الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جائحة الكورونات وجوائح الحكومات/ مرض الغباء

الطايع الهراغي

2021 / 7 / 1
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


" لكــــلّ داء دواء يُستطــــبّ بــــــــه إلاّ الحماقـــــة أعيــــت مــــن يداويهــــا "
-- أبـــو الطيــب المتنبّـــي --
" كـــلّ شــيء يتغيّــــر إلاّ قانــــون التّغيّـــر" /
-- كــــارل ماركــــس --
"ضحكـت فيـها وإنّـي قـد بكيـت بهــا فالجهــل أضحكنــي والعقـل أبكانــي"
-- ابـــن سنــاء الملــك --
لن يجد المؤرّخون وسائر الفاعلين في الحقل السّياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ كبير عناء في كتابة حقب تاريخ تونس ما بعد الثورة. فالسّلط المتناسلة والمتناسخة أحكمت إغلاق باب الإنجازات لتسهّل على المؤرّخين والباحثين رصد جوائح الحكومات ، طبيعيّها وبشريّها ، أصليّها وجنيسها . لقد تصالح حكّام ما بعد إعصار جانفي 2011 مع الأزمات حتى برعوا في إنتاجها ورسكلة نفاياتها وإعادة إنتاجها ، وأفلحوا في تأبيدها انتقاما ممّن اعتقد في غفلة من التّاريخ أنّ الانسداد الذي وصلت إليه تونس في عهد البونابارت بورقيبة والعسكريّ بن علي هو النّموذج في التّصحير والإفلاس .
واقع ما دون الدّولة الذي نظّـــر له المفكر السّوري يـاسين الحـافظ (1930 /1978 ) في تحليله لواقع التّأخّر والفوات الذي يميّز المجتمع العربيّ في ستّينات وسبعينات القرن الماضي يجد تطبيقته المثلى في ما تعيشه بلدان " الرّبيع العربيّ " [ ونموذجها تونس ] من ارتداد مرعب ينذر بسيادة قانون اللاّمعقول والعودة إلى المربّع الذي كان محلّ سخط الجميع وأدّى إلى اشتعال احتجاجات كانت تبشّر بوضع تونس على سكة العصر بالقطع مع المكبّلات التي حكمت سياساتها طيلة عهود. .
لأسباب تكاد تستعصي على الفهم والتّمثّــل ، وقد نحتاج إلى قارئة الفنجان [ مع الاعتذار لنزار قبّاني] وربّما استنجدنا بمنجّم مغربيّ لفكّ طلاسمها، ابتُـلِيت تونس بطبقة سياسيّة [ الحكومات ليست إلاّ ترجمة أمينة لطبيعة الفسيفساء الذي يتحكّم في المشهد السّياسيّ ] الهواية سمتها والإضراب عن التّفكير خاصّيّتها والغنائميّة مسلكيّتها . خطابها مكرور مخشّب ، يدور حول نفسه ، لا يخجل من التذمّر ممّا صنعه بنفسه لنفسه . لا يفرّق بين البلاغة ( وفي ترجمتها الأكثر سوءا وتطبيقاتها الأكثر رعونة ) ومتطلّبات النّجاعة السّياسيّة التي تعتمد البراغماتيّــة وتحتكم إلى النّتيجة المباشرة.
في مجابهة كارثة الكورونا يبدو أنّ السّلط الثلاث في إطار علمنة الخطاب وعقلنته وتحديثه حتّى لا نكون في طلاق مع إكراهات العصر اهتدت إلى القاعدة الاستدلاليّة التّالية : لكلّ وباء نهاية ، الكورونا وباء ، إذن للكورونا نهاية . ففيم الفزع ؟؟ وبعدُ، أليست الفرصة مناسبة للاستئناس باكتشاف عالم الأحياء شارل داروين -- في كتابه " أصل الأنواع "-- لتأصيل نظريّة النّشوء والتّطوّر والارتقاء – كآليّة للانتقاء الطّبيعيّ -- في تربة غير تربتها تجسيما لفلسفة البقاء للأفضل ؟؟. أليس الإنسان حيوانا عاقلا ؟؟ فلِم لا ينسج على منوال سلفه غير العاقل في الاحتماء بمناعة القطيع عساه يفلح في تحويلها إلى مبيد للأوبئة لمّا يسيطر على الميكانيزم الدّاخليّ الذي يحركّ هذه الأوبئة فيحدّ من توسّعها في المرحلة الأولى ويتخطّاها في المرحلة الثّانية بإحالتها إلى غرفة الإنعاش؟؟.

