الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أنا مريضة يا أبي!

ضيا اسكندر

2021 / 6 / 27
الادب والفن


نهضَتْ من فراشها متثاقلةً. ومشَتْ بِضعَ خطوات. أحسّت بدوارٍ مفاجئ وصداعٍ في الرأس. عادت مرةً أخرى إلى سريرها وجلسَتْ. وضعَتْ راحتها على جبينها تجسُّه، شعرَتْ بحرارتها مرتفعة. حاولت بلع ريقها، وجدت صعوبةً بسبب آلامٍ في حلْقها. تلمّسَتْ أعلى عنقها موضع اللوزتين، ألْفَتْهُما متضخمّتين. نهضَتْ مجدّداً واتجهَتْ إلى الصالون. كان والدها يستمع بضجرٍ إلى نشرة الأخبار عن القمّة الروسية الأمريكية وآراء المحلّلين السياسيين، وتركيزهم على عدم تطرّق القمّة للملفﱢ السوري بتوسّع، كما كانوا يأملون. وابتدرتْه قائلةً بنبرةٍ حزينة وصوتٍ مبحوح:
- بابا، حرارتي مرتفعة. يبدو أنني مصابة بالتهاب اللوزتين!
خفَّض والدها صوت التلفزيون، وقد تملّكته أحاسيس من يتنبَّأ بسوء الطالع. قال في سرّه: «هذا الذي كان ينقصنا!». قام باتجاهها باهتمام لامساً جبينها وموضع لوزتيها، وتأكّد من صحّة تشخيصها.
ابنته سمر في الصف العاشر. وقد فضَّلتِ العيشَ مع والدها بعد انفصاله عن أمّها التي أخذت معها شقيقها سامر، كونه صغيراً لم يتجاوز السابعة من العمر. بعد أن اقتنع الزوجان بأن استمرارهما قي العيش المشترك، بات جحيماً لا يُطاق؛ بسبب تفاقم المشاكل بينهما يومياً، نتيجة تردّي الأوضاع المعيشية في البلاد. وعجزهما عن تلبية متطلّبات الحدّ الأدنى من العيش الكريم. علاوةً على اصطفافه إلى جانب القوى السياسية المناهضة لنظام الحكم، ما قد يؤدّي في كل لحظة إلى اعتقاله مجدّداً. وهذا سببٌ إضافيٌّ لنفور زوجته منه. لا سيما بعد تذوّقها الويلات أثناء اعتقاله في المرة الأخيرة، عقب ولادة سمر بسنة واحدة، وبقائه مغيّباً عنها سنواتٍ طويلة. إلى أن تم الإفراج عنه بمرسومِ عفوٍ رئاسي.
حاول الكلام للتخفيف عنها، إلّا أن حنجرته خانته. تريَّثَ قليلاً وهو ينظر إليها يفكّر مهموماً، كيف سيشرحُ لها بأنه لا يملك ثمن الدواء. وخاصةً بعد ارتفاع أثمانه. قال لها بعد برهةٍ من الصمت، متظاهراً بأن الأمرَ هيّن ولا يدعو إلى القلق:
- سلامتك يا بابا! بسيطة إنشاء الله. يمكنك الغرغرة بالماء المالح الدافئ عدة مرات في اليوم. بالإضافة إلى مضغ الثوم.. صدّقيني خلال ثلاثة أيام سترتاحين تماماً. فأنا دائماً أجرّبُ هذه الوصفة الفعّالة. ونتائجها أكثر من عظيمة.
بصوتٍ أقرب إلى البكاء أجابت سمر:
- ولكني يا بابا لا أُطيق الثوم نيّئاً! كما أن الغرغرة تجعلني أتشردق وأسعل..
- يا حياتي، أنتِ ما زلتِ في مقتبلِ العمر، ولا أنصحك باللجوء إلى الأدوية كُلَّما دقَّ الكوز بالجرّة. دعي جسمك يعتاد على مناعته الذاتية في مقاومة الأمراض. هناك الكثير من الشعوب المتقدمة، بدأت بالتخلّي التدريجي عن الأدوية الكيميائية نظراً لأضرارها الجسيمة، والاستعاضة عنها بالتداوي بالأعشاب والذي يُسمّونه "الطبّ البديل".
أحسَّت سمر بعدم رغبتها في الجدل مع والدها. طأطأت رأسها ملتزمةً الصمت، وانكفأت عائدةً إلى غرفتها مكسورة الخاطر.
