الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خواطر حول اختبار الرياضيات للسنة السادسة ابتدائي 2020-2021

بلقاسم عمامي

2021 / 7 / 8
التربية والتعليم والبحث العلمي


الآن...وقد هدأت قليلا رياح الغضب متعدد المناشئ حول اختبار الرياضيات لتلاميذ السنة السادسة في إطار مناظرة الدخول إلى الإعداديات النموذجية....مما يتيح إبداء رأي قد يبدو غير محايد....ومع ذلك، سوف "أجتهد" في لفّه بما يحتاجه من موضوعية ومكاشفة....دون أن أتغافل عن التصريح بالموقف الذي بنيته من زمان في علاقة بموقع التعليم "النموذجي" في السياسة التعليمية التونسية....بما هو "غربال غايته انتخاب صفوة الأدمغة التونسية وتصديرها – هكذا وبإصرار ووعي – للدول المانحة والراعية للتعليم في تونس (ألمانيا – فرنسا – أمريكا – كندا...)

شدّ اختبار الرياضيات اهتمام الرأي العام ومسّ أغلبية عريضة من أولياء وفاعلين تربويين ومهتمين بالشأن التربوي....واختلفت الآراء والمواقف حول وجاهة بنائه وانضباطه للبرامج المقررة في سنة استثنائية بسبب الوباء...وأيضا حول مقاصد اللجنة التي كُلّفت ببنائه...وما ميّز هذه المواقف هو حدّة انفعالاتها منها ما بُنِيَ على وجاهة وبراهين، ومنها ما تحكّمت في وجهتها شبهة وحكم مقاد بإيهام لا أصل له.

لقد شدّني الاختبار من حيث بناؤه وغاياته ومن حيث خروجُه عن النمط المعتاد سواءً في طرق التدريس المعتمدة أو في نماذج الاختبارات السابقة....حين ركّزت على صعوبات استهدفت منطق التفكير للبحث عن "كيف بُنِيَ المشكل؟" قبل البحث عن "الحل"...أي التفكير في المشكل وتمثّله - ومن ثمّ الشروع في تفكيكه وحلّه – لا البحث سريعا عن حلّ هو في العادة، جاهز دون عناء التفكير. وهو ميزة هذا الاختبار، والذي هو بذاته، ورغم خروجه عن المألوف، اتبع نفس النمط في عرض الصعوبات.

لنتّفق أولا أن الاختبار انضبط للبرامج الرسمية المقررة بعد التخفيف نتيجة ضاغطة الوباء...وخطوات الحل المستهدفة أتت منسجمة مع محتوى البرامج...صحيح بدت صعبة وربما غالت في الصعوبة....لكن ذلك هو أداة "الغربلة"...وهي أداة قبلناها منذ تقرر اعتماد "المناظرة" للانتخاب والتمييز والتصنيف باعتماد تقييم ترتيبي يصنّف التلاميذ إلى نوعين: ناجح / فاشل....متفوّق / عادي (حتى لا أستعمل توصيفا مخلّا)، صنف من "النخبة" وصنف من "العوام"....الصنف الأول مآلاته محددة....وكذلك الصنف الثاني...لذلك، فالحديث عن "صعوبة وإرادة في القهر والتشفّي" لا وجاهة لها بما أن الغاية الوحيدة للمناظرة هو "انتقاء الأدمغة المتفوقة لتوجيهها ضمن مسالك تعليمية عالية" غالبيتها لن تستفيد منها البلاد.

ولعل لجنة صياغة الاختبار توفّقت في "الالتزام بغاية المناظرة" – وهو ما يحسب لها – حين تخلّت عن التنميط وخالفت السائد واقترحت وضعيات خطواتُ حلّها ممكنةٌ رغم صعوبتها...مجهول حلّه مرتبط بحلّ مجهول ثان لكنه حلّ باتباع مسلك مغاير لما تعوّد عليه التلميذ في القسم....حلّ لا يستهدف التوفّق في العمليات الحسابية – على أهميتها – بل وقبل ذلك، حلّ يتطلب "استخدام التفكير وتمثّل العلاقات"...(معادلة بين ثمن آلة وثمن نصف الآلة...8 أخماس من مجهول/مساحة قرص لا مساحة نصفه....ضلع متقايس مع ضلع لا يدخل مباشرة في تحديد المجهول....).

