الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مأساة شعب في (للمفتاح وجوه عدّة) للروائي مهدي علي ازبيّن

داود السلمان

2021 / 6 / 19
الادب والفن


رسالة الكترونية تصل الى بطل الرواية؛ الذي عبر عنه الكاتب بضمير الـ(أنا) مفادها: إن والده تعرّض الى حادث جسيم قد يودي بحياته، والاجراء يلزم بحضوره. وكانت الرسلة بخط زميل والده في الدائرة. فما كان لبطل الرواية أن عزم امره، وبحسب الاجراءات القانونية المتبعة لذلك البلد الذي هاجر اليه بطلب لجوه انساني، منذ عدة سنوات. فما هي الا سويعات حتى وصل الى بغداد حيث ادرك إنّ والده الآن راقد في مستشفى "الكندي" في بغداد وهو الآن في العناية المركزة، كون اصابته بليغة جدًا، وحالته في خطر.
كان الوضع الامني في بغداد ومعظم المحافظات الاخرى، وضع مربك، وضع متشنج حيث الامريكان مسيطرين على كل البقاع والاماكن والمُدن، وبمعية قليل من القوات العراقية التي شُكلت حديثا، وتحت وصاية تلك القوات المحتلة للبلد، وتتأمر بأوامرها. وكان بطل الرواية في وضع نفسي غير مستقر، ومتشنج للغاية، لأن الاوضاع بصورة عامة لا تطمئن. وكان في هذه الاثناء قد اتصل بصديق فارقه منذ سنوات، فجاء معه للاطمئنان على صحة والده، ويرشده الطريق الذي تغيرت ملامحه، من باب، ومن باب آخر خوفًا أن يتعرض صديقه الى مسائلات قانونية، او يحدث له أي مكروه. وفعلا اوقفته احدى السيطرات المشتركة وطلبت منه اعطاء اوراقه الثبوتية، لأنهم شكوا في وضعه المرتبك. وبعد بضع دقائق اعطوه اوراقه ليواصل طريقه مع صديقه، بغية الوصول في الوقت المحدد الى المستشفى، حيث والده يرقد هناك. ولما وصلا وجد ابيه في حالة اغماء كامل، أي إنه غائب عن الوعي.
وفي هذا الاثناء، شطح فيه الخيال الى الوراء، وهو جالس على الكرسي امام سرير والده، وطفق يتذكر احداث سابقة كانت مخزونة في ذاكرته المعطوبة.
وهنا يأتي ذكاء الراوي- الكاتب ليلعب لعبته، ويستعرض عضلاته الفكرية، ويسكب ثقافته، وما يروم قوله، وقد فعل كذلك الراوي، حيث ذكرني برواية "مائة عام من العزلة" للروائي الكبير ماركيز، فهو لعب قريبًا من لعبة ماركيز في قص الاحداث، لكن ماركيز بالغ جدًا في سير احداث روايته تلك، فاسكب عليها كثير من التعقيد واللعب بالكلمات والجمل والمفردات. لكن صاحبنا مهدي علي ازبين في روايته (للمفتاح وجوه عدة) هذه التي نتحدث عنها، لم يتبع ماركيز في ذلك التعقيد، بل سرد لنا الحكاية بإسلوب جذاب، اراد بذلك أن يجرجر القارئ الى ساحته حتى يكون اللعب بمرونة وانسيابية، وارتياح للفكر، وحتى لا يصاب القارئ بداء الملل، وفايروس السأم. وعليه اختار الجُمل بدقة والكلمات بعناية، وليس هذا فحسب، بل كانت جمله شاعرية، فهو يكتب الاحداث بلغة شعرية، حتى كأنك تقرأ قصيدة ملحمية على شكل رواية فيها احداث ونتائج وبداية ونهاية، فضلا عن إنك تجد شعرًا محبوك قد تقصّد الكاتب وضعه هنا، او لم يتقصد، فالأمر سيان بالنسبة للقارئ، فأنه يجد شعرًا منثورًا بين طيات الجُمل التي يقرأها.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، نجد قوله: " نربض على محمل الصبر والفزع الكامن في فلات الزمن، توشح النداءات صباحاتنا بأخبار مغتمة" (راجع: ص 13 من الرواية) أو في جملة اخرى "في هذه الفوضى العارمة تبزغ خيوط الرجاء، في غابة مفتعلة في الافتراس، تبرق الالفة، في عاصفة من غبار اسود، ينبض دفء شرقي، يشملني صقيع الكون؛ يتلقفني حنان آسر، وسط غيوم التعب، بثّ رذاذ ارتياح، يتخلل ماراثون الحزن الفاصل للفرح، في قلب ضجيج مطبق، يهمس صوت فيروزي، وسط ارتال القبح، تشرق زفة بريئة، خلل اسراب الخراب؛ ترف اجنحة الجمال" (راجع: ص 13- 15). ومثل هذا كثير.
