الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خفقات متقاطعة - قصة قصيرة

رقية كنعان
شاعرة وكاتبة

(Ruqaia Kanaan)

2021 / 7 / 6
الادب والفن


خفقات متقاطعة

(1)
اليوم موعدي معه ذاك الأمازيغي، وحتى يوم أمس لم أكن أعرف أن من اعتدنا تسميتهم بالبربر عند الحديث عن التوزيع السكاني في المغرب يسمون أنفسهم بالأمازيغ ويعترضون على تلك التسمية، وأنّى لي وأنى لكتب الجغرافيا والتاريخ أن تكون أكثر إنصافا مع تلك القوميّات الموزعة هنا وهناك في ما اعتدنا تسميته اعتباطاً بالوطن العربي دون أن يكون وطناً واحداً للعرب وإن كان فليس بالنتيجة عربياً خالصاً دون تهجين.

ذاك الشاب الأشقر في الحقيقة فتح عيني على أمور كثيرة بمجرد اختلاف التسميات فوجدتني أتساءل عن أحقيتنا كعرب في تسمية غيرنا بالعجم مثلا، والأعجمي لغة من لا يجيد النطق،
فهل العربية منتهى الكلام؟! ولكني عدت وتشككت في فهمي للغة وحتى في المعجم اعتماداً على آية التفاضل بالتقوى، فهناك دوماً ما لا أحب الخوض فيه لأنه منطقة إيمان وعقيدة لا يجدر أمامها إلا التسليم دون امتطاء ريح القلق أوعواصف الأماني.

أشعر بشعور غريب في طريقي إليه، فموعدي مع رجل ولست أشعر به كرجل، ولكني تزينت لأظهر بكامل فتنتي فلم أكن أريده أن يراني باهتة وربما لأني التقيت به أمس وأنا في أشد حالات إهمالي لمظهري.. أعاني من إهمال قلبي لي، وأبدد يوماً لن يحوي سوى الخواء. لم أشأ أن تطبع صورة شاحبة في ذكراه التي ستكون عن موعدنا بعد فراق واقع كيقين، ربما هي طبيعة الأنثى كما يروجون وربما لأني أردتها صورة ختامية جميلة، ألسنا جميعا نبتسم للكاميرا ونجهد أن تكون الصورة جميلة لأنها ستسكت عند صمت الفلاش وإلى الأبد عن الكلام المباح؟

لست متصالحة مع كاميرات التصوير ولكني سجلت تلك اللقطة في ذهني بحرفية مخرج حاذق، كان قد استوقفني أمس وأنا خارجة من المكتبة العامة يطلب ما أسماه التعارف والصداقة، و كنت سأمضي في طريقي دون أن أعيره بالاً عدا ابتسامة استنكار اعتدت خلالها أن أقول الكثير، فلم يكن من شيء يقلل من بؤسي وحتى الكتب التي اعتادت أن تأسرني فآخذ كتاباً وأؤخر آخر لئلا أتجاوز العدد المسموح به للاستعارة وأضطر لطلاق أحدها، لم يستطع أي منها اليوم إقناعي بالخروج من عزلتي فبدا غزلها باهتاً وعرضها لنفسها في صفوف أكثر من مبتذل بل و مثيراً للغثيان!

لحزني منابع عديدة لم يكن أقصاها سقوط بغداد الدرامي قبل يومين وجو الإحباط العام الذي يلف البلاد ومشاعر السخط التي تحاول التنفس عبر ثرثرة لا نملك غيرها بعد كل هزيمة موعودة لا نعرف كيف جاءت ولا نعرف إلا أنها ستجئ. ببساطة لم أفهم ماذا يقول واحتجت دقائق إضافية لأفهم بأنه جزائري وبأن علي التركيز أكثر لأتمكن من التواصل معه، أخرج لي جواز سفر وهو يقدم نفسه على أنه طالب ماجستير في إحدى الجامعات العراقية ومقيم في عمّان منذ أسابيع إثر اندلاع الحرب.

