الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


على مقربة...ج2

رولا حسينات
(Rula Hessinat)

2021 / 7 / 7
الادب والفن


لم يصدق أحد ذلك، الصغار ذهبوا إلى حيثُّ الفرن الصغير بحوش الدار القريب من التينة، يتظرون رغيف الخبز الساخن الذي يلقفونه من يد إلى أخرى ليبرد، ولكنهم لم يجدوها، الفرن بارد، والرماد داخله لم يكنس، والمكان قفر...والتربة رطبة ورائحة التراب أزكمت أنوفهم...كان الحفر جديدًا بطول متر ونصف المتر أو أزيد قليلاً، قاسته أقدام الصغار جيئة وذهابًا، وهم يلمسون ريح التراب ويشمون فيه رائحة جميلة وعطر الليمون، ومعجون الحبق.
-جميلة غادرت القرية .
-متى؟
-ليلاً...جاء نصيبها وذهبت وإياه.
-دون أن نعرف، دون أن يشهد الشهود.
-أن أخوها ولا تحتاج إلا لموافقتي...ليس لأحد عليَّ فرض.
هكذا انتهى الحوار بين المختار عبد الوهاب وبين جمال والكثير من الأمور الغامضة بقيت تتدلى من بيت جميلة، الصغار أخذوا يروون ما رأووا قريبًا من الفرن...
قتلت جميلة...بل قتل جمال جميلة...لأنها لم ترد أن تتزوج بمن اختاره لها أخوها...أرادت أن تختار من رفَّ له قلبها.
لم يعرفه أحد...كما لم يعرف الكثيرون الحقيقة.

