الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اللَّحْظَّةُ الماركسيَّة

عبدالرزاق دحنون
كاتب وباحث سوري

2021 / 6 / 3
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


محاولة جعل كارل ماركس يتحدث لغة شعبية بسيطة مفهومة للجميع تُثير مشكلات لها أول وليس لها آخر، ولكنها محاولة ليست مستحيلة، فأنت تستطيع الآن في هذه اللحظة التاريخية أن تعكف على قراءته، وستكون سعيداً إذا استطعت فهمه، لذلك ستستعين بالذين ادعوا أنهم يقومون بتوضيحه وتفهيمه من خلال كتبهم وأبحاثهم ومحاضراتهم ولكنهم في الغالب ينتهون إلى تركك في متاهة بين نظريات وأفكار عسيرة الفهم والهضم على أدمغة بشرية تعيش عصراً آخر عن عصر الرفيق ماركس.

أجرؤ على القول بأن المتسول الذي يقف على أرصفة المدن المكتظة بالناس المتخمين ويطالب بحقه: من مال الله. يفهم ما أراده ماركس من كده في مشروعة لنصرة الخلق المتعبين -على بساطة هذا المتسول وأميته- أكثر منا نحن الذين نحاول فهمه أو تفهيم فلسفته التي أراد من خلالها ليس تفسير العالم فحسب بل تغيره. ما العمل لفهم ماركس على حقيقته بعيداً عن ركام الأيديولوجيات التي غلَّفت مشروعه الفكري، وهل حقيقة نمتلك الشجاعة والجسارة الفكرية للقيام بذلك؟

ليس العمل سهلاً في حالة البؤس بكل تأكيد، وها قد أصبحت أسرة ماركس المؤلفة من ستة أفراد أكثر بروليتارية في طابعها أيام سنوات العيش في لندن. ولم يكن ماركس يستطيع الخروج في بعض الأحيان من منزله لأن ملابسه موجودة في محل الرهونات. حتى الورق الذي يكتب عليه لم يكن موجوداً، وكذلك ضرورات الحياة لأسرته. وخلال الفترة التي عاشها في "دين ستريت" في لندن ولدت طفلته فرانشيسكا وماتت المسكينة بعد سنة من الفقر والعوز. ولقد وصفت زوجته جيني فون فستفالين الأيام الصعبة في خطاب إلى صديقة أمريكية:

"أطفالنا الثلاثة يرقدون على الأرض ونحن جميعاً نبكي الملاك الصغير الذي كان جسده بلا حياة في الغرفة المجاورة. وقد حدثت وفاة طفلتنا المحبوبة ونحن في عوز شديد"

ما الذي كان يسعى إليه هذا الفيلسوف الفقير في "رأس المال" والذي "أَقَـامَ بِالضَّجَّـةِ الدُّنْيَـا وَأَقْعَـدَهَا"؟ هل يمكننا القول بأنه من أولئك الفلاسفة الكبار الذين يتمتعون بقدرة مذهلة على الاستمرار، فقد تكامل مشروعه المشاعي فكرياً واقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، فهو الذي أطلق هذه الحركة المشاعيَّة التي انتظم فيها ملايين الجياع في شتى القارات، وأدت إلى تحسين جذري في معيشة الكادحين على نطاق كوكب الأرض، وهذا ما سعى إليه من تأليف كتابه المشهور رأس مال.

وهل يمكننا القول مع شاعر العراق الأكبر محمد مهدي الجواهري:

وَلِلْكَآبَـةِ أَلْـوَانٌ، وَأَفْجَعُــهَا
أَنْ تُبْصِرَ الفَيْلَسُوفَ الحُـرَّ مُكْتَئِبَـا

تَنَـاوَلَ الرَّثَّ مِنْ طَبْـعٍ وَمُصْطَلَـحٍ
بِالنَّقْـدِ لاَ يَتَأبَّـى أَيَّـةً شَجَبَـا

وَأَلْهَـمَ النَّاسَ كَيْ يَرضَوا مَغَبَّـتَهُم
أَنْ يُوسِعُوا العَقْلَ مَيْدَانَاً وَمُضْطَرَبَـا

وَأَنْ يَمُـدُّوا بِـهِ فِي كُلِّ مُطَّـرَحٍ
وَإِنْ سُقُوا مِنْ جَنَاهُ الوَيْـلَ وَالحَرَبَـا

لِثَـوْرَةِ الفِكْـرِ تَأْرِيـخٌ يُحَدِّثُنَـا
بِأَنَّ أَلْفَ مَسِيـحٍ دُونـهَا صُلِبَـا

ليسمح لي القارئ هنا بالعودة إلى تلميذ ماركس النجيب لينين الذي يقول في مقال منشور في جريدة "البرافدا" العدد 251 السابع من نوفمبر/تشرين الثاني 1921:" حين ننتصر في النطاق العالمي، سنصنع من الذهب، كما أعتقد، مراحيض عامة في شوارع بعض أكبر مدن العالم. وسيكون ذلك أعدل استعمال للذهب واوضحه دلالة للأجيال التي لم تنس أنه بسبب الذهب ارتكبت أبشع المجازر بحق الإنسان"

حلمان يتخطيان الشجاعة إلى الجسارة في قول لينين: حلم انتصار الجياع وبناء مجتمع العدل والوفرة، وحلم التخلي عن الملكية، وجعلها مشاعاً بين الناس. تحوَّل لينين في حياته إلى طاقة روحية خالصة مستثمرة لأجل الجياع. لقد أهلك نفسه من أجل الفقراء المساكين. وهذه من نوادر التاريخ، إذ المعتاد أن يهلك الحاكم نفسه من أجل نفسه.

حكم لينين دولة مترامية الأطراف فترة قصيرة إلا أنه لم يخص نفسه بشيء من خيراتها، بل اختار الفقر وحتى الجوع فمات سريعاً. لو عاش لينين بضعة أعوام أخرى لاقترب من تحقيق حلمه في مجتمع لا مالك فيه ولا مملوك ولا قامع ولا مقموع، مجتمع مشاعي كما تبلور في وجدان أهل الحكمة والفلسفة. وهؤلاء الأبدال، ومنهم ماركس ولينين، كما يسميهم هادي العلوي البغدادي-طيَّب الله ثراه- حاولوا عمارة الأرض بالعدل، فما أفلحوا. وكان ما كان مما لست أذكره/ فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر.

اللَّحظة الماركسيَّة التي نتحدث عنها تمثلت في هذه الجسارة التي ميزت ماركس عن غيره في تلك اللحظة التاريخية التي عاش فيها من خلال الابداع والابتكار والجرأة على تحطيم المألوف من العادات والتقاليد والوضع القائم. هل كان ماركس في لحظته التاريخية تلك في مزاج "بروميثيوس" وكانت تقاليده العقلية اغريقية وعملية أكثر منها وسيطة وأدبية ومثاله الأخلاقي هو "يوتوبيا" يكون فيها "التطور الحر لكل فرد شرطاً لتطور الكل وفي النهاية فالمحرك لكل القوانين والمؤسسات هو مدى ما توفره من إمكانيات لكل الأشخاص لتنمية ذاتهم إنماء كاملاً حراً" على حد تعبيره. ويميز هذا الاعتقاد في الحرية، والمساواة، والشخصية الفردية، ويفترق به ماركس عن كل أهل "العقيدة الماركسية" الذين استشهدوا باسمه واستظلوا بظله.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - وفي النهاية
فؤاد النمري ( 2021 / 6 / 4 - 03:33 )
وفي النهاية يؤكد الشيوعي غير البولشفي عبد الرزاق دحنون على أنه يبتذل الماركسية ولا يفهمها إذ يقول ..-وفي النهاية فالمحرك لكل القوانين والمؤسسات هو مدى ما توفره من إمكانيات لكل الأشخاص لتنمية ذاتهم إنماء كاملاً حراً


2 - رائع : ثورة و ادب
حسين علوان حسين ( 2021 / 6 / 4 - 08:49 )
الرفيق العزيز الاستاذ عبد الرزاق دحنون
تحية حارة
مقالة ثرة و ممتعه تجمع الأدب بالفكر الماركسي و تلك هي السبيكة التي قد منها ماركس و انجلز ولينين .
اهنيك من القلب عليها و ألتمس المزيد
كل الحب و التقدير و الاعجاب


3 - السيد عبد الرزاق دحنون
فؤاد النمري ( 2021 / 6 / 4 - 17:26 )
لمادية الديالكتيكية هي التي تحرك كل الأشياء في الطبيعة ومنها القوانين والمؤسسات والمادية الديالكتيكية لا تعنى بالإنسان خلافاً لما تعنى بكل أشياء الطبيعة
الماركسية نظرية علمية والنظريات العلمية تتكامل بدون أهداف مسبقة
كذلك هو العلم وما عدا ذلك فليس إلا تخرصات سقيمة


4 - رفيقي العزيز حسين علوان الحسين
عبدالرزاق دحنون ( 2021 / 6 / 4 - 17:49 )
تحياتي وتقديري
وبعد
هذه التجربة التي خضنا غمارها في محاولتنا بناء مجتمع تتحقق فيه العدالة والمساواة بين الناس والتي استمرّت ردحاً من الزمان ولكنها في النهاية تراجعت وانحسرت. لذلك علينا البحث عن أسباب هذا التراجع والانطلاق من جديد. هل نستطع فعل ذلك؟


5 - الرفيق العزيز فؤاد النمري
عبدالرزاق دحنون ( 2021 / 6 / 4 - 18:05 )


اللَّحظة الماركسيَّة التي نتحدث عنها تمثلت في هذه الجسارة التي ميزت ماركس عن غيره في تلك اللحظة التاريخية التي عاش فيها من خلال الابداع والابتكار والجرأة على تحطيم المألوف من العادات والتقاليد والوضع القائم. هل كان ماركس في لحظته التاريخية تلك في مزاج -بروميثيوس- وكانت تقاليده العقلية اغريقية وعملية أكثر منها وسيطة وأدبية ومثاله الأخلاقي هو -يوتوبيا- يكون فيها -التطور الحر لكل فرد شرطاً لتطور الكل وفي النهاية فالمحرك لكل القوانين والمؤسسات هو مدى ما توفره من إمكانيات لكل الأشخاص لتنمية ذاتهم إنماء كاملاً حراً- على حد تعبيره. ويميز هذا الاعتقاد في الحرية، والمساواة، والشخصية الفردية، ويفترق به ماركس عن كل أهل -العقيدة الماركسية- الذين استشهدوا باسمه واستظلوا بظله أو تحت مظلته.


6 - فيا رجاء تعزز
حسين علوان حسين ( 2021 / 6 / 4 - 20:19 )
الرفيق العزيز عبد الرزاق دحنون المحترم
تحية متجددة
الشيوعيون العراقيون جاهدوا و ضحوا بالأرواح و بالغالي و النفيس ؛ و لقد وهب الشعب العراقي حشع أكبر عقوله ؛ و المسيرة متواصله بعثراتها و مطباتها و وديانها و سفوحها و قفارها و واحاتها .
و لكن مامن خلاص للمجتمع بدون الشيوعية ؛ فإن أخفقنا ؛ فالعراق ولاد بالثوار من الأجيال القادمة ؛ حسب جيلنا أنه لم يقصر في النضال - أنا فقدت أغلب رفاقي و خسرت عينا و ساقاً وو و لست أفضل من غيري .
نعم بالتأكيد سيستطيع الشيوعيون الانطلاق من جديد فالمستقبل لهم ماداموا يواصلون النضال .
كل الحب و التقدير .


7 - النظرية الماركسية
فؤاد النمري ( 2021 / 6 / 4 - 23:11 )
تنتهي النظرية الماركسية إلى المجتمع الشيوعي
في المجتمع الشيوعي تنتفي منظومات الحقوق بكل أجناسها كما تنتفي الحرية والديموقراطية
والمساواة والعدالة الاجتماعية حيث تنتمي كل هذه المفاهيم للمجتمعات الطبقية الغابرة

وعليه يكون الإدعاء بالحرية والتنمية التي توفرها القوانين والمؤسسات غير ذات موضوع


8 - النظرية الماركسية
فؤاد النمري ( 2021 / 6 / 4 - 23:11 )
تنتهي النظرية الماركسية إلى المجتمع الشيوعي
في المجتمع الشيوعي تنتفي منظومات الحقوق بكل أجناسها كما تنتفي الحرية والديموقراطية
والمساواة والعدالة الاجتماعية حيث تنتمي كل هذه المفاهيم للمجتمعات الطبقية الغابرة

وعليه يكون الإدعاء بالحرية والتنمية التي توفرها القوانين والمؤسسات غير ذات موضوع

اخر الافلام

.. تصريح عمر باعزيز و تقديم ربيعة مرباح عضوي المكتب السياسي لحز


.. طقوس العالم بالاحتفال بيوم الأرض.. رقص وحملات شعبية وعروض أز




.. يوم الأرض بين الاحتفال بالإنجازات ومخاوف تغير المناخ


.. في يوم الأرض.. ما المخاطر التي يشكلها الذكاء الاصطناعي على ا




.. الجزائر: هل ستنضمّ جبهة البوليساريو للتكتل المغاربي الجديد؟