الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل يمكن أن يكون الصوفي وجوديًا

هاني عبد الفتاح

2021 / 7 / 3
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


"التصوف" و"الوجودية" .. كلمتان، لعل الجمع بينهما في حديث واحد يثير الدهشة أمام القارئ، ومهمة تلك السطور هي محاولة لتبديد تلك الدهشة وتحويلها إلى أُلفة وسكون.

"الوجودية" اتجاه فلسفي صعد بعد الحرب العالمية على نحو واسع في الأوساط الثقافية والأدبية الأوربية، كرد فعل على ما اجتاح العالم من حروب ودمار آنذاك وغياب المعنى أمام ما كل تلك النوائب والأحداث. وتسمى الوجودية بهذا الاسم لأنها تجعل الوجود الإنساني محور تفلسفها، ومن أبرز ممثليها "كارل ياسبرز" و "جابريل مارسل" و"هيدجر" و "سارتر" وعلى رأس هؤلاء جميعا الدانماركي "كيركجار" الذي يكاد ينسب إليه نحته مصطلح "الوجود" بدلالته "الوجودية" المعروفة.

و"الوجودية" فلسفة ترفض أن تكون مذهبا، وذلك لأن لكل شخصية من شخصياتها رؤية خاصة تعبر عن تجربته الذاتية مع الواقع والألم والمعاناة والحياة. بالإضافة إلى أن "الوجود" في مفهوم الوجودية لا يعنى الوجود الواقعي المتحقق في الخارج، إنما يرادف "الذاتية" أو الوجود الفردي.
ورغم صعوبة جمع هذا التيار في مذهب واحد إلا إنه يمكن ملاحظة بعض السمات المشتركة، والتي أهمها:
1_الاعتماد على التجربة الحية المُعاشة والتي تسمى "التجربة الوجودية" وهي بطبيعة الحال تختلف من شخص إلى آخر.
2_إحالة الوجود الموضوعي إلى الوجود الذاتي، أو الوجود الواقعي إلى الوجود النفسي.
3_رفض التفرقة بين الذات والموضوع، لأنه لا ثمة إلا وجود واحد على الحقيقة، هو الوجود الذاتي الباطني، والواقع ظاهر زائف.
4_التقليل من قيمة المعرفة العقلية ، فهم يرون أن المعرفة الحقة لا تكتسب بالعقل، بل بالأحرى بالتجارب الحية، وتماهي الذات بالموضوع.

وكثير من هذه السمات تشترك مع التصوف على نحو كبير لاسيما التصوف النفسي، فالتصوف أيضا ظهر كرد فعل على حياة البزخ والغنى الفاحش وغياب العدالة اجتماعيا، والفساد والظلم سياسيا، وانعدام توزيع الثروة بشكل عادل اقتصاديا، أو الممارسات الممعنة في السطحية دينيا. ومن ثم، تظهر المقامات كالصبر، والرضا، والزهد، والفقر، والتوكل، وكلها مفاهيم ذات دلالات سياسية واجتماعية واقتصادية ودينية معا. وعلي ذلك يظهر التصوف كعزاء وسلوة اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا، وكمحاولة لبث الروح في الصورة الجوفاء دينيا.

ولعل اعتبار الفلسفة الوجودية نتاج التجربة الذاتية يحيلنا بالضرورة إلى التجربة الصوفية التي تعد هي الأخرى تجربة ذاتية تعتمد على الذوق الفردي وليس الاستدلال العقلي.

فالتصوف كما الوجودية، لا تجد له تعريفا جامعا مانعا، وذلك لأن كل صوفي يعبر عن تجربته الخاصة، حتى لقد ساق "عبد الملك الخركوشي" المتوفى 407هـ في كتابه "تهذيب الأسرار" ما يربو على مائة وخمسين تعريفا للتصوف! وهذا ينضوي في حقيقته على أن التصوف تجربة شعورية خاصة، داخل الذات لا خارجه، ولذلك كثرت التعريفات الصوفية بكثرة التجارب الذاتية، تماما كما في الوجودية التي ترفض أن تكون مذهبا، وتستعصي أمام تعريف لها يجمع كل ملامحها ويخرج ما دونها منه، لأنها تجربة خاصة، والفلسفة الوجودية ما هي إلا منجز لتجربة الذات في علاقته مع العالم، أو الوجود الشعري مع الوجود الخارجي.

فالوجودي، يرى العالم من خلال ذاته، وفي هذا يقول الفيلسوف الوجودي "نيكولاس برديائف" في كتابه "الحلم والواقع" :"وجودي هو أكثر الأشياء وجودية من الجميع". ويقول أيضا "عندما يعرف الإنسان نفسه تتكشف له أسرار كان يجهله خلال معرفته بالآخرين ..لقد أدركت العالم الذي يحيط بي والعمليات التاريخية وأحداث عصري جميعها باعتبارها جزءا من نفسي. إنّ كل حدثٍ في العالم هو حدث لي في أعمق مستوى صوفي.. إن أحداث عصري ومصير العالم الذي أعيش فيه أحداث تقع لي، وباعتباره مصيري الخاص"، وفي نفس السياق يقول أيضا "لا أستطيع أن أقبل الحق إلا على إنه شيء منبثق من أعماق نفسي".

