الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في (أصنام أم نعوش) قاسم وداي الربيعي يتمرّد على الواقع المرير

داود السلمان

2021 / 6 / 20
الادب والفن


الانسان مخلوق حائر، يبحث عن نفسه في ركام الوجود، متشظي من الداخل، تائه بين علامات استفهام لا يعي مداركها، ولا يفهم غاياتها، يريد كل شيء مقابل لا شيء. اتعبته الحياة بلغزها، كلّ جسده، تحطمت قواه تحت عجلات الزمن بلا مسوغ، بعثرت عمره السنون. والى هذه الساعة لا يدري ماذا يريد، بل ماذا يفعل؟. فالحياة عسيرة الهضم، متطلباتها كثيرة، والانسان ككيان عاجز كل العجز عن تلبية مطالبها، التي كل يوم هي في ازدياد.
حيرة الانسان الكبرى وقد جسدها، بهذه الصورة الناطقة، الشاعر قاسم وداي الربيعي، وبهذا النص الجميل إذ يقول:
"ما عاد الماء يغسل خطوط وجهي
وجهي الذي نسيته في هزائم العطش
أشبه بتجاعيد الحقل الكسول
تعدو فيه الريح والديدان"
جميع الاحياء لا تعيش بدون الماء، تتوقف الحياة ثم تتعطل، حتى يعشعش في شواطئها الجفاف، فينتج الموت، والموت هو المرحلة الاخيرة في الوجود. دوستويفسكي، وكيركيجارد، والبير كامو ، وجان بول سارتر، ومارتن هايدجر، كلهم تحدثوا عن الوجودية، وكلهم جعلوا من الانسان هو القيمة العليا، بصرف النظر عما افترقوا في مفهوم الوجودية، حيث هناك وجودية مؤمنة واخرى الحادية، وهذا لا يعني أن لا قيمة للإنسان في معترك هذه الحياة القائمة على الوجود، وقيمة الانسان بقيمة الحياة. والشاعر ربط بين قيمة الانسان والحياة من جهة، والماء الذي هو ديمومة تقيم أود هذه الحياة، وتجعل منها روح انسيابية، ومن خلال هذه الانسيابية يعيش الانسان، ينتج ويبدع، ويتحدى الصعاب، ويصبر على المصائب والمحن، بل ويتحدى كل شيء يقف ازاءه، في العطاء ليديم تلك الحياة، فلا يركن الى منزلق يودي بتلك الحياة، ويجعل من قيمتها بقيمة الانحطاط والنكوص. وهذا ما نراه احيانا عند الفاقدين لقيمة الحياة وللعطاء نفسه، فيركون للانتحار. وشوبنهاور له بحث طويل بخصوص الانتحار، مفاده إنه يعطي قيمة كبيرة للانتحار ويعد الانسان الذي ينتحر بأنه انسان شجاع لم يخش الموت، وقد تحدى الحياة وصعابها، والغريب في الموضوع إن شوبنهاور نفسه، وهو ابو التشاؤم لم ينتحر، بل عاش الحياة الطبيعية.
فالشاعر، حينما يقول وهو بصدد تعليل فكرته: "وجهي الذي نسيته في هزائم العطش" فهو يعي ما يقول، بل ويفسرّ الاسباب الكامنة وراء الحدث، فثمة نوع من الاغتراب الذهني، وسط فوضى هذه الحيرة التي داهمته على حين غرة، وارتأت أن تفصم عري الوعي بقيمة الاشياء، التي تحيط بنا من كل جهة، ونحن نعيش واقع مرير، بل قمة والمرارة فلا ثمة متنفس، وخصوصًا لدى الشاعر، الا الهروب الى كتابة نص، او ابداع فكرة، أو قراءة كتاب، كتابة قصة قصرية يصب فيها عصارة حيرته، لتكون نتاج فكري، يبقى شاخصًا بعد رحيل مبدعه.
"شجيراته كالنعوش
يشيعهـــا الربيع بلا لثام
وأنا فارس من بلاد الطين
أحلمُ بمدينة
تشاركني العناق"
ثم يعطي الشاعر العلل لما ابداه، ليثبت أن قوله ليس جزافا، من طرح رؤيا بصيغة سؤال، من وصف لما جرى؛ (شجيرات كالنعوش) هذا عرفناه ايها الشاعر، وهل ثمة ايضاح آخر لتتم الفكرة؟. نعم، (يشيعهـــا الربيع بلا لثام). وهنا يتم مراده، وبه تتم الصورة الشعرية بالمغزى ذاته؛ لكنه لم يكتف، بل يعد نفسه فارسا ويحلم بمدينة، والحلم من حق الجميع، فالأحلام ليست ممنوعة ولا محرمة، وليست أي مدينة يريدها، مدينة تشاركه العناق.
ومن هنا تبدأ المثالية، حيث يتحوّل الشاعر من واقعي أرسطي، يفسر الحياة والوجود، والكم الهائل من القضايا المصيرية التي تقف متحدة الحياة، كخصم جسور، فإنه يتحوّل الى إنسان مثالي افلاطوني. ويفترض بالشاعر أن يبتعد عن بهرجة المثالية، فالمثالية تعيّش الانسان في ابراج عالية من الزيف واللاجدوى، وتجعله بعيدًا عن الواقع الملموس، هذا الواقع الذي تعيشه الناس وتقبل به كحاضر لا نحيد عنه، لأننا نراه بأم اعيننا، حاضر بين ظهرانينا، لماذا نعيش احلام الفلاسفة؟!. فقد مضى على موت افلاطون بحدود ثلاثة آلاف سنة، ولم تتحقق مثاليته، ولم تتحقق جمهوريته تلك.
ولم يكتف الشاعر بذلك، بل يريد من تلك المدينة الخيالية الافلاطونية إنْ:
"تروي عروقهـــا المسرات
نجاور الغيوم ويسعد الإنسان"
وهذا من المحال بمكان. هناك مئات، إن لم نقل آلاف، من الفلاسفة والكتاب والادباء، من الذين كتبوا كتبًا بشأن السعادة، واسعاد الانسان، كي يتسنى له العيش هذه الحياة كما يحلو له. وكل هذا لم يجد نفعًا، بل كلما تطورت الحياة، وامتد الزمن، تعقدتّ الحياة اكثر من قبل مئات السنين. ففي الخمسين عامًا الاخيرة ازدادت الظاهرة الانتحار بشكل لافت للنظر، ومخيف جدًا، بينما لم نقرأ في التاريخ القديم، إن اجدادنا قبل الف او تزيد قليلا، قد انتحر قليل او كثير منهم، مثلما نجد اليوم!.
الكاتب لوك فيري له كتاب عنوانه "مفارقات السعادة". يريد القول فيه إن السعادة فيها تباين بالنسبة للإنسان، بمعنى إن حصول الانسان على سيارة مثلا يمكن أن يحقق له السعادة، وانسان آخر يمكن أن يسعده حصوله على منزل متواضع، وآخر يمكن أن تتحقق سعادته على حصوله على وظيفة في الدولة. وثمة انسان آخر مختلف عن هؤلاء يمتلك كل هذه الاشياء المادية وغيرها وهو لا يشعر بوجود السعادة، فهو يريد غير هذا الاشياء، وإن تحققت له فقد يشعر في النهاية بالتذمر من الحياة ولا يجد أي مبرر لها. وهذا الامر الاخير ما انتبه له المتصوفة، فتركوا ملذات الحياة الدنيا، وسكروا بالذات الالهية، وشقوا طريقهم نحو الوجود الحقيقي.
لكن فيري يرى شيء آخر يمكن أن يجلب السعادة للإنسان. فيتبنى فيري وجهة نظر ايمانويل كانت (الفيلسوف الالماني الكبير، والذي درست انا فلسفته) يتبناها في السعادة، ويرى فيها سعادة حقيقية.
يقول فيري:" سيعالج كانط بدوره مسألة سعادة التعليم والمعرفة وسيمنحها... و وضح تحليله العبقري فعلا، إن عملية اكتساب المعارف هي، بمعنى الاشتقاقي للمفهوم تثير حماسة: تدخلنا الى المجال الالهي، فالمعارف تمتلك، حتى بالنسبة لأكثر الملاحدة من بين العلماء، بُعدًا جماليا وروحيًا في الوقت ذاته" (لوك فيري، مفارقات السعادة: ص 161، منشورات دار التنوير، بترجمة ايمن عبد الهادي، سنة الطبع 2018)
ويستمر الشاعر قاسم وداي الربيعي بشرح فكرته، او مبناه الفلسفي، الذي هو بصدده، فيكمل:
"يكفينا مداخن الموت والحقد والجوع
نحسب الجمر وردا
ونستلقي على دوائر الأرض بسلام"
بعد هذه المقدمة في هذا النص، يعترف الشاعر بأن ثمة موت وحقد وجوع، فهو بمعنى يريد أن يدين الواقع الذي تمر به الانسانية، بوجود هذا الثالوث الذي به تتم انهاء الانسان وتقويض وجوده من على المعمورة. وهذه النتيجة الحتمية التي توصل اليها الشاعر هي ليست من اكتشافاته، بل هي حقيقة شاخصة، لكن خير من جسدها هم الشعراء بقصائد وملاحم شعرية ستبقى خالدة وبخلود الحياة والوجود، هذه القضايا اوجدتها الحروب والدمار والطمع المتعشعش في كيان الانسان ذاته (لتكبره وغروره) فهو الذي اوجد الارهاب وسن الحقد وقنن للكراهية.
ثم يبث الشاعر حزنه ولوعته للـ "ورود" لعل الورود تعي وتدرك افضل مما يعي ويدرك بعض البشر، من الذين جفت قلوبهم و ماتت ضمائرهم، وغضت النظر عن رؤيا الحق.
"أيتُهـــا الوعود
ما أخشاه أن نضيع
وسط طعم العذاب وهتافات الحسرة
يتصفح عورتنا الإفرنج
أمام صوتنا النحيل
تسخر منا المنائر والخطابات
ميتون , قبورنا مدن الرثاء والفتح
نتلاقى تحت غبار عودتنا".
وينهي هذا النص بقوله:
"حينها نضاجع التراب
فتولد الأجيال على هيأة الأصنام".
إذن، لا محيص، ستبقى الاصنام الفكرية، والاصنام الذهنية، والاصنام اللاهوتية. وهذا ما يذكرني بـ نيتشة الفيلسوف الالماني في كتاب له تحت عنوان "افول الاصنام" ويقصد بالأصنام جميع الافكار البالية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز


.. لحظة تشييع جنازة الفنان صلاح السعدني بحضور نجوم الفن




.. هنا تم دفن الفنان الراحل صلاح السعدني


.. اللحظات الاولي لوصول جثمان الفنان صلاح السعدني




.. خروج جثمان الفنان صلاح السعدني من مسجد الشرطة بالشيخ زايد