وللكــوارث أفضــال

ثــمّ، أليس للأوبئة أفضال، لو كان القوم يعقلون ؟؟. أما الأدلّة الدّامغة على ذلك فرحم الله شيخ البيان أبــا عثمــان عمــرو بــن بحــر الجاحظ (775 /868 ) وطيّب ثراه، فقد كفانا شرّ التّدافع و السّباب والتّنابز بالألقاب إذ دلّل على أنّها كالمعاني مرميّة على قارعة الطريق ، حتّى أنّك تحتار بأيّها تهتدي.
.................................................................................................................................................................................................................................
الفضل الأوّل ، ما اهتدى إليه " فقهاؤنا " -- أبقاهم الله منعة ونعمة للوطن زمن المحن -- من وصفة سحريّة، يفنى الزّمان وهي ليست بفانيّة، هديّة التّرويكات المتعاقبة للتّونسيّين رغم أنّهم جحودون ولا يعقلون. وصْفة ما كان يمكن أن تجول بعقولهم الـدّرّاكــة قبل جائحة الكورونا البشريّة الجنيسة : الجـــدل ولا شيئ غير الجدل ، مع الخلط الواعــــــي بينه وبين الدّجـــل ، اختراع تونسيّ خالص بعقول تونسيّة غنّوشية قيسيّة ، هي مزيج من نظريّة التّدافع [ ملكيّة حصريّة لجماعة النّهضة مع أهليّة التّمتّع ببراءة الاختراع ] واختراع " الشّعب يريد " ، اكتشاف صُدْفـويّ لمعجزة الطهوريّة وطقوسيّتها وتخميراتها كما هي مسجّلة في دفتر خانة بيت الحكمة الرّئاسيّة برئيسها الأوحد [ ولو كره الكارهون ، ولْيمــتْ الحاسدون بغيظهم ، فلن ينالوا خيرا ] ومريديه الخلّص بشعارهم المستلّ من عمق التّراث " إذا قالـــت حـــذام فصدّقــــوها // فإنّ القـــول مــا قالــت حــذام " ، وهي ترجمة وفيّة وأمينة لما ترسّخ في الذّهنيّة التّراثيّة " ما ترك الأوّل [ السّــلف ] للآخر [ الخلــف ] شيئا والتي تعني في القاموس القيسيّ المحيّن والمنقّح حديثا بجرعات وعي ،هي نتاج للحظة الوعي التي اكتشفتها شيعته بكثير من الزّهو، تعني التّسليم باحتكار دولة الفقيه الرّئيس [ السّلـــف] أمر الإفتاء في الأمر الذي نحن والأمّة [ الخلــف ] فيه مختلفون إلى يوم الدّين ( الدّستــور) [ رغم أنه خير دستور أُخرِج للنّاس قبل أن ينقلب عليه صانعوه ] ولوي عنقه وتمديده على سرير الحكمة الإسلامويّة حينا والحِكم الفقهيّة الدّستوريّة [ حتّــى لــو خالفــت المذاهــب الأربع ] أحيانا لتمزيق أوصاله، صنيع ما يفعل بروكيست – على ذمّة الميثولوجيا اليونانيّة -- بمرضاه ، إذا توجّب حتّى يوافق ما يعتمل في نفوس الذين اصطفوْا أنفسهم أمناء على الثورة ، جماعة " الحرس الثّوريّ " الميامين ، من هوى وأمانيَ وشهوات تمّ إحياؤها بعد أن كاد اليأس يأتي عليها ويميتها ، [ كان ذلك قبل اللّحظة المشبعة بالوعي الفيّاض ] ، شهوات هي نتاج لبركات الائتلاف الثّوريّ المبارك الذي تخرّ له الجبابرة ساجدين. وقتها ، ووقتها فقط يعمّ الخير الوفير ، جنّات عدن تجري من تحتها الأنهار ، والأمّة فيها ترتع ، وبوليّ نعمتها تلهج، وإليه تسبّح ، تندحر الأزمات ويرتدّ المفسدون صاغرين إلى جحورهم أمام شعار سيدوّي كقصف الرّعد : المــدّ، المــدّ ، ضــدّ الرّجعــيّ والمرتــدّ. .........................................................................................................................................................................................................................
الفضل الثاني يتمثّــل في النّظريّة العالميّة الرّابعة [ ما دامت النّظرية العالميّة الثالثة يحوز على براءة اختراعها العقيد معمّــر القذافـــي وهي من اختصاصه كما هو مفصّل في الكتاب الأخضر ] التي لا تتطلب من معتنقها وأنصاره غير التّصديق بأنّ ادّعاء المروق على السيستام كاف وزيادة ليحتلّ صاحبه المرتبة الأولى في التّصنيف الخاصّ بنادي المحترفين الثّوريّين. ولنا في تونس الدّليل الذي لا يأتيه الباطل لا من بين يديه ولا من خلفه، عصبة الائتلاف الثوريّ قبل أن ينفرط عقدها ( حركة النّهضة / ائتلاف الكرامة / الكتلة الدّيمقراطيّة ). أمّا نموذجها الأرقى فالإيهام باقتحام قيس السّعيد السّيستام من خارج السّيستام وتباري جهات إعلامية وفاعلين في المشهد السّياسي في التّرويج لوهم المنحى الطّهوريّ والثوريّ والإجماع على اعتبارها لحظة وعي من صنع السّيّد الرّئيس. رئيس من صلب المنظومة، كان يوما ما خبيرا قانونيّا لبرلمان بن علي ، ساهم في طبخة التّخريجات الدّستوريّة والقانونيّة للمجلس التّأسيسيّ، ترشّح للرئاسة بموجب دستور 2014 . ومع ذلك لا يخجل مريدوه وأنصاره[ بعضهم معتصم بحبل كتلة برلمانيّة هي عمليّا رجع صدى لرغبات الرّئيس إحياء لحلم الحاكم العادل المستبدّ المطعّمة بنظريّة المنقذ من الضّلال والهادي إلى ذي العزّة والجلال ] لا يخجلون من إعلائه إلى مرتبة دولة الفقيه في مجال الإفتاء الدّستوريّ -- على كثرة تشعّباته --، وإلى مكانة المهديّ المنتظر -- على ما يتطلّبه من مِران ومجاهدة ومكابدة -- في التّعاطي مع الشّأن العامّ ، الذي يبشّر الجميع بالانتقام من الجميع ويدعوهم إلى رفض الجميع ويحرّضهم على الثّورة . على من ؟؟ على الفسّاد والفساد والفاسدين والمفسدين والمتآمرين والمتخابرين مع الأجنبيّ ، من خمّن ومن تصوّر ومن خطّط ومن نفّـــذ ومن تستّـر . لا حاجة لفكّ شفيرة الألغاز. فالرئيس يكرّر أنّه يعرفهم ويصرّ على أنّ الشّعب يعرفهم ويتعجّب ممّن قد يتجاسر على الأعراف المعلومة والمضمرة ليدّعيَ أنّه لا يعرفهم، ويزيد من باب ترسيخ الوفاء لشعار " الشّعــب يريـــد " أنّهم يعرفون أنفسهم ويعرفون أنّ الرّئيس على بيّنة من فظائعهم. أمّا ساعة " القصاص" فأمرها شبيه بكلمة السّر،
لا يجب أن يُــعلَـــم بها إلاّ الخاصّة من خاصّة المقرّبين من الحوزات العلميّة.
...................................................................................................................................................................................................................
أمّا الفضل الثالث للأوبئة فهو ترجمة للقول المأثور " مصائب قوم عند قوم فوائد ". ولن نعدم في أيّام العرب ( تاريخهم ) ما يدعّم مآثر الجوائح . فهذا البلاذري ( 803 / 2 89 ) شيخ المؤرّخين والنّسّابين يثبّت في " فتـــوح البلـــدان " انتشار طاعون عنيف بفضله تقدّم المسلمون في بلاد فارس وفتحوا معظم حواضرها ، وهذا أبــو منصــور الثّعالبــي في " ثمــار القلــوب فــي المضــاف والمنســوب " يكشف دور الطّواعين المتعاقبة في إنهاك الدّولة الأمويّة وتسهيل الخروج عليها بل وسقوطها على يـد بنـي العبّاس. وتزخر كتب التّاريخ بذكر معلومات مدقّقة ومفصّلة عن دور الجوائح في صنع " ربيـــع " جملة من الفئات الاجتماعيّة التي طالتها ضروب من المنافع وفي إرساء سلوكات اجتماعيّة ستبدو للدّارسين على غاية من الغرابة ، فالجنائزيّون كانــوا أيّــام أحــد الطّواعين " يلعبـون ويتقاعــدون عن الزّبون " [ تتمّــة المختصــر فــي أخبــار البشــر / سراح الدّين أبو حفص عمــر بــن الــورديّ ( 1391 / 1457 ) ] لوفرة الطّلب عليهم . وقد انتعشت القراءة على الجنائز حتّى تحوّلت إلى مهنة ، فباتت أجرة القارئ عشرة دراهم، وازدهرت صناعة الحمّالين حتى بلغت أجرة الحمّال ستّة دراهم ، أمّا أجرة حفّاري القبور فقد قفزت إلى خمسين درهم للقبر الواحد . ولعلّ أغرب ضروب الاستفادة وانتهاز الفرص ما ذكره ابــن شاهيــن الملطــي ( 1440 /1514 ) في " نيــل الأمـل فـي ذيـل الـدّول " من استغلال السّلاطين للجوائح بالاستيلاء على أموال المتوفّين الذين لا وارث لهم وإيداعها في صندوق ماليّ خاصّ تفنّنوا في تسميته " الدّيــوان الحشــريّ" ........................................................................................................................................................................................................................................
ولعلّ ما يثيــر الانتباه ويدفع إلى التّعجّب هو عدم تفطّن حكّامنا -- وهُـــم من هُــم في الفطنة والتّدبير-- إلى دور الأمراض والعاهات ( كضرب من ضروب الأوبئة ) في تزويد مخزوننا الفكريّ والأدبيّ بقامات فكريّة هي زينة دائرة معارفنا بأن مثّلت لها حافزا على الإبداع والتّميّز .؟؟ وكيف لم يستغلّوا ذلك في التّهوين من مخلّفات جائحة الكورونا وجوائح سياساتهم الانتقاميّة ؟؟. الأمثلة على ذلك كثيرة :
فقداُصيب أبو العلاء المعرّي (973 / 1057 ) بمرض الجدري وفقد بصره في الرّابعة من عمره فألزم نفسه بــ" لزوم ما لا يلزم " في مأكله وملبسه ومنكحه وتفكيره ، فاعتزل النّاس ورهن نفسه للتّأليف والتّمحيص والتّعقّل فطبع عصره بنزعة عقلانيّة عـــزّ نظيرها حتّى عُــدّ بحقّ شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشّعراء. فما من أحد يضاهيه في ردّ الاعتبار للعقل والحسم مع التّفكير التّسليميّ الخرافيّ " أيّها الغـرّ إن خصصت بعقل // فاسألنه ، فكلّ عقل نبيّ "، " مشيرا في صبحه والمساء ". وحكيم المعرّة متمثّل تمام التّمثّل لتفرّده " إنّــي وإن كنــت الأخيــر زمانــه // لآت بمــا لــم يسطعـه الأوائــل " . انتصر المعرّي على إعاقته، فكان الضّرير المبصر وكان غيره المبصرين العمي . ولعلّ الجاحــظ ( 776 / 868 )، شيخ المعتزلة ما كان ليكون أحد أعمدة الأدب في العصر العبّاسيّ وإمام البيان والموسوعيّ التّفكير، مدرسة مستقلّة بذاتها ، دائرة معارف متنقّلة، " موسوعة تمشي على قدمين " كما يقول عنه الدّارسون ، لو لم بكن دميما قبيحا جاحظ العينين، فانتقم بعقله من جملة عاهاته . وكذلك أمــرُ الشّاعر بشّار بن برد ( 714 / 784 ) ، شيخ المولّدين وأحد كبار المجدّدين ، قال عنه الجاحظ " ليس في الأرض مولد قرويّ يعدّ شعره في المحدث إلاّ وبشّار أشعر منه" ، أعمى ، جاحظ العينين ، يُضرب به المثل لقباحة عينه فقالوا " كعيــن بشّــار بــن بــرد " . ولم يعمّر أبو القاسم الشّابّي غير خمس وعشرين سنة .ولكنّها كانت كافيّة لينحت لنفسه مكانة جعلت منه شاعر تونس الأوّل. وقد يكون الفضل في نبوغه ومسابقته الزّمن ما يعرفه عن مرضه . وكذلك شأن الأديب المصريّ طه حسين ، أصيب بمرض الرّمد ففقد بصره وهو طفل صغير ، فأبى إلاّ أن يكون عميدا للأدب العربيّ . انتقم لنفسه ولعاهته ومن عاهته ومن محيطه ولمحيطه .
أليس من حقّ حكومتنا ، نيابة عن سالفاتها ، وأصالة عن نفسها، وعن حزامها الدّاعم كدأبه دوما ، أن تجزم بأنّ للأزمات أفضالا ليس أقلّها تفريخ ترسانة من عباقرة الفكر كما يشهد على ذلك التّاريخ حديثه وقديمه ؟؟
ولكن من يدري فقد نودّع " موسم " الكورونا وموسم العطالة وقد طلعت علينا حكومتنا بطابور من الاكتشافات نباهي بها بين الأمم ونبزّ الحسّاد ومن في قلوبهم مرض ؟؟

