزاحه الغليظ فتركته وخرجت وظل يهز رأسه مردداً لنفسه.
- كنت أتلصص عليكِ من خلف السلم لو كنت تعلمين.
في الخارج وعند تقاطع شارع سترة بمدخل إشارة المرور المنعطفة باتجاه قرية سترة تعطلت سيارة حمد واضطر لركنها عند ركن من الطريق الفرعي، كان الوقت مساءً والهدوء ساد الشارع وعلت وجوه بعض المارة شحوب وغمر بعضها الوجوم إثر الإجراءات التي سادت بعد تطبيق قانون الطوارئ، عندما نزل من السيارة وراح يبحث عن ورشة تصليح السيارات رمقته بعض العيون المارة بتوجس مبطن ولاحقته حتى انتهى به المطاف عند باب ورشة قديمة صغيرة، وقف على مقربة منها وقد طرقت طبلة أذنيه أصوات هي مزيج من رنين ونشيج تداخلت كأنها دواليب هواء تدور في فراغ شعر معها بغرابة الموقف، فاسترجع المرات العديدة التي كان فيها يجول هذه الشوارع والطرق ويدخل القرى من دون الإحساس بهذا الشعور الذي يشبه الهذيان الداخلي، كانت العيون التي تلاحقه هي ذات العيون المسترخية التي ألفها من قبل لكنها الآن تحولت إلى عيون مناكفة متوهجة تفضي إلى الانفصام عن الاسترخاء المعتاد، عزى ذلك لحالة الطوارئ ولكنه شعر رغم ذلك وربما لأول مرة بحجم الثغرة الغريبة التي نمت بين الناس هنا وهناك، لم يكن مثل يعقوب يسبح بانسياب متقن مع نغم الشارع، هو يختلف عن شقيقه فقد كان منخرطاً في عاطفة جياشة ومنفعل بعلاقة ودية رأى من خلالها الناس مثل بعضهم البعض، لم يعش الأحداث من الداخل ولم ينفلت زمامه منذ الأيام الأولى للاضطرابات وهذا ما جعله يفاجئ في هذه اللحظة بالاختلاف الشاسع الذي طرأ على نمط العيون التي تنظر له وهو يقطع شوارع كان قبلها يقطعها بصورة طبيعية من دون هذا الإحساس الغريب الذي انبثق الآن حتى أنه خشي أن يتمادى في التوغل فيصطدم بكتلة مشاعر أعقد من هذه التي تجتاحه الآن، فما كان منه إلا أن استدار وعاد إلى موقع السيارة ثم أجرى اتصال بأحد أصدقائه لأنه لم يجرؤ على الاتصال بيعقوب الذي ينتظر منه مثل هذه الهفوة لو علم بتواجده هنا.
- لا أعلم ماذا يجري في البلد ولكن سيارتي معطلة هنا في منطقة سترة عند مدخل القرية.
لم يتلق للوهلة الأولى رد حتى كرر المقطع الأخير من كلامه..
- أنا في منطقة سترة وسيارتي معطلة.
قال الآخر.
- أنت تمزح.
فرد حمد ضاحكاً
- هل ألقيت عليك للتو بنكتة مثلاً؟
قال الآخر ..
- اتصل بالخدمة السريعة وارجع بسرعة.
اختلطت الأفكار وعصفت به المشاعر المتذبذبة ووقف حائراً بعد أن أنهى المكالمة يسأل نفسه من أين يبدأ؟
كان طيف فتاته زهور عالقاً بذهنه، أراد أن يقطف ثمرة سعيه بإطلاق سراحها ولكن احبطته سيارته المعطلة وأفسدت عليه شعوره، اقتصر قلقه في هذه اللحظة على السيارة والعودة إلى المحرق التي رأى فيها وهو قابع هنا شيئاً خيالياً يتراءى له لأول مرة بمثل هذا الإحساس الذي أفضي به إلى شيء من الغموض، كأن السماء غطيت بطبقة من الغبار انعدمت معه الرؤية التي كانت واضحة قبل أن يأتي إلى هنا، رأى نفسه خارج حزام البلد كما عرفها.
- ماذا فعلنا في أنفسنا؟
كان احتجاجه على نفسه وعلى الأحداث التي مرت وعلى السيارة التي تعطلت وعلى الفتاة التي تجاهلت الرد عليه وهربت إلى مكان لا يعلم، كان مشوشاً حد الجنون، أشعل سيجارة ونظر إلى سيارته وحزم أمره وقرر في داخله أن ينسلخ من هذا التمزق الداخلي، اتصل في يعقوب وسأله ..
- هل عندك مكان لي؟
استغرب الآخر السؤال ولكن رد عليه بحسب ما فهمه..
- دائماً هناك مكان.
بدت سلسلة اضواء مصابيح الشوارع كأنها قناديل منقوشة على وجه الغبار الذي غطى وجه الليل وبزغت من وسط سكون المدينة أثناء العودة، كانت الطرق مستباحة للوحشة وبدت الشوارع العامة حينما قطعت السيارة طرقها كانها مدينة أشباح ولولا فولول دوريات الأمن وحواجز التفتيش المنتشرة على الجسور والكباري ومداخل الضواحي لبدا الأمر خرافياً، شعر برأسه يتفسخ كأنه طاحونة هواء قديمة تتأرجح تحت ضربات تيارات الهواء الساخن المنبعث من طبقة الغبار الكثيف الخانق، ظل يغلق ويفتح نافذة السيارة ما اضطر شقيقه يعقوب إلى ممازحته.
- هل تريد تريد تغيير الطقس؟
- أشعر كأني أمشي فوق الماء.
تخلص يعقوب من سيجارته بقذفها في الشارع والتفت إليه مهزهزاً رأسه.
- رويدك..أنت في بداية دخولك الغيمة الصفراء، أمامك الحمراء والبرتقالية حتى تحصل على موعدك للعشاء على سفرة ملائكة الليل.
خرجت من الآخر ضحكة مقتضبة صغيرة وقال متسائلاً بغرابة.
- ماذا تعني بكلامك الغريب؟
حينما بلغا منتصف الجسر الذي يربط بين مدينتي المحرق والعاصمة توقف الكلام بين الاثنين خفض يعقوب أضواء سيارته عند الحاجز الأمني ولدى اقترابه من رجلي الأمن المتشبثين بسلاحهما أنزل نافذة سيارته وقبل أن يتوقف بادره أحدهما بإشارة سريعة أن يمضي.
- استغرب.. كيف يميزون بين الوجوه.
قال حمد ذلك وأخرج سيجاره وأشعلها.
- نقشت المحنة على الوجوه أوشاماً لن تزول أبداً.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأسود والنمور بيكلموها!! .. عجايب عالم السيرك في مصر


.. فتاة السيرك تروى لحظات الرعـــب أثناء سقوطها و هى تؤدى فقرته




.. بشرى من مهرجان مالمو للسينما العربية بعد تكريم خيري بشارة: ع


.. عوام في بحر الكلام | الشاعر جمال بخيت - الإثنين 22 أبريل 202




.. عوام في بحر الكلام - لقاء مع ليالي ابنة الشاعر الغنائي محمد