وإذا كان ابن عربي وإخوان الصفا كانوا يقولون بأن "العالم إنسان أكبر والإنسان عالم أصغر" ، فعلى نفس المنوال يسوق برديائف عبارته "إن الإنسان عالم مصغر يضم الأشياء جميعا بين جنبيه، بيد أن السمات المتميزة لكل فرد هي وحدها التي تكتسب شكلا ملموسا من بين تلك الأشياء جميعها".
إن التصوف والوجودية كليهما يضعان الوجود الفعلي أو الحقيقي في مقابل الوجود الزائف أو الوهمي، الأول هو الوجود الشعوري الداخلي، والثاني هو الوجود الواقعي الخارجي.

وإذا كانت "الذات" هي محور اهتمام الفلسفة الوجودية، فإن ما يرادفها في الحقل الصوفي هو "النفس". وتكاد تكون كلمة النفس هي الكلمة الأكثر تداولا في كتب الصوفية بعد كلمة "الله"، فالوصول إلى الله عن طريق النفس، ومن عرف نفسه فقد عرف ربه". ولأن إثبات وجود الله يبدأ بإثبات وجود النفس، فإثبات النفس هو إثبات لله، ولهذا شطح بعض الصوفية في قولهم "أنا الحق" و "سبحاني".

وتدخل كلمة النفس في عناوين كتب الصوفية، كـ"عيوب النفس" للسلمي، و"آداب النفس" للحكيم الترمذي. كما تكثر ذكرها في مباحث وأبواب جانبية بشكل واسع في معظم مصنفاتهم، كأحياء الغزالي وفتوحات ابن عربي والرعاية والوصايا للمحاسبي. وقد ألف ابن عربي رسالة في شرح قوله "من عرف نفسه عرف ربه" وسماها "الرسالة الوجودية".

وطريق معرفة النفس هي طريقة سقراط قديما "اعرف نفسك"، وطريق أوغسطين "في داخلك أيها الإنسان تكمن الحقيقة"، ثم الدليل الأنطولوجي الذي استخدمه ابن سينا على دليل النفس، في برهان الرجل المعلق في الهواء كدليل على وجود الذات المنفردة، والذي استخدمه بعد ذلك أنسلم ثم ديكارت.
ثم تأتي محاسبة النفس في الوعي الصوفي كمظهر من مظاهر الوعي الذاتي، لأن المحاسبة تقييم للذات ومحاولة لتقويمها رغبة في الكمال عن طريق تعديل مسارها، وتأتي أيضا المراقبة كصورة من ملاحظة الضمير ومطالعة الضمير كنوع من المُساءلة الذاتية.

والمراقبة والمحاسبة يأتيان كنتيجة القلق والخوف الوجودي. فالوجودي يرصد الخوف والقلق لتأكيد الذات، أو كما يقول هيدجر "كلما ازددت قلقا ازددت وجودا" والصوفي يعالجهما بتعديل المسار ليصل إلى الطمأنينة، والطمأنينة سكون النفس يقويه الإحساس بالأمان بالفناء في المطلق. فالذات عند الوجودي اكتشاف وهي عند الصوفي انكشاف.

الصوفي كالوجودي، كلاهما زاهد في الحياة، لأنها عندهما دار التواء لا دار استواء، ودار ابتلاء لا دار اغتناء، ودار مشقة لا دار مسرّة. الوجودي يرى أن الإنسان يحقق وجوده بفعالية حريته. والصوفي يحقق ذاته ببلوغ المقامات والأحوال. فالحزن والخوف، والفكر والتفكر، والحب والقلق، والوقت والزمان، والغربة والعزلة، والانفصال والاتصال، كلها مقولات صوفية ووجودية على حد سواء ، يستخدمها الصوفي والوجودي لتعبر عن إحداثيات الوجود النفسي.
والحرية تعني عند الوجودي تحقق الذات في الوجود، أما عند الصوفي فهي تعني سيطرة الذات في الوجود مما تعني في النهاية انعتاق الذات إيجابا عند الوجودي وسلبا عند الصوفي.

الوجودي منزوي عن العالم إلى عالمه الذاتي، وكذلك الصوفي "عالمه في قلبه" أو كما يقول الصوفي "القلب بيت الرب"، وكلا من التصوف والوجودية رد فعل على نقصان الواقع وإعاقته، وتعبير عن الظمأ الوجودي والتعطش والسعي نحو عالم أفضل، عالم المطلق.

ورغم القواسم المشتركة التي بين التصوف والوجودية والتي من أهمها نقطة الانطلاق التي تعد نقطة مركزية والمتمثلة في "الذات"، إلا أن مع ذلك توجد الفروقات الكثيرة بينهما، والتي من أهمها غياب المعنى أمام الوجودي في أحيان كثيرة، أما الصوفي فالمعنى هو حاضر دائما أمامه كل الحضور وهو المطلق المتجلي في الوجود بالجمال والجلال والكمال.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شولتز: المساعدات الأميركية لا تعفي الدول الأوروبية من الاستم


.. رغم التهديدات.. حراك طلابي متصاعد في جامعات أمريكية رفضا للح




.. لدفاعه عن إسرائيل.. ناشطة مؤيدة لفلسطين توبّخ عمدة نيويورك ع


.. فايز الدويري: كتيبة بيت حانون مازالت قادرة على القتال شمال ق




.. التصعيد الإقليمي.. شبح حرب يوليو 2006 | #التاسعة