خرقة، خرقة... وضعتها بين فخذيها لتحول دون تدفق الدماء الحمراء، لم يكن عمرها سوى أحدا عشر عامًا، كانت تعرف أن النساء حين تلد تتدفق الدماء من بين أفخاذهن، هذا ما سمعته عندما أنجبت أمها أختها قبل بضع سنين، صرن بذلك خمس بنات وكان أخوها البطن الرابعة عندما مات...ولد ليموت، ولدته أمه ومات، ساعات قليلة بعد أن أذن أبوها الشيخ عبد الحليم في أذنه...كبر ثلاث تكبيرات...ودعا له بالبركة والعمر الطويل...ذبح عجلاً ووزع الكثير من الصدقات، دعا الفقراء والمساكين...لكثير من المآدب، الكثير الكثير منها...كانت ساعات ثم توقف قلبه عن النبض...استسلم لنيمة طويلة...حزن كل من في البيت...
الشيخ عبد الحليم لم يعد يخرج حجرته، حجرة اتخذها محرابًا ...مهربًا...مجلسًا...اتخذها ليلوذ بنفسه عن الحياة...وها قد آن الوقت لينصت لقلم الموت...جلس فيها... يكتب ويقرأ ...ويتأمل...ويبكي...صوت نحيبه كان يشق صمت الليل ليشحب وجه القمر والسماء...
كان ذلك في صيف بارد...لم تحزن أمها فيه لم تبك...لكنها نظرت نظرة طويلة في السماء ثم أطبقت جفنيها وهي تحمد الله.
الطعام يوضع له عند الباب الخشبي...حيث كانت رائحة البخور تملأ الممر الطويل حتى يصل إلى باب الغرفة البعيدة عن الأنظار...
كان قبل أشهر قليلة يستقبل فيها الكثير من العلماء والمشايخ، حين كان الخادم إسماعيل يحمل ما تحضره أمها وحفيظة زوجته...الكثير من الأطعمة التي عرفت لذتها، وهيئتها، والقليل من أسرارها كالخبز المرقوق، والمغرق بالسمن، والعسل واللفائف من اللحم المعشق بإكليل الجبل، ومنقوع بحبات الهيل، والزنجبيل، والزعفران، والثوم، والليمون...وفي قيشنية كبيرة الروينة وهي قمح محمص، مطحون، يوضع فوقه سمن وسكر، ومشروب عرق السوس والتمر حنا والرمان، والورد الجوري، وماء الزهر، والقهوة المقدمة مع حبات الحلوة المصنعة من التين المجفف الذي يدعونه القطين، والرمان المحلى مع الراحة، والعنب المجفف، والعنب المعجون، لم تكن أمها أمًا عادية بل كانت تتقن لغتين...كانت تعرف العربية والتركية فجدتها لأمها امرأة تنحدر من أصل تركي؛ فتعلمت التركية وأتقنت أكلاتها وعاداتها، فهي تحسن الاعتناء بالزوج فهي تجهز لأبيها حمامًا خاصًا من زهر الليمون، وورق الغار، والياسمين، وتعطره بعطر حضرته له خصيصًا؛ فهي تجمع ورق شجر الكافور، وتضعه في زيت لمدة عشرة أيام في مكان خاص، خلالها تأتي بالورد الجوري ومنه نوع خاص يسمى النفنوف؛ تغليه، وتجعله يبرد ثم تضعه في زجاجات اشترتها من العطار لهذه الغاية، ملونة ذات رأس ذهبي، موصلة بأنبوب طويل طوله خمسة سينتمترات تقريبًا، ينتهي ببالون صغير يرش من فوهته العطر عند الضغط عليه ، وتخلط بالمنقوع قليلاً من زهر الكافور...تضع الخليط في الزجاجة في خزانة مظلمة لثلاثة أيام ثم ترش منه لأبيها الشيخ، أما زيت الكافور فتطيب به رأسه ولحيته.
لأمها طقوس غريبة في معاملة أبيها تصل لمرتبة القدسية، ربما لن تستطيع أن تكون مثلها ولا أي من أخواتها اللواتي تزوجن في سن صغيرة، ربما أصغر منها بعام، هي تذكر أن أمها لا تكف عن سؤالها إن كانت تشعر بألم في البطن أو الصدر، لكنها لم تشعر بهذا الأمر، غير أن الأمور يبدو أنها قد تغيرت، ولكنها لا تعرف كيف؟
لم تكن لتعبأ بألم بطنها أو صدرها الصغير الذي بدأ بالظهور أكثر وأكثر، وهي تحاول أن تخفيه بكم الملابس التي ترتديها، إن كانت هذه التغيرات ستجعلها تفترق عن اللعب مع أبناء وبنات جيرانها، وتحول دون ذهابها للكتاب؛ لتتعلم تلاوة القرآن، والتجويد، والخروج دون غطاء للرأس فهو أمر يشعرها بطفولتها، هي تتعجب من رغبة الصغيرات في أن يكبرن ليصبحن كأمهاتهن أو كامرأة رأينها في حفل للختان مثلاً، عندما ترقص النساء وهن يحملن الزهور المرتبة فوق أقراص الحناء، الزغاريد، والأغاني كانت تختلف كثيرًا عن مقدار الألم الذي كانت تحكيه الصغيرات؛ عندما يربطن بحبل عند الرسغين، وتثبت إحداهن الساقين وتأتي العجوز بسكينها الحاد لتذبحها، تقطع وتسيل الدماء ثم يكون الكي...ما الذي يحدث بالضبط ولماذا؟
أبوها الشيخ يختلف في مذهبه عن الجميع؛ فهو يزوج عند بلوغ البنت مباشرة، عندما تنتهي أيام عادتها الشهرية تكون في بيت زوج ...وهو بالعادة أول من يتقدم، وربما يكون شيخًا طاعنًا في السن كزوج أختها الكبرى فهي قد كبرت بالسن عشرات السنين، ولم تعد تعرفها من كثرة البؤس والشحوب في وجهها.
هي لا تريد أن تبلغ، هي لا تريد أن تتزوج كما يريدون، هي تريد أن تتم حفظ القرآن، وتتعلم القراءة والكتاب...وفقط.
وربما تتعلم في المدينة البعيدة عنهم، هناك يقال: أن الفتيات يتعلمن، ويصبحن معلمات، أو ممرضات للنساء رغم أن الأعداد قليلة ولكنها موجودة...الكثير من الأحاديث عن عهر أولائي النسوة لأنهن خلعن رداء الحياء...ولكنها لما عرفت أنهن تحدين كل شيء ليتممن تعليمهن ويعملن، أدركت أن هناك فرقًا كبيرًا، لا يمكن أن يبنى بين الاثنين على أي نحو كان.
تأخرها في المرحاض، وكمية الدماء التي تخرج منها، والملابس الملقاة على الأرض مليئة بالدماء؛ جعلتها تبكي، وتبكي... هي تريد من ينقذها.
الكوة الصغيرة في الجدار العلوي المواجه لها، والمغطاة بالزجاج الملون كانت لا ترسل حفنة من أشعة الشمس بقدر ما كانت ترسل البرد والخوف...طرقات أمها على الباب جعلتها تتقلب في موضعها دون أن تتحدث كانت تئن وتبكي...
بالكاد وصلت للباب لتفتح المزلاق قبل أن تلقي أمها بعينيها عليها كانت قد ارتمت في حضنها عارية تمامًا.
صوت الزغاريد الذي ملأ البيت معلنًا بلوغ البنت الصغرى التي وصلت للحادية عشرة من العمر، كان ليصم أذنيها؛ فقد كانت الوحيدة التي لم تستمع بالحفل الذي جمع النسوة من كل مكان ليروا الصغيرة، ويباركوا لها دخولها في عالم النساء، لم تشرب من الشربات، ولم تأكل من الحلوى والمثلجات لم ترغب في فعل شيء، رغم الجمال الذي كانت فيه، والألوان التي صبغ بها وجهها الوردي، ورغم اللباس المذهب الذي كانت أمها تحتفظ به خصيصًا لهذه المناسبة. رغم ما كانت تنعم به من اهتمام إلا أنها كانت تفكر بالويلات التي ستحل عليها...بعد اليوم السادس جاءها الخبر؛ فقد طلبت يدها السيدة رسمية زوجة تاجر القماش، وصاحبة العز والنسب وابنة الشيخ المسكين... طلبتها ليد أخ زوجها القادم من البعيد...
وها هو البيت الكبير يتهيأ كي يأتي الرجال طلابًا ليدها، اسماعيل وزوجته والأطعمة الفاخرة الغرف المعبقة بالبخور، والنسوة اللاتي أتين كي يغسلنها، ويزلن ما على جسدها من شعر بالعجينة السكرية، جسدها كله تتفقده النساء دون أن تستطيع أن تخفي حتى عورتها، الستة أيام الماضية كانت كفيلة لتغيرها، لتجعلها أكبر بعشر سنوات، جسدها كله تغير لم تعد تعرف نفسها، لم تعد تلك الصغيرة ذات الجديلة الملقاة خلف ظهرها، وترتدي الزنوبة، والثوب الفضفاض تلعب بالحارة مع الفتيان والفتيات... لقد أصبحت امرأة وها هي تُجهز للزواج...
لكنها بقيت صامتة، لم تنبس بكلمة حتى دمعتها خانتها... لم تستطع أن تذرف ولو دمعة واحدة. لوهلة شعرت بأن قلبها يتحجر لن تستطيع أن تصبح كأمها ، لن تستطيع أن ترعى أيًا كان... زوج هي لا تحتمل هذه الكلمة...
النسوة حولها يتضاحكن ويتهامسن وهن يقلبنها: هل تستطيع؟ هل تستطيع؟
-هل تستطيع ماذا؟
هي لا تفقه شيئاً وربما لا تريد...
ساعات من الأفراح والولائم وعقد القران... لم يكن هناك متسع من الوقت لتفر...
ما كانت تريده بالفعل الفرار، أبسط عبارة لكنها أكثرها رعبًا...
باب واحد سقف واحد وزوج تعبر وإياه إلى عالم آخر، الرعب الذي كان في قلبها لم يكن يختلف كثيرًا عن الرعب الذي كان في قلب فريد وهو ينظر لأخيه نظرة جلادة تارة، وحانية تارة أخرى وكلاهما استعطاف له بأن يتغير، ولا يبتليه بمصيبة، هو أرفع من أن يقع فيها.
ثلاثة أيام نزفت فيها الكثير من الدماء...ضربت وعنفت، وحرقت، وهي صامتة لقد قررت أن تصمت إلى الأبد...
وهذا ما كان يثير جنونه...
الأطعمة الفاخرة التي قدمت صباحيتها والهدايا والزغاريد لم تكن تعرف ما كانت تخفيه في جسدها...
آثار الضرب على جسدها...كان ذلك من أول ليلة...الجنون الذي يعتريه صبه عليها بل نقعها فيه وهو يضحك...
لأنه ملك كل شيء ببساطة لأنه سيملك كل شيء...
لم تكن سيئة...كما يصورها أمام نفسها لتجلد ذاتها...
لم تكن ملعونة....
كان يجلسها عارية أمامه لكيها أينما يريد...
دون أن تبكي... لقد تجمدت الدموع لديها...
كانت تعرف الطبخ من كثرة ما كانت مع أمه في المطبخ ...الروائح والأبخرة والنكهات في رأسها...لكنها مع ذلك لم تنجح في الوصول إلى قلبه.
وبالفعل أعدت مأدبة له وحده، أكلها كلها، وضربها بعد ذلك، وأمرها بأن تأتيه... فعلت.
لكنها بالفعل كانت شخصاً آخر...
لقد قررت بأن تهرب...الفرار هو الحل...
لن يستمع لها أحد، ستذهب إلى تلك المدينة البعيدة، وستسمي نفسها عاهرة كما يقولون، وستتعلم لا بأس في ذلك... سيكون العهر حرفتها في أن تتعلم وتعلم بعيدًا عن هذا الوحش الذي تركت وإياه فقط... دون أن يحسب حسابًا لأحد ...
لمن تشكو والشكوى لغير الله صدت أبوابها...
أمها لم تكن لتسمعها ولو سمعت ما كانت لتبتلي أخواتها بما ابتليت به، وأبوها حررها من الختان وسجنها مع زوج بغيض...
لم يكن أحد ليسمعها ولن يرضوا بمطلقة بينهم...
لو كان ذلك لرضوا بأن تكون عانسًا...
بل كانوا سيضربونها، ويعنفونها، وربما، وربما... يقتلونها...
إن كانت النهاية واحدة ربما ستنجح في أن تهرب لتغيرها وحسبما تريد.
كان نائمًا ولأول مرة حين أغلقت الباب وراءها...
تحت جنح الظلام كان فرارها...لم يشاهدها أحد ولم يعرف عن ذلك أحد...
لكن فريد كان ينتظر يوم فرارها فقد جافاه النوم منذ أن تزوج أخوه...
عشرة أيام كانت كافية لصغيرة بسنها أن تقرر الفرار...لقد صبرت كثيرًا...
فسليم وحش بثوب إنسي لن يطول الأمر ليخلعه وكانت الضحية هذه الصغيرة...
لم يطل الوقت عندما خرجت البلدة كلها بإثرها.
أعلن أبوها الشيخ: أن دمها حل للقتل فاقتلوها أينما كانت... لتتعلم أن سمعته لن يطالها سوء...
لم يكن إيجادها بالأمر الصعب...
خطواتها الصغيرة، وعدم معرفتها بما حولها جعلها تدور في دائرة مفرغة...
رماها بين يدي زوجها ثانية ...
الصغيرة وسليم لينتهي الأمر...
وحلم لم يكتمل...
الحفرة التي رميت فيها لم يكن حفرها صعبًا... فقد حفرها فريد في الظلام، وهو جالس على الصخرة ينفث من دخان سيجارته أفاع منسلة ...
فهو في نظر الجميع الزوج المظلوم والمدافع عن شرفه...
ربما لا يعرف الحقيقة سوى فريد لكنه فضل أن يدفنها...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا


.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما




.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في