هل كان اسم بغداد ما استوقفني لأعطيه اهتماما أكبر؟، هل كان فضولي لأعرف شيئا عن بغداد عدا ما يصلنا من الجزيرة والبي بي سي وغيرها من ناعقي الأخبار في هذا الكون التعس؟، أم هو التعاطف الإنساني المجرد لطالب لم يتبق له إلا مناقشة أطروحته قبل أن تعوي الحرب في وجهه بضراوة ذئب جائع فترميه عبر الحدود معدماً من آمال التخرج والعودة إلى أمه ظافراً لتبحث له عن عروس تنتقيها من أجمل بنات القبيلة.
لا أستطيع التحديد، فقد كنت حزينة أكثر مما ينبغي لتفكير منطقي، ولكن نظرتي له اختلفت إلى حد ما بعد أن استعمل مفتاح الغربة لفتح ثغرة في جداري مع طلسم بغداد السحري المستمد من أكثر من ألف ليلة وليلة من ذاكرة التاريخ فقررت أن أعطيه فرصة.

أشعر الآن أن ذاك لم يكن إلا غباء مني، فأي تعارف مع حزينة سئمة آمالها هناك خلف الأفق تصارع طواحين الهواء بحثاً عن محض تدريب لا ترف وظيفة، وإنسان فاقد لأمله يحاول التسرية عن نفسه بدفء أنثى يسميها تجاوزاً صديقة؟

حاولت تسيير الحديث شرقاً تجاه بغداد وما خلّف فيها من وقائع وآمال ولكنه كان يبالغ في وصف جمالي الذي أجبره على إيقافي وطلب التعارف، ولأني كنت لاهية حتى عن ذاتي، ولأني في وقت همّي أجد الحديث عن جمالي وجاذبيتي ترفاً زائداً لا يغريني بقدر ما يثير اشمئزازي، اعتبرتها نوعا من المجاملة البحتة التي لا بد حاصلة من رجل لامرأة يخطب ودها، عيناه تنطق بالشهوة وبالجوع إلى أنثى وبحيرة دفينة واغتراب، وعيناي تنطقان بالأسى واليأس من ملاحقة وهمي المقدس بعناد متأصل الجذور. أيا كان ما دام خريج دراسات عليا أو على وشك، فهو يمتلك الحد المعقول من الثقافة التي يمكن فيها التجربة دون خسائر وها أنا ذاهبة للقائه.

(2)
يدي بيدها نتمشى في أحد شوارع عمان الهادئة التي لم أكد أتعرف على أسمائها بعد، تحاول سحبها وأزداد التصاقاً، ربما لم يكن نفوراً منها لوقاحة في ولكنها قد تكون –في تحفظها- وجدته وضعاً شاذاً لصديق ولا أدري إن كانت تنظر لي كرجل كما أراها أنثى تفيض جاذبية وتقطر إغراء.

إن كان للشمطاء المسماة حرباً من مآثر فقد أشعرتني بفقري و بحاجتي لأنثى..لحضن أو رحم يضمني. كم كنت ساذجاً في تعاملي مع النساء! ربما لتربيتي المتدينة الصارمة واجتنابي اللهو، وربما لأني ببساطة كنت لاهياً عن كل شيء عدا هدف الحصول على شهادتي الذي أراه الآن يتبخر مع دخان القنابل في جامعة خلفتها ورائي ولا أدري إلام ستؤول الأمور فيها، لا أعرف العربية بما فيه الكفاية رغم حفظي للكثير من آيات القرآن، أحيانا أجدها صامتة بشكل يحير، هل التقطت ما أقول، هل عجزت عن إيصاله لها، أم أنها فقط اكتفت بالصمت، ما أؤمن به أننا لا نحتاج للغات لتقارب بيننا عندما نريد ذلك!

كل ما فيها أنثوي ناضج ورغم أنها مهملة لمظهرها ولا تستعمل أي نوع من مستحضرات الزينة، إلا أن ذلك لا يقلل من حضورها الأنثوي الطاغي، جسدها معافى ويوحي بطاقة كبيرة وعيناها تشيان بحضور آسر. أنا لا أبحث عن هدف جنسي فيها رغم اشتهائي الفاضح ولكني أبحث عن الدفء وأي شيء يشعرني بإنسانيتي بعيداً عن اللعبة الكبرى، يحق لي أن أبذل جهدي لأكون معها بأي طريقة، فأسعفيني يا لغتي العربية لأتواصل معها كما يليق.. أسعفيني يا ثقافتي لأحدثها كما يليق بتوقعها مني!

وجدت نفسي عازفاً عن الحديث عن جرح بغداد ومذابح الجزائر كما شاءت هي، وتمنيت لو أنها تركتني أتعبد في محرابها بخشوع دون أن تتحرى دوام العبادة، كنت أتباهى أمامها بمعلوماتي وأعلمها بعض الحيل المنطقية وألقيت أمامها بعض النكات الجنسية لأرقب رد فعلها الذي عبرت عنه اشمئزازاً حاسماً وتقطيب حاجبين صامت و دون أن تفتح فمها لقول كفى!

لماذا أيتها العربية التي لا تراني كبربري كما تم تسميتنا بعنصرية رومانية وتقليد عربي معتاد تقسين بأن لا تريني رجلاً؟، لماذا تسلكين هذا الحياد؛ فلا أنت ترحمين ولا أنت تقتلين؟!
لماذا أشغلك بالحديث عن الجنس وأترقب تململ شهوتك الكامنة تحت الجلد فأشعر بك تحزنين لحزني ولا تجيبين؟! ولماذا هذا الصمت البائس وأنا أقسمت لك مراراً أني لا أريد بك سوءاً ولكني ضعيف في غربتي المضاعفة وبحاجة لك وقد تكونين بحاجة لي. مغزى وجودي هناك لا يعنيني، محاولاتهم لتعريبي والهتاف لأمة عربية واحدة لم يغريني وكذلك لا يغريني الحديث عنه الآن!، كنت هناك لهدف فشلت في ملاحقته واكتفيت بالتعايش معه، والآن أنا معك لهدف يبدو وكأني أفشل فيه مع محاولاتك تسييس حديثي لأنك مثلهم لا تعبئين إلا بما أردت مني، ولكني قادر على مواصلة الأمل وها أنت الآن تحضرين رغم أنك لا تعرفين لماذا.

(3)

لو أنه عربي لقلت أنه كباقي العرب، اهتماماتهم محصورة بين فخذي قصيدة آنية ولكن يبدو أنها ظاهرة عالمية، ذاك ما أكده لي شخصيا ونحن ننتقل من الحديث من الجزائر إلى فرنسا، نترك بغداد خلفنا ونعولم الحديث؛ يقول لي بأن له صديقاً يعمل في إحدى مدن فرنسا في فض بكارة الفتيات الصغيرات مقابل أجر، عمل مجزي وممتع حسب تعبيره ولا يتناقض "كثيراً" مع كون المرء مسلماً ما دام في غربة!، كما لا يحتاج مهارات خاصة في اللغة الفرنسية التي وعدني بتعليمي إياها مقابل أن أكون له صديقة ومرفأ أمان في بلاد ما قصدها ولكنه وجد نفسه فيها يترقب الأمور ويحاول تهجئة الأنثى فيها بعد أن استعصت عليه الحظوظ وأغلقت في وجه الطرق صراع الإرادات ولعب السياسة.