هذا من جهة....ومن جهة ثانية، أثارت مسألة الشكل الهندسي "شبه المنحرف القائم" موجة انفعال ووسمت الاختبار بالتلاعب وبخروجه عن المقرر والحال أن حلّ الخطوات المطلوبة لا يرتبط بمفهوم "مساحة شبه المنحرف" بل بالعكس، فالتلميذ المالك لخصائص الشكل سوف يدرك أن الحل يُبنى عند تحديد وظيفة الضلع [هـ و] هو ارتفاع متوازي الأضلاع عمودي على [ب ج] (القاعدة الصغرى لشبه المنحرف) أي قطر القرص الدائري وهو البعد المهم في تحديد طول الدورة التي قطعها العداء...هذه عينة إضافية لما وسم تلك الانفعالات بالتسرّع والأخذ بالشبهة....وبالنتيجة، هو تنميط انتهى بإصدار مأخذ دون وجاهة إذ يتم تحديد المجهول دون الحاجة إلى تملّك قاعدة حساب مساحة شبه المنحرف بل فقط بتوظيف خصائص الشكل الهندسي (مع الاعتراف بما رافق بناء المسألة الثالثة من لبس وإحالات أغلبها مهوّشة).

ولعل من بين المآخذ ما تعلّق بمجال العلوم العصبية – رغم وجاهتها – حين أشارت إلى كثافة المعطيات بما قد يشكّل عوائق أمام التلميذ تحجب عنه بلوغ الحلّ نتيجة "إرهاق يصيب ذاكرة العمل/الاشتغال"...وهي اقتدار عصبي يجمع بين الزمن وكثافة المعلومات في فترة وجيزة محدّدة. ف"ذاكرة العمل" بالنسبة لطفل الـ 12- 13 عاما، تتعامل مع عدد محدود من المعطيات/المعلومات محصور بين 5- 7 في حين حسب هذه المآخذ، أتت مثلا المسألة 3 بما شكّل عبءا على الجهاز العصبي للتلميذ أعاقه في إنجاز الحل...هي ملاحظة في ظاهرها وجيهة حين نعلم أن منطق اشتغال "ذاكرة العمل" يقوم على مبدأ "اعمل واترك"....وأين يتمّ "الترك"؟؟....على الورقة...فبمجرّد الوصول إلى حل خطوة من المسألة وتسجيل النتيجة على الورقة، تتوقف الذاكرة على الاشتغال حول تلك الصعوبة وتطرح ومن خزّانها كل تلك المعلومات/المعطيات التي وظفتها....ثم من جديد تستعدّ للامتلاء بمعطيات أخرى لحلّ الخطوة الموالية...وهكذا حتى الانتهاء من حلّ الخطوات كلها...قد تعود ذاكرة العمل لما تمّ تسجيله على الورقة لصياغة حلّ للخطوة اللاحقة...والمتأمل في المسألة الثالثة لا يقف على توظيف ما يتجاوز قدرة "ذاكرة العمل" من المعلومات....وهذا لا يلغي ما اعتبرناه سابقا في علاقة بصعوبة الاختبار وبزخم الرموز التي تضمّنها الشكل الهندسي ثلاثي التركيب.

إن أهم ما شدني في هذا الاختبار إذن هو استهدافه – ودون مواربة – "ملكة التفكير"...فالتلميذ الذي يعجز عن تمثّل الوضعية وتحريكها في ذهنه...والذي لا يتساءل عن طبيعة العلاقات بين مكوّناتها وعن كيفية النفاذ بأسهل طريقة لخلق الحلّ خارج دائرة النمط والتسطيح والابتذال الذي تعوّد عليها في القسم وفي الحياة الاجتماعية، والتلميذ الذي يعجز عن فك الحصار وهتك النمط...هذا التلميذ سيجد نفسه عاجزا ومحبطا ويفشل بالتالي في التنبّه لمسالك الحل السهلة...وهي متوفرة.