ومن الصّدق ما قتل

كان يمكن لحكوماتنا أن تتعلّل بكون الأوبئة ظواهر طبيعيّة عاشتها سائر المجتمعات في أغلب العصور، وعجزت كلّها عن تلافي مصائبها ومخلّفاتها . وكان يمكنها أن تتّكئ على التّصحير الذي مارسه بن علي بما أدّى إلى شلل تامّ سيكون عائقا أمام أيّة حكومة حتّى لو كانت في عيار ثوريّة ائتلاف التّرويكات وبالأخصّ الائتلاف الثّوريّ الذي رام أن يتشكّل حول الرّئيس. ولكنّها أبت أن تفعل، وبوعي . فمِــن شيمتها الصّدق لا المغالطة، المصارحة لا حجب الحقائق. لذلك لم ولن نحاسبها، وعلامَ سنحاسبها ؟؟ وقد استنفرت كلّ قوّاها العقليّة لتكون حكومة تصريف أعمال - من باب الزّهد في الحكم-
في كتابه " بدائــع الزّهــور فــي وقائــع الدّهــور" يصف المؤرّخ المصريّ محمد بن أحمد بن إيّاس
( 1448 / 1523 ) ما ألحقه وباء الطّاعون بالدّولة المملوكيّة في لوحة قاتمة " واشتدّ أمر الفناء والغلاء بالدّيار المصريّة وعـمّ سائر ضواحيها، ومات من أهل القاهرة والفلاّحين نحو النّصف. فلمّا اشتدّ أمر الغلاء وكثر الطّعن نادى السّلطان في النّاس أن يصوموا ثلاثة أيّام ويخرجوا للجوامع". على غرار ابــن إيّـــاس ، يثبّــت ابــن خلــدون في وصف الطّاعون الأعظم " نزل بالعمران شرقا وغربا في منتصف هذه المائة الثـّـامنة الطّاعون الجارف ، الذي تحيّف الأمم وذهب بأهل الجيل وطوى كثيرا من محاسن العمران، ...فخربت الأمصار ودرست السّبل والمعالم وخلت الدّيار والمنازل ". فعن ماذا تفتّقت عبقريّة السّلطان ؟؟. مناعة القطيع، الصّوم أيّاما ثلاثا لدرء النّحس ، والاستنجاد بالجوامع للإيهام بأنّ السّلطان معنيّ بحال الأمّة .فهل هاجت الأمّة وماجت؟؟ لقد أدركت ، على خلاف أمّة الخلاف والاختلاف، أنّ ليس للسّلطان أيّة مسؤوليّة فاستكانت إلى الأقدار بديلا عن الهرج والمرج. ما ورد في كتب التّاريخ عن مآسي الأوبئة ، على ما فيه من فظاعة ، يحمل في ذاته بعض المواساة والتّعزيّة ما دام يُــردّ إلى عوامل طبيعيّة . فماذا إذا كانت الجوائح نتاجا لفعل بشريّ ماثل للعيان وسالب للعقول ؟؟ . القائمون به متخرّجون من مدرسة التّردّد ، يملكون كلّ مؤهّلات الفشل. فلا قناعات تردعهم وتشكّل واعزا لتحصينهم ، ولا تصوّرات مبنيّة على خلفيّات ورؤى ليجدوا أنفسهم مجبرين على تنزيلها حيّز التّنفيذ، ولا مشاريع بمتن فكريّ يستجيب للآن والحاجة .واقع هزيل وممهزل حتّى بات يصعب تناوله بالجدّيّة اللاّزمة والصّرامة المطلوبة . وليس إلاّ أن نذهب مذهب الجاحظ عندما يؤكد أنّ الهزل إذا كان طريقا إلى الجدّ بات الهزل جدّا . ونحن واجدون لدى أجدادنا النّحاة بعضا من الهزل الجادّ أو الجدّ الهازل . فلمّا قال الخليل بن أحمد " لا يصل أحد من علم النّحو إلى ما يحتاج إليه حتّى يتعلّم ما لا يحتاج إليه " قال أبو شمر " إذا كان لا يُــتوصّل إلى ما يُحتاج إليه إلاّ بما لا يُحتاج إليه فقد صار ما لا يُحتاج إليه يُحتاج إليه ".
وما دامت حكوماتنا كالزّائدة الدّوديّة شرورها كثيرة وخيرها منعدم . يبقى السّؤال فاغرا فاه :
متى تستوعب النّخبة لنفترض أنّها موجودة أنّ ما يُحتاج إليه يحتاج فهم ما لا يُحتاج إليه.


















.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الإسرائيلية تعتقل متظاهرين خلال احتجاج في القدس للمطا


.. الشرطة الأميركية تعتقل عدة متظاهرين في جامعة تكساس




.. ماهر الأحدب: عمليات التجميل لم تكن معروفة وكانت حكرا على الم


.. ما هي غايات الدولة في تعديل مدونة الاسرة بالمغرب؟




.. شرطة نيويورك تعتقل متظاهرين يطالبون بوقف إطلاق النار في غزة