ستعلمني يا صديقي الكثير وسأهمل كل قصصك الجنسية والنكات العربية اللاذعة التي تحاول حشرها في أحاديثك مازحاً محاولاً الوصول إلي دون جدوى لأن الدرب لا يغريني ولا أدري ما الذي يمكن أن أعلمك إياه، فلقد أشعرتني بأني ماض من الأحزان بلا حضارة أو طموح، ستعلمني الفرنسية ربما وسأمنحك صداقتي البائسة علها تخفف عنك عناء الوحدة في عمّان التي ما وجدت تصريفاً لوحدتي فيها؛ فلجأت إلى مدني الداخلية الخاوية إلا من أوهام.
سألاقيك أمام المكتبة كما اتفقنا وربما أتمادى استغلالاً فأفتش فيك عن فكرة لهواية جديدة وأنت تتأمل خلجات نفسي والجسد، لن يكون أينا كتاباً مفتوحاً ولكنا سنسعد بهذا التجسس معاً، أنت تريدني جنة أنثوية مؤقتة وأنا أريدك جنة أخرى لا جامع بينهما إلا إحساسنا الإنساني المشترك بالحزن والفجيعة والتعلق بخيط عنكبوت نعرف أنه سينقطع، أنا لن أحبك، لأني لن أعشق وهماً يحمل تلويحة قبل المصافحة، وأنت لن تحبني لأنني أدفأ مما يجب لعلاقة دائمة وأثمن من وهم عبور لكننا نمضي في دربنا نحلم بإنسانية تشوهت فينا ولم يبق لنا منها سوى ترداد اسمها والبحث عنها في شوارع المدينة القديمة.

(4)
تطرق كمن يعتذر عن ذنب لم تقترفه، جاءت للقائي وهي تعرف أنها لن تلتقيني مرة أخرى، أقرأ ذلك في عينيها، متخصصة في القانون كما علمت في أول دربها، لكن للتدريب شروط تقتضيها محافظة الكبار على المكتسبات فتنشغل بمطالعة حقوق الإنسان وتنمية مداركها عبر التسلية بتلك الكتب التي لا يقرأها إلا المصابون بالتوحد وقلة الأصدقاء، تصمت عن الشروح وتقول بأن اللغة تخذلها، حتى لغتنا الأم تميل للقسوة أحياناً وترمينا في غيهب الصمت؛ فنستجدي أن يفهمنا الآخرون دون عناء، فتعالي نرتب أوراق اللغة على مهل، ما العربية.. ما الأمازيغية.. ما الكردية أو حتى الكلدانية سوى وسائل لما يجول في أذهاننا من لغة إنسانية واحدة، مغامر من يقول أننا نفكر بلغة معينة نستمد مفرداتنا منها، وإلا فعليه أن يفسر لم نعجز إذن عن التعبير عما كنا قد فكرنا به ما دمنا نفكر بلغة محددة؟
في الحرب يرحل الغرباء وأنا غريب عن عينيك، أغرق في سوادهما ولهاً وأحمل زرقتي شراعاً لأنجو من حروبهما المصطنعة، تترددان بين الاستغراب والاستنكار، بين الكفر والإيمان، تعلقان كل سؤال فلا تقولان نعم ولا تهجسان بلا، أخالك أمي في الجزائر تنتظر شهادة تباهي بها الجارات لا تعرف حتى في أي تخصص بقدر ما تعرف أننا إن لم نمض من ذبح لآخر، فمن رحيل إلى رحيل.

أنت طيبة مثلها وإن كنت أكثر اغتراباً، سألملم أوراقي وأرحل، لا أجيد الرسم ولم يكن لي هواية ولكني سأرسمك بشعرك الفاحم السواد على أوراق حلم ضائع طاف المشارق والمغارب، وأطرز به ما كان يمكن أن يكون لو أننا حلمنا بعيون مفتوحة، أحياناً نقتل في المهد بعض ما نتخيله أكبر من أن يحصل، نحب أن نراه أسطورة لا تتحقق ونتفنن في وضع العراقيل أمامه، تماماً كما نحرق الوجبة التي نريد لها النضج أسرع، معك أمضي ما دام الشارع يمتد بنا وليته لا ينتهي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة


.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي




.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة