الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إيميل إلى مارتا 3

علي دريوسي

2021 / 6 / 29
الادب والفن


جزء ثالث وأخير

وأنا أغادر محطة المترو كاد يصدمني الباص الأحمر فقد نسيت أن أنظر إلى الجهة اليمنى كما العادة هناك ورحت أنظر إلى الجهة اليسرى حيث لفت نظري واحد من فقراء الطبقة التي حدّثتنا عنها "غريت" بينما كان ينظّف أوساخ المحطة. فكرت بذلك الرأي الذي نطق به لينين على ما أعتقد حين ظنّ أن الأعمال الرخيصة سوف تكون ذات قيمة في المستقبل بحجة أن وسائل الإنتاج ستشهد تطوراً واسعاً. ها قد شهدت وسائل الإنتاج تطورها الحتمي إلى درجة غير معقولة يا رفيق لينين وما زالت هذه الأعمال رخيصة ومملة وبائسة ومحصورة بفقراء العالم.

في العطلة الأسبوعية وأثناء تجوالي صباحاً في شوارع ضاحية "كولينديل" اللندنية ـ حيث لا أثر للطبقة المتوسطة ـ رأيت كيف هي حياتهم مملة وكئيبة، ولا سيما إذا كان واحدهم دون عمل، رأيت واحداً منهم وكأنني رأيتهم جميعاً. كان يقف أمام منزله المهترئ، كان المكان بارداً وفارغاً إلّا منه ومن قطة تبحث قربه عن فأر تلتهمه، كان يقف بقميصه الداخلي الأبيض وبيجامته القماشية المخططة بالأصفر والبيج، يستند بيديه العاريتين على غطاء برميل قمامة، ينظر بعينيه الحائرتين إلى الشارع الميت وهو يدخن سيجارته بهدوء، راح يتأمل عابر سبيل غريب، يتأملني، كنت أمشي وأتأمل بدوري الرجل الستيني الحزين، الذي يعانق برميل القمامة من شدة الوحدة.

ما أن تصلين محطة المترو "أورك" مثلاً، شمال لندن، المحطة التالية مباشرة بعد محطة "كولينديل" التي تبعد حوالي أربعين دقيقة عن مركز مدينة لندن، حتى ترين شارعاً أفعوانياً طويلاً طويلاً مكتظاً بالناس الغرباء، ناس من مختلف الألوان والأحجام والأشكال والأصوات والأديان والطوائف والمذاهب والأعراق والتوجهات، ناس من مختلف بقاع العالم، من الصين وإيران وتركيا والباكستان والهند وأفغانستان والصومال ومصر وسوريا... يعيشون جميعهم في سلام واحترام متبادل ولا أحد يبالي بما يفعله الآخر.

البيوت على طرفي الشارع متلاصقة مهترئة وغالباً تحتوي على طابقين، تحوّل الطابق الأرضي في كل منها إلى دكان أو متجر أو مقهى، لدرجة أنّك ترين بوضوح أنّه بين دكان الحلّاق والحلّاق دكان حلّاق، وبين مكتب العقارات والعقارات مكتب عقارات، وبين دكان الخضراوات والخضراوات دكان خضراوات، وبين دكان الحلويات والحلويات دكان حلويات، وبين دكان الملبوسات والملبوسات دكان ملبوسات.

والناس تمشي في هذا الشارع أفواجاً، جميعهم، نساء ورجال وأطفال، من حملة الكروش العالية والأرداف العريضة، ناس يتكلمون عشرات اللغات في الوقت نفسه، لأجسادهم روائح غريبة، روائح لا تُطاق أحياناً، لملابسهم روائح تشبه تلك التي تنبعث حين لا يغسل الإنسان ملابسه لمدة طويلة، ناس لا أثر للإنكليز بينهم، ناس فقراء مساكين مثل أولئك الذين يعيشون في ضواحي عواصم أفقر البلدان، ناس طالما ذكّروني بسكان السيدة زينب ونجها والمطلة المحيطة بمدينة دمشق.

اصطحبتني زميلتي "غريت" إلى منطقة "غولديرس غرين" شمال لندن، هناك يسكن معارفها وأقرباؤها من اليهود، هناك ترين اليهود موزعين في كل شارع وناصية وبيت، زرنا في البداية أحد أخوالها الذي يدير ويملك مخبزاً لصناعة الحلويات اليهودية وبعض أنواع الخبز، في اليوم نفسه زرنا متحف اليهود في بلدة "كامدن تاون".

بعد الظهر سافرنا معاً بالباص رقم 210 إلى مقبرة "هايغيت" التي يعود تأسيسها إلى عام 1820، ما يميزها نظافتها وقبورها القديمة، العائدة بشكل خاص إلى موتى الشريحة العليا في المجتمع وبعض رموز المدينة من أهل الفن والعلم والتجارة. كان أهمها بالنسبة لي ضريح اليهودي الشيوعي والفيلسوف كارل ماركس، الذي يعتبر بمثابة معلم حج لمن ما زال وفياً لخط سيره وبوصلته السياسية، كذلك للمغردين خارج السرب من الأجيال الجديدة. أمام قبره تجدين قبل كل شيء سواحاً من البلدان المسماة اشتراكية. كانت فرحتي كبيرة بزيارته ومعانقة تمثاله. تصورنا بجانبه، ضحكنا مع الرفاق الصينيين الذين وقفوا أمام نظراته خاشعين، ثم قرأنا الرسالة المنحوتة على جدار قبره: "كل ما فعله الفلاسفة هو تفسير العالم بطرق مختلفة، لكن القضية المهمة تكمن في تغييره."

في طريق العودة غضب الرب مني فجأة وأنا في موقف الباص "غولدرس غرين" بانتظار الباص رقم 13 المسافر إلى محطة "فيكتوريا" جنوب لندن، هبت ريح قوية وأمطرت السماء المعتمة، طارت أوراقي التي كنت أكتب فيها ملاحظاتي وانطباعاتي عن الرحلة، تبعثرت منها خمس وريقات مكتوبة بشكل كامل إلى الطريق الذي تعبره السيارات مسرعة بالاتجاهين، لحسن الحظ ألقيت القبض على واحدة، وفي الجهة الأخرى من الشارع تمكنت سيدة تنتظر الباص في الموقف المقابل من القبض على ورقة أخرى، أما الوريقات المتبقيات فقد حلّقن مع انطباعاتي الموثَّقة عالياً وبعيداً.
ولهذا سأتوقف عند هذه النقطة عن متابعة الكتابة إليك.

العزيزة مارتا،
الغالية التي خسرتها بفعل أنانيتي، اشتقت إليك وإلى رائحة طفلنا المشترك. إلى لقاء أتمناه أن يكون قريباً، كوني بخير وانتبهي إلى نفسك جيداً. محبتي وتقديري لك وقبلاتي الحارة لطفلنا الحبيب إسحاق.
أضمكما بمحبة
إبراهيم








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024


.. السجن 18 شهراً على مسؤولة الأسلحة في فيلم -راست-




.. وكالة مكافحة التجسس الصينية تكشف تفاصيل أبرز قضاياها في فيلم


.. فيلم شقو يحافظ على تصدره قائمة الإيراد اليومي ويحصد أمس 4.3




.. فيلم مصرى يشارك فى أسبوع نقاد كان السينمائى الدولى