الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المدنية السومرية .. نظرة تاريخيّة في الأصالة والابداع (٧)

وليد المسعودي

2021 / 6 / 25
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


الآداب والفنون السومرية

المراثي والاحزان

لم تكن المراثي والاحزان لدى الانسان السومري ناتجة عن تفكير وابداع ادبي فحسب بل كانت مرتبطة بالوقائع السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، تلك المتضمنة سقوط المدن وتلاشيها واحتلالها من قبل الأعداء من العيلاميين والسوباريين والاموريين ، حيث تم القضاء على السلالة الثالثة الشهيرة ( ٢٠٠٢ ق م) وكان نتيجتها رثاء تدمير مدن أور واكد على ايدي تلك الاقوام (٦٥)

حيث دمرت المدن تلو الاخرى بالرغم من المناشدات والادعية والتوسلات من قبل الهة المدن الى كبار الالهة ( انليل) و ( انو) ولم ينفع كل ذلك ، بل زادت وتيرة التدمير والخراب اكثر فاكثر مع كثرة التوسلات والادعية ، اذ يعد ذلك التدمير امرا الهيا لا راد له من قبل احد من البشر ، اي ان تدمير المدن كان لغائية مقصودة وارادة الهية لا يستطيع البشر دفعها ومقاومتها ، وبالتالي بعد ان دمرت المدن لم تظهر المراثي والاحزان " البكاء والندب " كتعبير ادبي وثقافي يصور حالة الخراب الذي عم مدينة اور واكد فحسب بل لتزامن حالات المهانة والشقاء والعبودية من قبل المحتلين الأعداء ايضا ، فبعد سلسلة الخراب الذي اصاب الجميع ، الضعفاء والاقوياء ، النساء والرجال ، الاطفال وكبار السن ، البيوت ودور العبادة ، هناك ايضا ما هو معاش بشكل يومي من المهانة والجوع والقحط ، فضلاً عن خلو اي وسيلة لعودة النواميس الطبيعية خلال فترات العذاب والبؤس لهذه المدن ، تلك التي تمثلت في " تخريب ضفاف الانهار واجداب الحقول والمراعي ونقل الملكية الى ارض غريبة " (٦٦)

وهكذا يكون الرثاء مرا أليما ليس في قلب الشاعر فحسب بل في قلوب جميع المعذبين بشر والهة ، وكأن الحياة التي تبدلت نواميسها قد قامت ولم تقعد ، كل شيء في خراب مستديم ، وما على البشر انفسهم سوى متابعة البكاء والتذرع والدعاء والصبر على حدوث البلاء حتى زوال الغيوم والهموم والكرب العظيم ، اذ احيانا ما تنتهي القصص الحزينة بنهايات سعيدة ، فهذه اور بعد ان هجرها الالهة والبشر على حد سواء تعود الى حالتها الطبيعية من التمجيد والتعظيم للالهة بالرغم من الخراب والدمار الذي حل سابقا ، الامر الذي جعله سنة ثابتة لدى الأجيال المتلاحقة والعقائد المتلاحقة وان اختلفت مسمياتها ، والمشترك الوحيد هو ديمومة الصبر والرضا بالحال حسنا كان او سيئا (٦٧)

ان اي حدث سياسي كأن يكون تعرض البلاد الى احتلال وتدمير ما يؤخذ على انه لعنة الهية على البشر انفسهم ، وبالطبع دائما ما تبدأ اللعنة على الحاكم أولاً ومن ثم يأتي للبشر المحكومين نصيبهم ، فهذا " انليل " يغضب على احد حكام " اكد " وهم نرام _ سين حفيد سرجون الاكدي فيسلط عليه " الكوتيين " البرابرة من جبال زاجروس من اجل تدمير البلاد وفي مقدمتها العاصمة " اكد " (٦٨)
والسبب هو عدم تحمل هذا الملك العداء وربما الحصار على مدينة اكد من قبل الالهة الذين تركوها وهجروا معابدها ، وبالتالي لا يملك هذا الملك بعد ان صبر سبع سنين عجاف حل التدهور والضعف في بلاده سوى الجرأة والثورة على الاله " انليل " نفسه ، حيث قام بتدمير معابد مدينة " نفر " ونهبها وانتهاك حرماتها وبالتالي قيام انليل كما ذكرنا اعلاه بتسليط جيوش الكوتيين عليه ، بحيث لم يبق بيتا او بستانا في المدينة لم يصله الدمار والقحط ، انتقام ليس كمثله انتقام مثل ما حدث في مدينة نفر يحدث في مدينة الملك نرام _ سين " اكد " (٦٩)

" فعسى ان يتعالى الندب والبكاء في ارجائك فتردد اصداءه أسوارك فاسقطي وانطرحي مترنحة مثل السكارى من ضخام الرجال "

هذه المراثي والاحزان شكلت في النهاية ظاهرة تاريخيّة متداولة في بلاد وادي الرافدين بعد كل سلسلة من الاحتلال والتدمير والخراب ، انتقلت بين الاجيال وتوارثتها الازمنة المنكوبة لدى البشر انفسهم ، ولا تخرج المراثي من تواصلها حتى ازمنتنا الراهنة ، بالرغم من كثرة الاجناس والاقوام الغازية ، الا ان انتقالها يأخذ صفات الاندماج مع الوافد الجديد من هذه الاقوام ، وهنا نشير الى الندب والحزن العراقي على مأساة الحسين بن علي في كربلاء ما هي إلا انتقالات في التناسخ والاضافة ضمن اشكال تؤبد حالات انهيار الانسان مع تزامن مشاعر الخذلان والمهانة والذل في الازمنة الراهنة .(٧٠)


المصادر : _

٦٥_ باقر ، طه / مقدمة في ادب العراق القديم / دار الحرية للطباعة ، ١٩٧٦ / ص ٢١٣
٦٦ _ المصدر ، نفسه / ٢١٥
٦٧_ هل نستطيع ان نقول ان تاريخ الصبر والخضوع والتسليم للقدر بدأ من ارض السومريين ، خصوصا وان هناك نصوصا مكونة من ستة الواح تشير الى ذات قصة ايوب في قصيدة سومرية تتحدث عن رجل غني تنهال عليه المصائب والبلايا الواحدة تلو الاخرى، ولا يملك هذا الموسر سوى الاستمرار في التسليم والرضا بحاله من جهة وبذل الكثير من التذرع والنواح والندب وجمغ الاقارب من حوله لمشاركته في الندب والرثاء من جهة اخرى ، حتى يعود الى حالته الطبيعية بعد زوال كل هم وكرب ، وبالفعل تنتهي قصته الحزينة بنهاية سعيدة . يراجع هنا . من الواح سومر / صموئيل كريمر / ص ٢١٨
٦٨ _ باقر ، طه / مقدمة في ادب العراق القديم / ص ٢١٨
٦٩ _ يبدو ان كل شيء مصعد الهيا ، الصراع السياسي ، والاجتماعي ، بين البشر انفسهم ، احتلال المدن والسيطرة عليها ، فقر وقحط الناس ، الغنى وراحة البال ، ذلك ما يظهر بشكل جلي في قصائد الرثاء السومرية حيث نسبة كل ما يحدث الى الالهة وما على البشر سوى ان يكونوا تابعين للمشيئة نفسها واي خروج منها سوف يكون او يعم الخراب والدمار، مثال ذلك ما حدث للملك " نرام _ سين) لمدينته اكد . يراجع هنا قصيدة او اللعنة الالهية كما يسميها طه باقر في ترجمته لها ، في المصدر نفسه / ص ٢٢٠٢٢١ .
٧٠ _ وكربلاء هنا ايضا من حيث التسمية ذات ارث سومري حيث المقصود منها " قرب _ إل " و " إل " هو احد الالهة العراقية القديمة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما ردود الفعل في إيران عن سماع دوي انفجارات في أصفهان وتبريز


.. الولايات المتحدة: معركة سياسية على الحدود




.. تذكرة عودة- فوكوفار 1991


.. انتخابات تشريعية في الهند تستمر على مدى 6 أسابيع




.. مشاهد مروعة للدمار الذي أحدثته الفيضانات من الخليج الى باكست