وقف والدها والحيرة والكآبة تلتهمان كيانه. عاجزاً عن أدنى فعل يمكّنُهُ من استعادة رجولته وكرامته، التي تُهدَر كل يوم بمتوالية «هندسية» مرعبة. وبدأ يتصاعد دخان الغضب في داخله. احمرَّت عيناه من شدّة الغيظ والقهر. واستحال وجهه في مثل لمح البصر، إلى الامتقاع والاحتدام والتوعّد. تذكَّرَ أن البلاد لا تحتمل المزيد من التظاهرات المندّدة بأوضاعها المزرية. فالبطش والتنكيل والاعتقال، وربما القتل.. في انتظار كلّ من تسوّل له نفسه التعبير ولو بشكلٍ سلمي عن معاناته في الشارع. لا أمل ولا ثقة له بالأحزاب المعارِضة الضعيفة، التي لا تختلف في معظمها عن الحزب الحاكم. ولا سند إقليمي أو دولي يمكن الاعتماد عليه في أية انتفاضة شعبية قادمة.
شعر بأنه سيختنق، سيتمزَّق، سيُصاب بالجلطة ما لم يتصرَّف.
أغمضَ عينيه وأخذ نفساً عميقاً وأمال برأسه إلى الوراء، مغلّلاً أصابعه في شعر رأسه بتوتّر. وسرعان ما اندفع خارجاً من بيته كالسهم. غير مكترثٍ بقدميه الحافيتين وشعره المنكوش، الذي يبدو وكأنَّ أُصْبُعَ ديناميت انفجر فيه. وقفَ في منتصف الشارع يتقادح الشررُ في عينيه. وجسده يرتعش بأكمله من شدّة الغضب. وانطلق يصرخ بأعلى صوته ويشوّح بكلتا يديه، وقد نزح من قلبه كل خوف:
- يا ناس، يا بشر، ولك يا قطييييع! لماذا لا تتحرّكون مطالبين بحقوقكم؟ علامَ الخوف؟ حياتكم كلها جوع وقهر وحرمان وعذاب وإذلال وعفس كرامات.. ماذا تنتظرون أكثر؟! ولك حتى الكلاب تنبح عندما تجوع منبّهةً مالكيها بحقوقها. استيقِظوا من سُباتِكم يا تنابل، ولك انهضوا يا، يا بجم..! ألا تخجلون من أولادكم وأحفادكم؟! عار صمتكم هو الذي سيُطيل من عُمْرِ مأساتنا.. ولك تفوووه على شرف كل واحد يرضى بالظلم، ولا يدافع عن حقه في الحياة بكرامة وعِزَّة وإباء!
توقّفت حركة السير في الشارع. وتجمَّعَ بعض الناس بدافع الفضول يراقبون. واقترب منه بعض الجوار مِمَّن يعرفونه مذهولين، وقد ظنّوا بأنه فقَدَ عقلَه تماماً. وعكست الأعين جفولاً سرعان ما تُرجِمَ إلى انفضاضهم من حوله كأنهم يهربون من وباء. هرع صوبه صاحب الدكّان الذي يقترض منه أبو سامر عند الحاجة، وضمَّه إلى صدره بمودّة وهو يهمس بإذنه:
- تعال معي يا جار. سأُغلِقُ دكّاني ونذهب سويةً إلى بيتك لنشرب القهوة معاً.
انتفض أبو سامر وعيناه تشعّان لهيباً، مخلّصاً نفسه بصعوبة من ذراعَي الدكّنجي وهو يهتف بضراوة:
- ولك أصلاً ما عندي قهوة لنتزقَّمها منذ أكثر من أسبوع.. افهمْ بقى!
ردَّ بإشفاق:
- ولا يهمّك يا جار، سأجلب معي ظرف قهوة من دكّانتي.. لحظة وأعود إليك.
مسح أبو سامر عينيه بظاهر كفّه. وسط جعير السيارات احتجاجاً على عرقلته للسير. تأمَّلَ بناظريه الشارع الطويل المزدحم، والذي تحكي فيه كل بنايةٍ على جانبيه، الكثيرَ من الآلام والمعاناة المزمنة. وقذف سيلاً من الشتائم بصوتٍ جَهْوَريّ، أراد أن يصلَ إلى كافة أرجاء البلاد. على كلﱢ من هو جبان وخانع فيها. وقفل عائداً إلى بيته يُبربرُ شاحباً ذابلاً. تتناهى إلى أسماعه تعليقات المارّة المتفاوتة في تضامنها معه، وشجْبِها للظروف التي أدّت به إلى هذه الحالة الحقيرة من الضيق والاضطراب.. والجنون!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة


.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي




.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة