الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عقابيل السموم الصامتة على أجساد وعقول أطفالنا

مصعب قاسم عزاوي
طبيب و كاتب

(Mousab Kassem Azzawi)

2021 / 6 / 27
الصحة والسلامة الجسدية والنفسية


تعريب فريق دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع لملخص محاضرة قدمها الطبيب مصعب قاسم عزاوي باللغة الإنجليزية في مركز التثقيف الصحي المستمر في لندن.

نشرت منظمة الصحة العالمية تقارير مهمة توثق بالتفصيل آثار البيئات غير الصحية وسمومها على صحة الأطفال. نُشر أحدث هذه التقارير، بعنوان «وراثة عالم مستدام: أطلس عن صحة الأطفال والبيئة»، في العام 2017. من النتائج الرئيسية التي نتجت عن العمل البحثي لمنظمة الصحة العالمية التوثيق المنهجي الرصين لكون المخاطر الكيميائية والفيزيائية والبيولوجية في البيئة مسؤولة عن 23٪ من الوفيات في جميع أنحاء العالم وعن 26٪ من جميع وفيات الأطفال دون سن الخامسة.
السمية تحت السريرية هي مفهوم يتمحور حول أن المواد الكيميائية السامة يمكن أن تسبب مشاكل صحية للأطفال دون ظهور أي أعراض. تسمى السمية تحت السريرية أيضاً بالسمية الصامتة. في حين أن التسمم تحت السريري لا يسبب أعراضاً واضحة، إلا أن أضراره يمكن أن تكون كبيرة ويمكن ملاحظتها في اختبارات الذكاء، أو الأشعة السينية، أو اختبارات وظائف الرئة، أو غيرها من التقييمات لصحة الأطفال.
على النقيض من ذلك، عندما يحدث التسمم بسبب التعرض لجرعة عالية من مادة كيميائية سامة، تكون الأعراض شديدة وواضحة للغاية. ينتج عن التسمم الحاد بجرعات عالية من الرصاص في مرحلة الطفولة أعراض عميقة مثل النوبات الاختلاجية وتلف الدماغ والموت. ويسبب التسمم الحاد بميثيل الزئبق تخلفاً عقلياً شديداً لدى الأطفال المعرضين له في الرحم. حدث التسمم الحاد بميثيل الزئبق في مينيماتا، اليابان، في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وتسببت في تخلف عقلي عميق لدى الأطفال الذين تعرضوا في الرحم له بعد أن أكلت أمهاتهم أسماكاً من المياه الملوثة بنفايات الزئبق من مصنع صناعي.
في الواقع، التسمم الشديد بجرعات عالية يشبه قمة جبل الجليد، حيث نرى فقط الجزء الصغير المرئي من شيء أكبر بكثير. من ناحية أخرى، فإن السمية تحت السريرية هي الجزء الأكبر والأقل وضوحاً من الجبل الجليدي الذي يفلت من الملاحظة حتى يتم البحث عنه على وجه التحديد. يمكن أن يفوت الآباء مشاكل السمية تحت السريرية الصحية الدقيقة، ولا تظهر هذه السموم في فحص الأطفال القياسي. ولذلك يطلق عليها اسم تحت السريري، والذي يعني بأنها لا يمكن العثور على مفاعيلها إلا من خلال اختبارات خاصة، مثل اختبار الذكاء أو تقييم السلوك العصبي.
في حالة التسمم بالرصاص، تم التعرف على السمية تحت السريرية لأول مرة في السبعينيات من القرن العشرين في الدراسات التي أجريت على الأطفال المعرضين للرصاص. تم توجيه أكبر وأهم الدراسات من قبل طبيب الأطفال والطبيب النفسي للأطفال هربرت إل نيدلمان Herbert L. Needleman. وهو الذي أظهرت تقييماته السريرية والوبائية الدقيقة أنه حتى المستويات المنخفضة جداً من التعرض للرصاص التي لا ينتج عنها أعراض واضحة قادرة على إحداث إصابات دماغية «صامتة» لدى الأطفال، مما يؤدي إلى انخفاض في الذكاء، وتقصير مدى الانتباه، وتغيير السلوك.
وجدت المتابعة طويلة المدى للأطفال المعرضين للرصاص أن لديهم معدلات مرتفعة من صعوبات القراءة والفشل المدرسي والعقوبات القضائية بالسجن. أوضحت الدراسات التي أجراها نيدلمان وآخرون أن السمية تحت السريرية مع تلف الدماغ والجهاز العصبي يمكن أن تسبب إصابة كبيرة للأطفال تستمر مدى الحياة.
تم تحديد السمية تحت السريرية التي يسببها ميثيل الزئبق عند الرضع المعرضين قبل الولادة لميثيل الزئبق بمستويات منخفضة للغاية بحيث لا ينتج عنها أعراض سريرية واضحة. وأظهرت دراسة في نيوزيلندا أن الأطفال الذين تعرضوا لميثيل الزئبق قبل الولادة لديهم انخفاض بمقدار 3 نقاط في معدل الذكاء وكذلك تغيرات في سلوكهم. علاوة على ذلك، وجدت دراسة كبيرة على الأطفال المعرضين للولادة في جزر فارو في الدنمارك أيضاً دليلاً على أن الأطفال يعانون من ضعف في الذاكرة والانتباه واللغة والتفكير المرئي. كانت شدة الأضرار مرتبطة بشكل مباشر بدرجة التعرض لميثيل الزئبق. كما أظهرت دراسة أخرى في جزر سيشل بعض الأدلة على السمية العصبية قبل الولادة. راجعت الأكاديمية الوطنية الأمريكية للعلوم هذه الدراسات وخلصت إلى أن هناك الآن دليلاً قوياً على أن ميثيل الزئبق يمكن أن يدمر دماغ الطفل الذي لم يولد بعد والجهاز العصبي في جسده، حتى عند مستويات التعرض المنخفضة للغاية.
لقد توسع مفهوم السمية تحت السريرية الآن إلى ما هو أبعد من الرصاص وميثيل الزئبق ليشمل مجموعة واسعة من المواد الكيميائية السامة التي تسبب آثاراً ضارة في أنظمة أعضاء متعددة لدى الأطفال. في حين أن التأثيرات دون السريرية قد يمكن تحمل عقابيلها البائسة نسبياً على المستوى الفردي، إلا أن التأثيرات الإجمالية على مستوى السكان يمكن أن يكون لها عواقب اقتصادية واجتماعية بعيدة المدى.
في الواقع، يعتبر التعرض الواسع للمواد الكيميائية السامة التي تلحق الضرر بالدماغ والجهاز العصبي أمراً خطيراً بشكل خاص، لأن الضرر الذي تسببه هذه المواد الكيميائية يكون صامتاً ومخاتلاً ولا يمكن اكتشافه بسهولة إذ لا يتم استقصاؤه من خلال إحصاءات الصحة والرفاهية الوطنية المعتادة التي تحتفظ بها معظم البلدان، بينما قد تستمر السمية الصامتة بلا هوادة لفترة طويلة.
يمكن أن ينتج عن السمية الصامتة ضرر جسيم للمجتمع حيث يمكن أن تزيد السمية الصامتة من عدد الأطفال الذين يحتاجون إلى خدمات التربية الخاصة، وتخلق أزمة لعدد أكبر من الأطفال الذين قد يعانون من اضطرابات نقص الانتباه والمشاكل السلوكية التي يمكن أن تحد من قدرتهم على المساهمة بشكل كامل في بناء المجتمع عندما يصلون إلى سن الرشد.
إن الوباء العالمي لتسمم الأطفال بالرصاص قصة مأساوية وخزي للبشرية جمعاء. يمكن توضيح أحد فصولها من خلال قصة ملايين الأطفال في الولايات المتحدة الذين تعرضوا لمستويات مفرطة من الرصاص من عشرينيات القرن الماضي إلى أوائل الثمانينيات منه، عندما تمت إضافة الرصاص (على شكل رباعي إيثيل الرصاص) إلى البنزين بشكل روتيني لزيادة أداء المحرك. في ذروة الاستخدام في السبعينيات، كان الاستهلاك السنوي لرباعي إيثيل الرصاص في البنزين في الولايات المتحدة يقارب 100,000 طن. تم إطلاق كل هذا الرصاص تقريباً في البيئة من خلال أنابيب عادم السيارات والشاحنات. تسبب ذلك في تلوث بيئي واسع النطاق، خاصة داخل المدن وعلى طول الطرق. كان متوسط مستوى الرصاص في الدم لدى الأطفال الأمريكيين قريباً من 20 ميكروجرام/ديسيلتر.
وبشكل مشابه لما حدث في الولايات المتحدة فعلى الصعيد العالمي، عانى ملايين من الأطفال الذين ولدوا في تلك الحقبة من إصابات دماغية غير مشخصة، مع فقدان نقاط الذكاء، وقصر مدى انتباههم، وتغير في السلوك نتيجة تعرضهم للرصاص من البنزين. تشير التقديرات إلى أن وباء التسمم بالرصاص تحت السريري قد يكون قد قلل من عدد الأطفال ذوي الذكاء العالي (درجات الذكاء فوق 130 نقطة) بأكثر من 50٪، وبالمثل تسبب في زيادة أكثر من 50٪ في عدد الأطفال ذوي درجات الذكاء تحت 70 على المستوى الكوني. وفي الولايات المتحدة وحدها، بلغ إجمالي عدد الأطفال المعرضين لخطر التعرض للرصاص المحمول في الهواء خلال 40 عاماً من استخدامه حوالي 100 مليون فرداً.
نتيجة للتعرض على نطاق واسع للرصاص في جميع أنحاء العالم، كانت هناك زيادة في عدد الأطفال الذين لم يكن أداؤهم جيداً في المدرسة، والذين يحتاجون إلى تعليم خاص وبرامج علاجية أخرى، كما لم يتمكنوا من المساهمة بشكل كامل في المجتمع عندما أصبحوا بالغين. وفي الوقت نفسه، كان هناك انخفاض في عدد الأطفال الذين لديهم درجات ذكاء أعلى.
يمكن أن يكون الضرر الذي يلحق بالمجتمع من خلال المواد الكيميائية السامة كارثياً كما كان كذلك عبر التاريخ. تكهن بعض المؤرخين بأن سقوط الإمبراطورية الرومانية ربما كان بسبب التسمم بالرصاص على نطاق واسع. من المعروف أن الرومان استخدموا الرصاص، وهو معدن ناعم للغاية، لربط قنوات المياه التي تنقل المياه من الجبال إلى مدنهم. ربما تسبب تعرض المواطنين الرومان للرصاص في إمدادات المياه الخاصة بهم إلى فقدان الذكاء وتقليل الخصوبة، خاصة بين الطبقات العليا، الذين استخدموا أيضاً خليطاً خاصاً من الرصاص لتقوية نكهة نبيذهم. وهو نموذج تاريخي كالح يبدو أن البشرية المعاصرة تسري في نهجه على عجل في حال استمرار استمرائها المريب لمفاعيل الرأسمالية السمية التي لا تعلو فيها قيمة فوق قيمة الربح السريع بغض النظر عن الخسائر الجانبية التي لا بد من التضحية بها، حتى لو كان ذلك حيوات وصحة وعافية مئات الملايين من البشر.


*****
هوامش:

للاستماع إلى نص محاضرة الطبيب مصعب قاسم عزاوي باللغة الإنجليزية يمكن مراجعة الرابط التالي:

https://academy.house/en/videos








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل ينهي الرد المنسوب لإسرائيل في إيران خطر المواجهة الشاملة؟


.. ما الرسائل التي أرادت إسرائيل توجيهها من خلال هجومها على إير




.. بين -الصبر الإستراتيجي- و-الردع المباشر-.. هل ترد إيران على


.. دائرة التصعيد تتسع.. ضربة إسرائيلية داخل إيران -رداً على الر




.. مراسل الجزيرة: الشرطة الفرنسية تفرض طوقا أمنيا في محيط القنص