وهو جالس على الكرسي قبالة والده، يشطح الخيال بصاحبنا بطل الرواية، فيتذكر احداث قديمة مضى عليها اكثر من عشرين عامًا أو تزيد، وتحديدًا فترة الحرب العراقية الايرانية، وما تلاها من مصائب واحزان وكوارث انسانية. ويوغل في احداث طويلة وعريضة، ويسكب هنا الكاتب عصارة ذاكرته المصحوبة بالألم الذي عاشه الشعب العراقي، وكنا نحن شاهدًا على ذلك، من احداث (لو صُبت على الايام صرنّ لياليا) لجسامتها ومرارتها، وحال الجندي المذل المُهان، غير المحترم إذ كانوا يطلقون عليه لقب "المطي" أي الحمار على اعتباره إنه لا يفكر (فقط الطاعة العمياء) ولا يعي ولا يدرك ما يدور من حوله، من قضايا ومن شجون واهوال يشيب لهولها الرضيع، فضلا عن وضعه النفسي والجسدي، ومأكله البائس (القصعة) التي تصله في نهاية النهار، فلا يشتهيها الا المقطوعة به السُبل، فيضطر الى تناولها على مضض.
ومع ذلك، كانت اجازة ذلك الجندي الدورية (سبعة ايام) يتمتع بها في بيته. وعندما يروم الذهاب الى وحدته العسكرية، بعد نفاذ الاجازة. وكان مرأب النهضة هو الملتقى الكبير للجنود، العائدين والذاهبين، ودائمًا يكون المكان المقرر يكون عند أم القيمر، وهن اكثر من واحدة، فكانت أم القيمر تبيع الافطار الصباحي للجنود، وهو عبارة عن سندويش من القيمر والشاي الساخن، فترى الجنود ارتالاً، وحدانا وخرافات، تأتي جماعة وتذهب اخرى فتطوف حول كعبتها، وهكذا دواليك. وكانت علاقات أم القيمر كبيرة وعلى مستوى عال من الاهمية، عند الشرطة ورجال الامن، فهي تستطيع أن تقضي جميع القضايا المعقدة، والتي لا سبيل لحلها فقط هي صاحبة السطوة.
فيأتي دور صاحبنا، فهو لديه قضية معقدة، ومعقدة جدًا، بحسب وجهة نظره، إذ يريد أن يسافر الى الخارج بمصاحبة ولده الذي تعرض هو الآخر الى كسر في ساقه، وقد عجز الاطباء – في العراق- عن علاجه فأشاروا عليه أن يذهب به الى الخارج، فهناك سيجرون له عملية ستتكلل بالنجاح، كون الطب في تلك الدول وصل الى مستوى عال، ولا يعجز الاطباء عن أي شيء. لكن كيف الوصول الى تلك الدول المتقدمة في الطب، والمواطن ممنوع من السفر، لأن البلد في حالة حرب، والحرب طويلة الامد، حتى إنها اكلت الاخضر واليابس، وشربت دماء الشباب بكأسها الاوفى، ولا تزال عطشى للمزيد من الدماء، ولسان حالها يقول: هل من مزيد؟.
وصاحبنا يجد الحل عند أم القيمر، فتعطيه رسالة مشفرة عليه أن يسلمها الى زميلتها في المهنة في محافظة البصرة، فهي الاخرى ستسعفه وترشده الى السبيل المرتقب، حيث يتم تهريبه على طريق الهور، ومن هناك سيصل الى مبتغاه.
وحينما وصل هناك، ادخل ولده المستشفى على الفور، لأجراء العملية بأسرع وقت ممكن، فساقه لا تتحمل مزيدًا من الانتظار، ويحتاج الى متبرع يتبرع له بجزء من ساقه، لكي تُزرع للطفل المصاب. وتشاء الصدف أن يعثر الاب على عائلة التي مستعدة أن تتبرع للطفل بقطعة من ساق ابنهم الذي تعرض الى حادث مؤسف فمات من فوره. وكانت هذه العائلة يهودية عراقية من يهود العراق الذين هُجروا من موطنهم الاصلي العراق، هُجروا لأهداف سياسية بحتة، لكنهم ظلوا على عراقيتهم فهم يحنون الى العراق، فحب العراق لا زال يسري في دمائهم.
والراوي، هنا، قد لعب هذه الفكرة بذكاء، وذكاء عال، اذ اراد الكاتب أن يوصل رسالة، مفادها أن يهود العراق قد هُجروا من العراق ابان الخمسينيات من القرن المنصرم، ظلما وعدوانا، وهذا بحد ذاته كارثة إنسانية بحقهم وبحق العراق، طالما ما هُم كانوا مكوّن عراقي اساسي من مكونات الشعب، حالهم حال غيرهم، لماذا هُم بالذات تعرضوا الى هذه المحنة؟. فنرى تلك العائلة التي تبرعت بساق ولدهم، الذي توفى، للطفل المصاب جاعلينه ولدهم، او بمثابة ولدهم طالما فيه رائحة العراق، ودمه عراقي وهم عراقيون اصلاء.
على إن الرواية قصيرة بعض الشيء، إذ بلغ عدد صفحاتها 163 صفحة من القطع المتوسط، لكنها رواية شيقة متكاملة ومثيرة، وتستحق القراءة، لجمالية تركيبتها واحداثها الممتعة.
وتنتهي الرواية باختفاء الاب وطفله المصاب بساقه، ولا ندري عن مصير العملية هل تكللت بالنجاح، أم بالفشل. وكان اختفاء الاب والطفل في ظروف غامضة، لم يعرب عنها الكاتب، وكأنه اراد للقارئ أن يضع هو النهاية المناسبة للرواية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال


.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81




.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد


.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه




.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما