الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المدنية السومرية .. نظرة تاريخيّة في الأصالة والابداع ( ٤)

وليد المسعودي

2021 / 6 / 6
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


الآداب والفنون السومرية

ظهور الكتابة

من اكثر ما تميزت به المدنية السومرية هو ظهور فن الكتابة ، ذلك المشروع الذي حقق الخلود لجميع منجزات السومريين ، وعلى مختلف الاصعدة والمستويات بدأ بتسجيل أحداث الماضي وما يحمل من مخلفات سياسيّة واجتماعية وثقافية ، يضاف لها ايضا كتابة الحاضر وما يحمل من حياة يومية معاشة بجميع تفاصيلها وشؤونها ، وانتهاء باستخدامها للتعبير عن الافكار والتطلعات نحو المستقبل ، حيث تسجيل يومياتهم في التجارة والشعر والدين ، وصولا الى الاحتفاظ بالاحكام القضائية وعائدية الممتلكات والاموال (٣٩)
ويعود الفضل في بقاء الكتابة السومرية واثرها الى طبيعة الكتابة بواسطة استخدام الآلات الحادة والالواح الطينية ، تلك التي جعلت حضارتهم متنقلة ليس داخل مجتمعاتهم فحسب بل الى بقية المجتمعات الاخرى كالبابلية والمصرية واليونانية على حد سواء .
والكتابة السومرية من حيث تاريخها في الظهور تعود الى عام ٣٦٠٠ ق م ، حيث ظهرت في مدينة الوركاء ضمن شكلها الصوري الاولي ، في حين بدأت الالواح الطينية في الظهور عام ٣٣٠٠ ق م (٤٠)

الخط المسماري من الصوت الى الصورة

وهكذا لم تكن الكتابة السومرية منفصلة عن البيئة الطبيعية المعاشة في بداية نشوئها ، حيث ارتبطت بتطابق المادة وصورتها مع الكتابة ، اذ ان الاخيرة تعبر من خلال الصور اي بواسطة الكتابة الصورية ، وهذه الكتابة شكلت في بدايتها نقيصتان كما يقول صومئيل كريمر ، الاولى بصعوبتها وتعقيدها حيث الحاجة الى استعمال المزيد من العلامات الصورية ، وذلك الأمر شكل صعوبة من الناحية العملية ، في حين تعد النقيصة الثانية مرتبطة بالقدرة على الاختزال في عدد العلامات والصور الى درجة المعقولية ضمن طرق واساليب مختلفة مكنت الكتابة السومرية من الانتقال من كتابة الصورة الى الكتابة الصوتية (٤١)

اذ تم اختزال عدد العلامات الصورية من ( ٢٠٠٠) علامة في عصر الوركاء الى (٨٠٠) علامة في عصر فجر السلالات الثاني ، لينتهي الامر الى الانتقال من التعبير الصوري الى التعبير بواسطة الاصوات ، حيث تم ايجاد كل كلمة صورية مدركة ماديا ما يقابلها من صوت معين وكذلك الانتقال في شكل الكتابة من ( الاعلى الى الاسفل ) الى الكتابة بشكل افقي من اليسار الى اليمين (٤٢)

علاقة المعبد بالكتابة


لقد تم اكتشاف اقدم كتابة في المعبد وليس في اي مبنى اخر كما يقول طه باقر ، وكل ذلك ماثل في علاقة اهمية المعابد اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وثقافيا ، والمعابد ليست اماكن مخصصة للصلاة فحسب بل مدارس حكومية يتعلم فيها الأولاد فن الخط ، إضافة الى كونها مؤسسات دنيوية حافلة بالكثير من المهام ، من حيث كونها مصانع ومكتبات ومخازن ووسائل راحة ونوم ، اذ تحتوي على غرف خاصة للكهنة والعبيد والنساء اللواتي يهبن انفسهن للمعبد ، فضلاً عن غرف خاصة للاطفال يتم تعليمهم هناك ، وبذلك يشبه المعابد السومرية ( وولي ليوناردو ) باديرة ومعابد القرون الوسطى المسيحية (٤٣)

وكل ما يحدث من صفقات تجارية او اعمال وقضايا اجتماعية وجودية معاشة بحاجة إلى التوثيق كالزواج والبيع والشراء والايجار وغيرها حيث يتطلب الامر فيه ذكرا وتوثيقا كتابيا ، وكل ذلك يتم توثيقه داخل المعابد ، والاخيرة تقوم بتخريج الكتبة والكهنة وموظفي الدولة وبالتالي تعد الكتابة في المعابد ( قضية سندية ) ضمن تصورنا تسجل وتثبت الحقوق والواجبات ، وفي حالة فقدان اي من هذه الوثائق المسجلة كتابيا للعقود المذكورة اعلاه يتم اللجوء الى الحلف باليمين باسم الملك او الاله ، وهنا العودة الى الشفاهي داخل المعابد نفسها ، وكل لوح يتم تسجيل التوثيق فيه يتم حفظه في المعابد وذلك لضمان حفظها من الضياع ويتم التسجيل على شكل وثائق مكونة من ظروف مصنوعة من الطين (٤٤)




الأدب السومري


والأدب السومري ايضا لا يخلو من تأثيرات المعابد والدين عليه خصوصا مع النشأة الاولى له ضمن قصائد واناشيد وتراتيل دينية ، حيث ان الانتقال من الكتابة المدونة لاحداث اليوم وما يحمل من صفات واعمال إدارية وسياسية الى الكتابة الأدبية تطلب زمنا ليس بالقصير خصوصا اذا علمنا ان المدينة السومرية اصبحت مكانا خصبا وذلك لما تحتويه من مكتبات تحفظ فيها الكتب التي تقوم مهمتها بتسجيل الحاضر من اجل تدارك عدم النسيان وتعمير الذاكرة لمن يأتي فيما بعد من الأبناء والاحفاد ، وما تخبرنا به الواح سومر جدير بالدراسة والمعاينة لما تحتويه من آداب تسجل المراثي والقصص والقصائد ، واكثرها كما يقول ول ديورانت من حيث النشأة الاولى لم تكن " اناشيد او اراجيز غزلية بل كانت صلوات وادعية دينية " (٤٥)
او كما يقول صوموئيل كريمر ان اكثر القصائد الغنائية القديمة لم تدون الا بعد ان دخل عليها التبديل والتحوير من قبل الكهنة والكتبة (٤٦)
وهنا واضح دور المعبد في تأليف الكثير من الاغنيات والقصائد وهي حاملة للتكرار حالها حال الاغاني التي يمتاز بها الشرق الادنى ، وهذه القصائد لم تدون الا بعد انتهاء عصر البطولة السومري بنحو خمسمائة الى ستمائة عام (٤٧)
وبذلك يكون الادب السومري حاله حال بقية آداب الشعوب قد مر بتدرجات تبدا بعصر البطولة حيث الملاحم التي جل همها التركيز على البطل _ الانسان ، البطل _ الاله ، البطل _ الملك ، ومن ثم الشعر القصصيّ وشعر التراتيل الدينية واخيرا الشعر الغنائي الغزلي ، وهذا الاخير لم يصلنا منه سوى قصيدتين تم العثور عليهما من بين مئات والاف الالواح الطينية السومرية كما يقول صوموئيل كريمر وهاتان القصيدتان وصلتا ضمن شعر مفكك انشدته عروس ملكية الى عروسها الملك (٤٨)
وهنا لا ينفصل هذا النوع من الادب السومري عن حياة الملوك و تطلعاتهم واحلامهم واهوائهم ولكن رغم ذلك يعد هذا النوع بمثابة البداية الاولى لشعر الغزل حيث سيتطور فيما بعد ويظهر بشكل اوسع في الزمن البابلي ليس لشعر الغزل فحسب بل ضمن بقية تدرجات الادب السومري المذكورة اعلاه .
فأدب الملاحم والبطولات السومري يكاد ان يكون ملهما كبيرا من حيث القصص لدى الكثير من الحضارات المتعاقبة اليونانية والمسيحية فيما بعد ، وضمن أحداث وروايات تحمل في طياتها اثرا سومريا تبدأ بفكرة او قصة ذبح التنين تلك القصة التي ذكرت في صور مختلفة تنتهي في ملحمة جلجامش (٤٩)
وقصة الطوفان ذات المصدر الالهي من حيث التكوين والفعل لمحتوى القصة التي سيكون بطلها ليس نوحا كما هو الحال في التوراة وبقية السرديات الكبرى بل هنا البطل هو " زيوسدرا " احد الملوك السومريين كما يظهره احد الالواح الطينية ، يظهر جالسا بجانب حائط ، يسمع قرار الطوفان واغراق البشر من قبل الالهة ، اذ لم ينجو سواه ومن معه من المخلوقات داخل السفينة التي صنعها ، وبعد النجاة يقدم زيوسدرا الأضاحي والقرابين للاله اوتو من خلال قيامه بذبح كبش كبير (٥٠)



المصادر : -

٣٩ _ ديورانت ، ول / قصة الحضارة / الجزء الاول ص ٢٣١
٤٠ _ المصدر ، نفسه ، ص ٢٣١
٤١ _ كريمر ، صوموئيل ، / الواح سومر ، ص ٤٠٥
٤٢ _ باقر ، طه / مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة / الجزء الاول / ص ٢٦٩
٤٣ _ وولي ، ليوناردو / وادي الرافدين مهد الحضارات / دراسة اجتماعية لسكان فجر السلالات / تعريب احمد عبد الباقي / ص ٧٣
٤٤ _ المصدر ، نفسه ، ص ٧٥

٤٥ _ ول ، ديورانت / قصة الحضارة / الجزء الاول / ص ٢٣٣
٤٦ _ صوموئيل ، كريمر / من الواح سومر / ص ٣٣٤
٤٧ _ المصدر ، نفسه / ص ٣٣٤
٤٨ _ المصدر ، نفسه / ص ٣٦٣
٤٩ _ ان قصة ذبح التنين بدأت في ثلاث قصص سومرية متدرجة ، الأولى في صورة الاله انكي اله الماء ، والثانية في صورة الاله ننورتا اله الريح الجنوبية في صورة البطل الاله _ الانسان جلجامش . يراجع هنا الواح سومر / صوموئيل كريمر / ص ٣٨٤
٥٠ _ ان فكره الأضاحي والقرابين الحيوانية تظهر هنا قديمة تسبق في وجودها ما موجود في التوراة والقصة الابراهيمية مع اختلاف بالطبع بين التقدمة لآلهة متعددة كثيرة وبين تقديمها لاله واحد ضمن عقيدة التوحيد


يتبع لطفا








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأرمن في لبنان يحافظون على تراثهم وتاريخهم ولغتهم


.. انزعاج أميركي من -مقابر جماعية- في غزة..




.. أوكرانيا تستقبل أول دفعة من المساعدات العسكرية الأميركية


.. انتقادات واسعة ضد رئيسة جامعة كولومبيا نعمت شفيق لاستدعائها




.. -أحارب بريشتي-.. جدارية على ركام مبنى مدمر في غزة