الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زواج

أكرم شلغين

2021 / 6 / 25
الادب والفن


أصبح الصوت العالي الخارج من الشقة السكنية لتلك الأسرة جزءا من طقوس الصباح والظهيرة والمساء فالأب يشتم وكأنه يريد أن يسمع الجار السابع والأم تتلقى ذلك وهي تنظر لابنتيها ولطفلها بتعابير مختلفة ومتناقضة فتبدو تارة وكأنها تحزن على ما هم جميعا به وأخرى تبدو وكأنها تلوم وجودهم على مصيبتها.. والجمهور المستمع عنوة كان قوامه من كل ممن عاش في ذلك الحي الشعبي. ولسبب ما كان الزوج يكرر سؤاله الإخباري أكثر منه استفهامي: "كيف لي أن أشعر بالأمان لوجودي معك أيتها الخائنة!؟" ويتابع: كيف لبناتي وطفلي أن يبقون في عهدة خائنة! أما هي فكانت بين الفينة والأخرى تتجرأ وتسأله أن يمدها بسبب واحد يعطيه الحق باتهامها بالخائنة ـ لكنه لم ينجح بأكثر من تذكيرها أن أهله وأخوته قالوا له إنها خائنة وذلك كاف فلا دخان بلا نار. استمرت الحياة صعبة هكذا معهم وتعاقبت الفصول وهم على هذا الحال. ذات يوم عاد الزوج إلى البيت بعد أن كان في زيارة أخته وقال لزوجته أنت "طالق بالثلاث" ولن أترك أولادي معك. عندما تريدين رؤيتهم يجب أن تحضري لبيت أخي لترينهم! اخرجي من هنا! احزمي أغراضك وعودي إلى بيت أهلك. خرجت الزوجة بوجه ممتقع وتوجهت لمنزل أهلها. أما الزوج فاصطحب أولاده الثلاثة لبيت شقيقه الذي لم ير في ذلك أمرا غريبا فعلى الأرجح كان ناقش ذلك معه من قبل. كان الزوج عمل على موضوع سفر ورتبه وأبقى ذلك سرا لم تعرف عنه زوجته أو أولاده أما عن شقيقه فكان على اطلاع بذلك فحينما قال الأخ أنه يترك أولاده بعهدته وسيسافر غدا تلقى ذلك بدون أي تعليق سوى عبارة: بالتوفيق إن شاء الله وانتبه على نفسك. وهكذا ترك أولاده لدى أخيه وانصرف.
راحت الأشهر والسنين تتعاقب والزوج منقطع الأخبار ولا أحد يعرف إن كان يرسل لأخيه ما يكفي لمصروف أولاده الثلاثة وكذلك الزوجة لا أخبار منها أو عنها...كانت الابنتان تشعران بالضغط في كنف عمهما فليس لهن الحرية في الخروج حينما يردن وليس حتى للصغرى بينهن أن تنزع الحجاب عن رأسها أو تظهر شعرها حتى في داخل البيت.
ذات يوم كان الابنة الكبرى فاطمة تساعد زوجة عمها في أعمال البيت حين ناداها عمها قائلا اجلسي هنا يا فاطمة! جلست فاطمة تنتظر ما يريده أن يقوله لها. راح يمهد قائلا بأنه يعرف أنها ناضجة منذ أتت لبيتهم فقد أخبرته زوجته. ثم أضاف: "أعرف أن حياتك صعبة ولن يتقدم لك أحد لأن والدتك مطلقة ولهذا فقد اخترت لك ما يسرك فقد ناقشت الأمر مع العائلة...والجميع في العائلة موافقون...إنه ابن أختي ناصر فهو شاب هادئ واع وهو كهربائي سيارات ماهر يكسب ما يكفي لكما..." وراح يتابع في الوصف عن ابن أخته ناصر وأنه أحيانا يكسب في الشهر الواحد أكثر ما يكسبه غيره في شهرين.... لم يكن لفاطمة رأيا ولأنها كانت تشعر أنها عبء على عمها بقيت صامتة وبعد أن أعاد سؤالها عن رأيها قالت: "الرأي رأيك عمي"!
لم يكن ناصر تماما كما وصفه خاله بذلك الهادئ فقد كان له حياته الخاصة ويخرج مع مجموعة أصدقاء يتقاسمون شيئا واحدا هو عدم إتمامهم لدراستهم، يلتقون باستمرار ويسهرون حتى ساعة متأخرة من الليل. كان ناصر في بداية النصف الثاني من عشريناته وقد توفي والده قبل سنوات عديدة بحادث سير وبقي ناصر وأخوته وأخواته ووالدتهم. كان ناصر ينفرد بالغرفة العليا من منزلهم البسيط في حي شعبي من البلدة، كانت تلك الغرفة لوالده ووالدته قبل وفاة الوالد ومن ثم أصبحت غرفته بمفرده وبها سرير كبير وتليفزيون وعلى يمين بابها يوجد مطبخ صغير وتواليت... وأما من ناحية اختيار خاله لعروس له فلم يكن له رأيا وإنما استمع لخاله وبقي صامتا ثم وافق بدون مناقشة.
حدد عم فاطمة (خال ناصر) موعد الزفاف وأحضر الشيخ لمنزله فأتمم إجراءات كتب الكتاب ولم تفقه فاطمة شيئا مما قيل في "المعجل" و"المؤجل"...بعد ذلك نادى عم فاطمة لإحضار "التحلاية". أكل الحضور من الأهل والأقارب الكنافة والكاتو وشربوا بعض علب البيبسي الصغيرة وأخذوا بالانسحاب...ثم التفت عم فاطمة لابن أخته ناصر وقال: مبارك إن شاء الله بالرفاه والبنين.. خذ عروسك يا عريس والله معكم...ثم تابع بالرفاه والبنين والذرية الصالحة. مشت فاطمة وناصر خارج البيت وابتعدا.

في تلك الليلة بقيت فاطمة تترقب القادم وأما ناصر فقد بدا عليه أنه لا يكترث لوجود شريكة معه... انتظرت أن تسمع منه ولو بضع كلمات ولكنه لم يفعل...لم ينظر إليها ولم يكلمها ولم ينزع ملابسه ليرتدي بيجاما بل نام مرتديا نفس الملابس التي كان يرتديها عند كتب كتابه وبعدها! نام ولم تسمع له صوتاً. بقيت ساهرة تفكر فيما إذا كان ذلك الزواج مفروضا عليه وهو لا يرغب! أتراه يحب فتاة أخرى وهناك قصة لا يعرفها خاله! أتراه خجولا! أم ماذا..!؟ في الصباح كانت فاطمة تنتظر أن يستيقظ لتسأله عما بإمكانها فعله...لتسأله عن تحضيرها لطعام الفطور له ولها، لتسمع منه أية كلمة...! عندما رأته يفتح عينه أصبحت كمن انتصر في جولة فبادرته بتحية :"صباح الخير..." فأجاب: "صباح الخير" دون أن يحيد نظره صوبها! سألته عن الفطور وماذا يريد إلخ فأجاب باقتضاب كل شيء في المطبخ وأعدي ما تشائين...! دخلت للمطبخ وهي تفكر أن في تناول طعام الفطور معه فرصة لتنظر في وجهه ولتعرف ماذا به! عملت قليلا ثم جاءت تحمل صينية ألومنيوم فوقها بيضا وجبنة وزيتون وزعتر وخبز وإبريق من الشاي وكأسين صغيرين. جلس ناصر وجلست قباله فاطمة راح يأكل دون أن يلتفت إليها. أرادت أن تكسر الصمت فقالت: "كانت حفلة الأمس جميلة بحضور الأهل..." ثم تابعت: "الله يرزقنا الخير ويجعل بوجودنا الخير لبعض..." أما ناصر فلم يعلق ولم يتكلم...قالت: "أنا فرحة لأن الله جمعنا مع بعض." لم يعلق، تابعت الكلام: "الله يقدرني وكون عند حسن ظنك"! بعد قليل دخل إلى التواليت ثم اغتسل قليلا وغادر دون أن يقول لها أي كلمة.
عند المساء عاد فبادرته بالتحية: "أهلين.. مساء الخير...قلقت عليك!" أما هو فلم يرد. في الأيام التي تلت لم يكن هناك ما هو أفضل في تعامله...يصمت، ينام، يستيقظ، يفطر، يغادر ثم يعود في المساء. بعد بضعة أيام جاءت زوجة عم فاطمة وبيدها هدية. أحضرت فاطمة القهوة وترددت هل تقول لزوجة عمها شيئا أم أن تبقى صامتة! خشيت إن تكلمت فسيكون ذلك بداية هموم ومشاكل وسيقولون إنها تربية أمها في "اختلاق المشاكل". شربت زوجة عمها القهوة وباركت من جديد ثم خرجت. كذلك كانت فاطمة تتردد في أن تقول شيئا لوالدة ناصر التي تسكن في الدار الأرضي ولكنها لم تفعل خوفا من أن يكون ذلك بداية مشاكل عائلية وهي لا تريد أن تعاني مثلما عانت والدتها من قبل.
مضى حوالي شهر ولم يتغير شيئا سوى أن ناصر راح يشجعها لرؤية أفلام الرعب التي يحبها ولسوء حظها كانت تخاف أن تشاهد تلك الأفلام. في البداية كانت منه محاولة إقناعها ولاحقا أصبحت تجربة إخضاع وإجبار على رؤية تلك الأفلام فكانت في منتصف الليل وما بعد ترى الأجساد المشوهة أو المخلوقات الغريبة المتوحشة أو السوء الذي يتربص بالمسكينة الآمنة في غرفة نومها أو في حمامها...كانت فاطمة ترتعد وتخاف ومع الصرخات المنبعثة من الأفلام كانت تخرج صرخات مخنوقة منها....

بالرغم من مرارة هذه التجربة إلا أن فاطمة كانت تعتبرها ربما بداية لألفة بينهما وكانت تنتظر أن يحقق رغبة ما في نفسه ومن ثم يفكر فيتحرر من عقدة ما لديه...ولكن عبثا فقد كانت تنتظر المستحيل. كانت يائسة ومع ذلك لم تحمّله كامل المسؤولية فراحت تفكر باتجاه آخر وتظن أن الخطأ ربما تتحمل هي جزءا منه ولهذا خطر لها أن تبدل ملابسها وهو في السرير ففعلت ولكنه ولخيبتها أدار وجهه باتجاه آخر وراح يشتمها. لم تكن الدنيا لتتسع لكآبتها عندما سألته: "لماذا قبلت أن تتزوجني إن أردت أن نكون هكذا؟" لم يجب بحرف! تابعت قائلة: "ماذا تظن أن الأهل والأقارب سيقولون عندما يسمعون عما هو بيننا؟" أجابها بغيظ: "إن صدر عنك كلمة واحدة فالذبح مصيرك...أنا لا أمزح...سأذبحك إن سمع أحد بما تلمحين به!" ازداد الخوف في قلب فاطمة ولم تعرف بماذا تتصرف أو لمن تشتكي! راحت تفكر أين الخطأ هل يحب واحدة أخرى؟ هل الغلط في شكلها؟ هل لديه عجز ويرفض الإقرار بذلك؟ كانت في النهار أثناء غيابه تقف أمام المرآة وتنظر في وجهها فترى تعابير السهر والقلق والألم والخوف والذعر وتستمر في التساؤل بداخلها عن السبب!
عاد ناصر ذات مساء إلى البيت وكانت تتعمد يومها أن تبقى في لباسها الداخلي لعله يرى فيها ما يحركه ولكنه ذعر من رؤيتها بذلك الشكل وصرخ بوجهها عاليا البسي يا.... فلبست وهي تبكي بغضب...! كانت تموت لتعرف ما هو السبب أما هو فكان يموت ليخفي السبب. بعد منتصف الليل قال لها اليوم لن نشاهد فيلم لأننا سنذهب في نزهة! فقالت في نفسها ربما هناك مستجدات ستغير نظرته لها وستغير من سلوكه معها. خرجت معه وكان ذلك هو المشوار الأول برفقته منذ اصطحابها عروسا إلى البيت! راحا يمشيان وهو المرشد في ذلك المشوار ولدهشتها وغرابتها وصلا إلى مقبرة فوقف وراءها بإيحاء لها أن تمشي أمامه إلى داخلها.. فعلت...وهناك وسط المقبرة طالبها بالجلوس فوق قبر وهي ترتعد ولا تفهم ما يدور في رأسه! قال لها: "أتحبين أن تكوني بين هؤلاء؟" وقبل أن تجيب قال لها: "لو قتلتك وتركتك جثة هنا فمن سيعرف القاتل؟" اختنقت بالبكاء فأمرها ألا تبكي...ثم تابع: "ليس أسهل عليّ من قتلك إن سمعت أنك قلتي حرفا واحدا عني لأحد...!" ثم تابع قائلا لها: لا أريد قتلك ولكن إن راودتك فكرة قول أي شيء لأي إنسان فسأقتلك!" ثم قال لها: "انهضي" ففعلت ومشيا خارج المقبرة وهي تبكي.
في البيت كانت ترتعد مذعورة، لم تعد تفكر في السبب في كونه غير عادي في علاقته بها أو ماذا به أو لماذا لم يلمسها ولماذا هو حريص ألا ينزع ملابسه أمامها أو يراها تنزع ملابسها بحضوره... بل انصب تركيزها على فكرة واحدة وهي كيف ستهرب منه!
في اليوم التالي نزلت أسفل الدرج وتأكدت أن لا أحدا يقف بالدار ثم تسللت خالية اليدين إلى الخارج ومن بعدها اختفت!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و