الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


امرأة تلامس الغروب … ! ( قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2021 / 6 / 15
الادب والفن


شهد ذلك الشتاء من عام 1975 أهنأ أيام حياتي وأسعدها ، بعد أن أصابتني حمى الحب ، وأثملتني نشوته ، ودغدغت مخيلتي خيالاته الرقيقة العذبة .. اذكر ذلك اليوم جيداً رغم تدافع السنين بعده .. انه منقوش في ذاكرتي وكأنه قد حدث بالامس .. عندما زارنا ابن خالتي عصام لأول مرة ، وأنا مشغولة في التنزه في حديقة المنزل غاديةً رائحة بعد أن اصابني الضجر من كثرة جلوسي في غرفتي منكبةً على مطالعاتي ..
عندما وقف أمامي في بدلتة العسكرية المرقطة من ذلك النوع الذي ترتدية القوات الخاصة .. كشفت عن وسامة تستدير لها الاعناق ، واعتدال في القوام ، وقوة في البنيان ، وبدت البدلة محكمة على جسده كأنها قطعة منه ، بادرني بالتحية :
مساء الخير .. كيف حالك سعاد ؟
تأخرت في رد التحية .. لأن الدهشة والمفاجأة قد عقدت لساني ، فأنا لم اكن اتوقع مثل هذه الزيارة من ابن خالتي عصام الذي تركته صبياً عندما حدثت القطيعة والجفاء بيننا وبين بيت خالتي ، والتي استمرت لسنين طويلة ، ولأسباب اجهلها أو لم تكن تعنيني في وقتها …
وقبل ان اصحو من ذهولي اكمل حديثة :
لقد جئت لرؤية صلاح .. ازعجني ذلك التحديد منه ، فقاطعته مازحةً قبل أن يكمل باقي حجته :
صلاح فقط … ؟
كست وجهه شبح إبتسامة وقال :
وانتِ طبعاً … ان كنتِ لا تزالين تتذكريني ، ولم يطويني النسيان بحكم سنين التباعد الطويلة …
ثم جلسنا .. وبعد سؤالي عن صحة خالتي .. استعدنا شيئاً من ذكريات الطفولة والصبا ، ودفء من التواصل يسري بيننا .. قبل ان يقطع حديثنا مجئ أخي ، وهو يزهو بحلة رمادية جديدة .. يغادر الاثنان وأنا أُشيعهم بنظرات الرضا والاعجاب ، بعد أن طلبتُ من عصام أن يكرر الزيارة :
خلينا نشوفك … ؟
لا ابالغ اذا قلت انني قد سمعت دقات قلبينا وحفيف انفاسنا ، أو هكذا خُيل اليّ !
يبدو ان حظوظ أمي وخالتي قد اختلفت في الحياة ، وتباعدت أرزاقهما ، وتقاطعت أقدارهما .. فتزوجت خالتي من موظف حكومي بسيط ، عاجله الموت سريعاً ، وابنه الوحيد عصام لا يزال رضيعاً ، فكان على ألأم المكلومة ان تكافح الحياة وقسوتها ، وليس لها من سند تتكئ عليه سوى فتات معاش تقاعدي هزيل .. بينما تزوجت أمي من تاجر في بداياته ، ثم أقبلت عليه الحياة ، وتوسع رزقه ، وانتعشت أعماله ، وتضخمت ثروته ، حتى أصبح من كبار التجار في البلد وأثراهم ، وانجبتني وشقيقي صلاح !
لم يكن بين العائلتين أي نوع من الود أو التقارب ، بل كانت بينهما شبه قطيعة أو قطيعة تامة .. ربما حسد من جانبهم ، وتعالي ونفور من جانبنا ، لا أدري ! وتمضي السنين ثقيلة مريرة على أسرة خالتي ، وسهلة مليئة بالأفراح والمسرات على أسرتي ، ثم شببنا معاً عن طوق الطفولة ، ودخلنا طور الشباب والنضج .. فغادرتُ جسد الصبية الى جسد المرأة الناضجة !
ويتخرج عصام من الكلية العسكرية ملازم ثانٍ .. فتتحسن اموره وأمور عائلته ، فيتراجع نسبياً ذلك الاحساس بالفارق الطبقي بين الأسرتين ، وتعود الصلة ببطء بين أسرتينا ، وتحل المودة محل القطيعة ، ثم يزداد التقارب تدريجياً ليصل الى حدوده الطبيعية !
أخذ عصام بعد ذلك يزورنا في فترات متباعدة ، بحكم صلة القرابة بيننا أولاً ، وثانياً والاهم صداقته الحقيقية التي لم تنقطع بأخي - صديق طفولته وصباه - والتي لم يلوثها التباعد بين الأسرتين ، ونظرة الاستعلاء من جانب أُسرتنا !
ومن خلال لقائاتي العفوية التي جمعتني بعصام وجدته انساناً ذو نفس طيبة وقلب جميل ، عكس ما كنت أسمع بأنه يعاني من عقدة النقص بحكم الظروف القاسية التي تعرض لها هو ووالدته .. ثم تقاربت زياراته بعذر أو بدونه ، وعندها ادركت أن ما بيننا بات يتعدى صلة القرابة الشكلية ، وأنني أصبحت ضرورة من ضرورات حياته التي لا غنى عنها !
يزداد التقارب بيننا أكثر وتتوطد المودة التي سرعان ما تحولت الى حب حقيقي من نوع ذلك الذي يجعلنا نتعلق بشخص لا نكاد نبصر غيره .. نهلنا من معين ذلك الحب ما شاءت لنا أقدارنا .. ومر الشتاء وأعقبه الربيع ثم الصيف وانقضى عام شعرنا بأنه لم يعد لأحدنا غنىً عن الآخر ، بل أصبح كل منا جزء متمم للآخر ، فهو جزء مني كما أنا جزء منه .
واستمر الحب .. يزداد ، وينمو على مر الأيام ، ثم بدأنا نطرق حديث الزواج طرقاً خفيفاً ، سرعان ما زادت وتيرته ، حتى كان يوماً فاجأني فيه بأن ركع أمامي في حركة سينمائية حالمة ، وقال لي وهو يقدم لي خاتماً رمزياً صغيراً :
هل تتزوجيني … ؟
لقد سألني مطلباً كنت أتوق اليه ، وتحلم به نفسي ، ونفس كل فتاة في مثل عمري : الزواج .. لا تتصور فرحتي الشديدة آنذاك ، وأنا أسمعه يزف لي ذلك الخبر ، ومنذ تلك اللحظة بدءت مهمتي الشاقة في تذليل العقبات والحصول على موافقة الكل ومباركتهم قبل ان يتقدم عصام بشكل رسمي .. لكن العقبة الاولى كانت أبي الذي بدا حائراً قلقاً .. فقد كانت معارضته مبنية على حجة تبدو قوية ومقنعة .. منطلقاً من حرصه الابوي علي ، فقد أخبرني انه لا يعارض شخص عصام بقدر معارضته لمهنته التي وصفها بالخطرة وغير المضمونة ، وما سوى أبي لم تقف أمامنا أية عقبات أو عراقيل تذكر ، فالكل كان يحب عصام ويحترمه بضمنهم أبي نفسه .
ولأول مرة شعرت أن الحياة بدت ، وكأنها تمازحني وتدللني ، ويكرمني القدر أقصى حدود الكرم عندما تركني أُحقق أعز أمنياتي .. كما أردت أنا ، وليس كما أراد هو ، فقد وافق أبي أخيراً مستسلماً لارادتي بعد أن رأى مني إصراراً على انتزاع حقي في إختيار زوجي وشريك حياتي ، ولا أدري كيف مر الزمن ، ودارت الأيام دورتها السريعة ، وأصبح عصام زوجي !
ثم مرت بنا الأيام هادئة ناعمة هانئة ، وزادت سعادتنا عندما احسستُ ببوادر الحمل ، ثم وضعت طفلاً جميلاً شبيهاً بأبيه ! ورُقيَّ عصام الى رتبة ملازم أول .
وكأن الأقدار ارادت ان تؤكد نبوءت أبي .. فقد اندلعت الحرب واشتعل أوارها ، وتحركت وحدة عصام الى الجبهة في الايام الاولى للحرب ، ولا تسلني عن حالي في الوقت الذي يغيب فيه عني ، ولا عن اللحظات التي يقبلني فيها مودعاً ، ويحتضن طفله وهو يغادر الى الجبهة .. آه كم كانت أياماً صعبة !
وانساق الناس كالقطعان الى المحرقة ، وانتشرت روائح الموت في كل مكان ، وبتنا لا يدهشنا وقوع الموت بل يدهشنا عدم وقوعه .. وكلما جمعنا قوتنا هاجمناهم ، وكلما استعادوا قوتهم هاجمونا .. وهكذا قتل مئات الالوف من شبابنا في عمر الزهور بلا أي ثمن ! لم أملك من خيار الا أن أتمسك باطراف الصبر ، وانكفئ على آلامي وأحزاني ، وألا أدع زمام نفسي يفلت مني .. حتى جاء ذلك اليوم الذي كنت أخشاه واتفادى حتى التفكير فيه ، عندما اصابني القدر .. بأول فاجعة في حياتي وأعنفها !
قبيل الغروب من يوم لم يقوى الزمن على محوه من ذاكرتي ابداً ، وقد مالت فيه الشمس مودعة ًنحو الافق .. ليعود القدر الى سابق غدره .. وليس ذلك عليه ببعيد .. نعوا فيه زوجي وحبيبي وأبو ولدي .. دوت مني صرخة ذعر مزقت احشاء السكون ، وأرتميت على النعش مولولة نائحة .. يحيط بي ظلام كثيف ، كأن الشمس قد أطفأت انوارها .. حملوني كشاة ذبيحة فاقدةً للوعي .. بعدها تمكن مني الحزن ، وأخذ يعصف بي ، ولم يرحمني حتى كاد ان يُطيح بي ، وتحولت آمالي واحلامي بل كل حياتي الى هشيم تذروه الرياح .. كنت ارفع رأسي الى السماء وأسأل :
ياربي .. اتراك في حاجة اليه أكثر مني .. لتنتزعه في وقت أحوج ما اكون اليه ؟ ثم استغفره وأعود الى رشدي ! وهكذا .. ما بين غمضة عين وانتباهتها ، تحولت الى أرملة وولدي الى يتيم لننظم الى طوابير أرامل الحرب وأيتامها ، وما أكثرهم ! لكني مع ذلك أرغمت نفسي على التماسك من أجل ولدي ، وأغلى ذكرى من زوجي !
ثم سارت حياتي او البقية الباقية منها على وتيرة منتظمة واحدة لا تختلف يوماً عن يوم .. أكل وشرب ونوم ، وسنين تتوالد لم تهبني سوى زيادة في العمر ، ولم تجلب لي سوى التجاعيد وغيرها من علامات الزمن التي واصلت زحفها باصرار على بشرتي التي كانت يوماً صافيةً نظرة ، واكتست ملامحي لمحةً من أسى ومسحةً من حزن واكتئاب .. وانطفأت الاحلام في عينيّ ، لكني عودت نفسي واقنعتها أن لا تزيد من الحزن لغيبةٍ .. اللقاء .. قدرها وخاتمتها !
وأنا اليوم .. بعد أن كبر ولدي وتزوج وأصبحت له أسرته .. أنتظر ذلك الوعد الغامض المؤجل .. الذي سيحملني الى لقاء زوجي وحب حياتي .. لتتعانق روحانا من جديد .. في عالم لا توجد فيه كل تلك المرارات .. !!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا