الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العدالة والضواري

أحمد جدعان الشايب

2021 / 6 / 23
الادب والفن


حتى الضباع ,التي ننفر منها ,قد تتضامن مع الضحية وتقودنا لاكتشاف القاتل .
............................................................................................

استعدّ للهرب تاركا ً وراءه كل شيء .
اشتدّ نباح الكلاب ، يصل أذنيه كدويّ الصدى ، كأنه اتهام يطلقه كل واحد منها آلاف المرات :هنا ..المغدورة هنا .. هنا .. هنا .
بإصبعه , يبعد طرف الستارة الحريرية قليلا , يختلس نظرة ريبة نحوها ، ليتأكد من قلق يساوره ، هل اكتشفت الكلاب الحفرة ؟ لمحها تنبش التراب بانفعال ، كأنها تنكش في أعصابه ، حمل عصا وراح يخبط بها يمينا ويسارا ، لكنها كانت عنيدة كمقاتل ، شيء ما يستدعي أنوفها وحناجرها ، لم يستطع زجرها أو إبعادها ، تعبت قدماه التي تغوص في الرمال , وأحس أن أنفاسه ستنقطع ، سقط على الأرض منهوك القوى .
حين استعاد شيئا من قواه ، هرول إلى بيته ، طمأن نفسه أن الكلاب ستنهي كل شيء ، يكون هو قد وصل إلى مكان يختفي فيه ، ومنه يحاول مغادرة البلاد .
كانت هي نقية مثل نبع ، شفافة كدمعة ، رفضت كل من كان يحمل حقائب المال مهرا لأبيها أو ثمنا ، أشكال وأنواع امتهنوا شراء العقارات والسيارات والضمائر والعواطف ، تأبى أن تكون صفقة ، لا أحد يراعي مشاعرها ، هل خلّفها أبوها فقط ليقايضها بمال يغنيه بلا إحساس أو تعب؟ .صرير فرامل الذكرى لحبيبها ، يكبحها كلما هاجمها جوع الزوج الذئبيّ ، ينقضّ عليها ليفترس عذريتها ، عاهدت نفسها وحبيبها ألا يمسّها رجل غيرُه ، تجتاحها قشعريرة إذا لمس جلدَها الناعم ، تتحول إلى نمرة شرسة ، أو قنفذ يقذف بسهامه الإبرية في كل اتجاه .
حافظت على عذريتها حتى آخر رمق . تحدّت هذا الغادر وأبيها ، عزمت على أن تكون محميّة محصّنة عن الرجال إلا من أحبت .
يوم اكتشفوا أنها تحب شابا ، ضربوها ، حذّروها من اللقاء به، فالتقته ، تشعر أنهم يمنعونها حقها ، يحرمونها ما بثته الطبيعة والفطرة في كيانها .
يوم وجدوهما معاً في حقل الحي, وهو يناجيها حباً , فهي لا تستطيع أن تقضي ليلها دون أن تراه أو تسمع همسه , يغدو نسمة صيفية تنعشه وتنعشها , وتهتز الأزاهير والنباتات طرباً وريّاً . كان هذا اللقاء الأخير بينهما , سمعوا شدوه وآهاتها , كأنها أنصال مسنونة تنغرز في قلوبهم , لكن الهمس والعناق انتهى بضربة غادرة على جمجمته , وانهالت العصي على صدره بجنون ووحشية أمام عينيها الدامعتين .
تكسرت أضلاعه ونزف فاقداً الوعي , لم تستطع أن تفعل شيئاً , ولم تفُه بكلمة , جسدها يرتعد , ولم تعد تحملها ساقاها , دارت الدنيا بها ولفت , زاغت عيناها وسقطت مغشياً عليها , حملوها بسرعة , وتركوه ينزف ويتوجع .
كأنهم ينفّذون قول فولتير ( هذا هو التعصب الأكثر هولا . في الزمن الأكثر استنارةً ) .