إن ما أثرته حول اختبار الرياضيات يقود إلى فكرتين أساسيتين:

1- الأخذ بالشبهة نتيجة أفكار منمّطة سلفا في علاقة ببناء الاختبارات واحترامها للمقرر وذلك نتيجة ما عهدناه من تنميط في الشكل وفي المضمون ولعل ما يتواتر من إجراءات انفعالية اتخذت أبعادا مست من أخلاقيات المهنة وأيضا دفعت دون وجهة حق إلى ترحيل مسائل بيداغوجية وديداكتيكية للفصل فيها أمام المحاكم والسلط السياسية (شكاوى إلى المحكمة الإدارية وإلى الوزارة) في حين أن الاختبار في تلاؤم مع غاياته (الغربلة والانتقاء) ومع قواعده (احترام البرنامج)

2- تتحمل المدرسة العمومية مسؤوليتها كاملة في إهمال المراهنة على "تنمية ملكة التفكير" وهي مهمة في صلب أدوارها. إنّ بناء التفكير لا يكون في مناخات التنميط والتبسيط والتسطيح وقتل الاختلاف وتثبيت الدور السيّئ لمدرسة النمط، مدرسة إعادة بناء المجتمع ومدرسة "الرّقيّ الاجتماعي"....وهنا مربط الفرس....فعلى المهتمين بالشّأن المدرسي أن يخوضوا فيه حين تتوفر لديهم الجرأة ووضوح الرؤى وإرادة الإصلاح....إصلاح يخترق السقف المقرر سلفا....سقفا قرره عبث الساسة....والأهم، قرره المانحون المتحكمون في مصير البلاد، والمستفيدون من مخرجات التعليم النموذجي....إصلاح يضع المجتمع برمّته في خدمة المدرسة العمومية بما هي قاطرة تؤهل الأجيال للحياة والعمل والتفكير....وهو ما يتطلّب عاجلا إعادة النظر في البرامج والمخرجات والتكوين الأساسي والعلمي للفاعلين التربويين....

ويكفي أن نقرأ بتؤدة نتائج الباكالوريا للسنوات القليلة الماضية وما أكدته نتائج هذه السنة، حين نتوقّف أمام حقيقة صادمة تجمع مُتناقِضيْن: المرتبة الأولى فرديا....تقابلها المرتبة الأخيرة جماعيا...وهو حال المتفوّقة الأولى في الباكالوريا "مرام المرزوقي من الجهة التي تحتل المرتبة الأخير في نسب النجاح: جهة جندوبة...."مرام مرزوقي" هي خريجة معهد نموذجي....أين توفرت ظروف استثنائية في مؤسسة وحيدة لو توفرت لباقي المؤسسات التعليمية لكانت النتائج أفضل...(تفوّق كل المعاهد النموذجية في كل الجهات) وهو ما يؤكّد توجّه السياسة التربوية ذات المكيالين: اعتناء مفرط بمسلك النموذجي يقابله إهمال واع لبقية المؤسسات....والنتائج لا تتطلب كثيرا من البحث والتأويل حين نعلم أن كل سنة تشهد موجة من التسرب المدرسي وصل حد ال140 ألفا في سنة واحدة يقابله هجرة الطلبة المتفوقين والتحاقهم بجامعات أوروبية وأمريكية وكندية حيث على 100 طالب، لا يعود إلى البلاد سوى 10 أو 15 منهم....

متخصص في علوم التربية وديداكتيك البيولوجيا








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ألمانيا والفلسطينين.. هل تؤدي المساعدات وفرص العمل لتحسين ال


.. فهودي قرر ما ياكل لعند ما يجيه ا?سد التيك توك ????




.. سيلايا.. أخطر مدينة في المكسيك ومسرح لحرب دامية تشنها العصاب


.. محمد جوهر: عندما يتلاقى الفن والعمارة في وصف الإسكندرية




.. الجيش الإسرائيلي يقول إنه بدأ تنفيذ -عملية هجومية- على جنوب