مثل غزال حطّمته الضباع , سحب جسده ودماءه إلى أهله , كتم سرّه في نفسه, ليحافظ على سمعتها , خشية أن يتداعى جدار العرف الجبار , بقي شهورا طريح الفراش حتى شفيت كسوره وآلامه , ولم تشفَ نفسه , فهو منذ شهور لم يعلم أي خبر عنها , لا يهمّه أن يتحطم أو يموت , المهم عنده أن تكون في منأى عن الظلم والأذى . ولم يدر أن أباها باعها لرجل لا تعرفه ولم تره , وحين رأته لأول مرة , تقززت نفسها , ونفرت كمهرة , فهذا النمط من الرجال يملأُها رهابا , حين تتخيل ذاتها بين يديه تحسّهما ساعدي غول تطبقان على أنفاسها .
ترى الحياة سيئة مع أهلها ومعه , وستظل بالنسبة لها سيئة طالما يمارَسُ على روحها ضغط دائم .
سافر بها إلى بلاد بعيدة , حرمها أُلفها وجنّتها , أغدق عليها مالاً وهدايا من كل صنف , حفر اسمها على سلسلة من ذهب , وعلّقها في جيدها , لكنها تشتعل اشتياقاً كلما ضيّق أنفاسها بيديه الثقيلتين يحاول اقتناصها , رفضت خشونته , وتخلفه , هي تعلم أن قيمة الإنسان وأهميته فيما يفكر فيه ويقوله ويفعله . لا فيما يمتكله أو يأكله .
بحثت فيه عن لمحة حسّ أو ذوق , لم توَفّق , وظلت تعيش عالمها بعيدة عنه , رافضةً زمهرير ظله , وهي لا تريد إلغاء ماضيها الجميل , لتبني مستقبلاً مجهولاً .
برّحها ضربا ليئِدَ تبريحَها لحبيبها , منتقما لنفسه وفحولته , وحين صرخت قائلةً : ( أنا أكرهك ..أكره أبي .. ولا أطيق حياتي معك ) .
قال لها : ( إذاً ما زلت تحبين حبيبك السابق ) ؟؟؟
قالت : ( أحبه حتى الموت .. ولن أنساه مدى حياتي .. وأكرهك حتى الموت .. عمى عينيّ أهون من وجودي معك ) .
فقد عقله , ثار لفحولته كبركان , لفظ حمماً كوتها : ( أنا اشتريتك بمالي يا عاهرة ) .
التقط مدية وجزّ عنقها, وراح يخور فوقها مثل ثور , امتصت السجادةُ دماءَها , وهدأ كل شيء , أحس ببرودة تنسكب في أحشائه , رفع رأسه وهو يئنّ , كمن وقع في جب مهجور , قال في نفسه : ( ليتني طلقتها وأرسلتها إلى أهلها وارتحت .. لقد وقعت في مهلك ) .
لاص في الغرفة , تَصّور عقدة حبل المشنقة , أسرع يخفيها ويلفها بدمائها المنتشرة بين مسام السجادة , ركنَها في الزاوية , وأقفل نوافذ الغرفة كما أقفل نوافذ عقله .
عند انتصاف الليل , حمل مجرفة , حفر حفرة في بستان نخيل قريب , رماها فيها وهال عليها الرمال بانهماك , نفض الغبار عنه , أخذ شهيقا وزفر ما تبقى من ذكراها , خيّل إليه أن جريمته اختفت إلى الأبد .
دخل غرفته لا يبرحها ليومين, يراقب ما يحيط بالحفرة, ولمّا اطمأن , اتصل بأهلها ليبلغهم اختفاء ابنتهم . لكن نباح الكلاب فاجأه, تنبّه , وحين رآها تحفر في الرمال, طاش ذهنه , ارتعب وارتعد , عالجها وفشل , لملم ما خفّ من حاجاته في حقيبة صغيرة , عزم على الاختفاء في مكان بعيد , هدأت الكلاب , وخف النباح وابتعد , وحين فتح الباب ليمضي بسرّه , وجد أمامه ثلاثة من رجال الشرطة في انتظاره .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما


.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا




.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما


.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في




.. من الكويت بروفسور بالهندسة الكيميائية والبيئية يقف لأول مرة