الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أشخاص دفعوا الثمن نتيجة الوفاء بأفكارهم : سقراط نموذجا

حمزة الذهبي
كاتب وباحث

(Hamza Dahbi)

2021 / 7 / 11
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


تقديم :
الفكر المخالف لما هو سائد محكوم عليه، تلقائيا، بالإقصاء والتهميش، وأحيانا بما هو أبشع وأشنع، إذ لو تأملنا التاريخ لوجدناه مليئا حد الثمالة بنماذج من هؤلاء الناس الذي تعرضوا لأشياء فظيعة وصلت حد الإعدام، وذلك فقط لأنهم تجرؤوا على النظر في اتجاه آخر غير الاتجاه الذي ينظر إليه الجميع . إن عملية رؤية الأمور عكس ما يراه الجميع، عملية ارتداء نظارات مختلفة عن النظارات التي ترتديها الجماعة، حولتهم إلى شياطين. لهذا عملت الجماعة، التي لا تحب أن ترى رأي آخر مخالف عن رأيها، على التخلص منهم. ومن بين هؤلاء، الذين يمتلئ بهم التاريخ، أختار الحديث في هذا المقال عن سقراط. أما مبرر اختياري له دون الجميع فيرجع إلى إيماني بأنه يمكننا التعلم والاستفادة منه .
سقراط : سواء برأتموني أم لا.. لن أغير سلوكي.
سقراط ، فيلسوف يوناني، ولد قبل ميلاد المسيح بما يقارب خمسمائة سنة ، استوحى سقراط فلسفته، مثلما ادعى ارسطو، من الشعار المنقوش على معبد أبولو في دلفي "اعرف نفسك " 1. في حين أن هناك من يرى أن فلسفته هي نتاج صوت داخلي سمعه سقراط وأملى عليه أن يوقف ما يفعله وبغير سلوكه . ونتيجة سماعه لهذا الصوت أضحى يتصرف على نحو مختلف، يتجاهل العادات، وما اجتمع عليه الناس، وينشغل بتعلم كيفية عيش أفضل حياة يمكن تصورها .
ومهما كان مصدر تفلسفه، فقد تميز سقراط بشيئيين أولاً من حيث المظهر الخارجي، حيث أنه كان يعتبر قبيحا وفقا لمعايير اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد، قلت وفقا لمعايير اليونان، إذ كما تعلمون القبح ليس ثابت، بل هو متغير بتغير الزمان والمكان، بمعنى أنه يينى اجتماعيا، وما يكون قبيحا في زمن أو مكان ما يمكن أن يكون غير ذلك في زمن أو مكان آخر. وثانيا بأسلوبه الفريد في التفلسف والذي يسمى " فن التوليد "، أي أنه كان يستخرج الأفكار من محاوريه، لا يعطيهم شيئا من عنده / يساعدهم على استخراج ما سيعرفونه انطلاقا من أنفسهم بأنفسهم. يقول عن ذلك في محاورة تيتياتورس : "إنني مثل القابلة، لا ألد الحكمة، لأنه لا حكمة عندي، إن مهمتي هي مساعدة الآخرين على الإنجاب " .ويضيف : " ليس عندي أي نوع من الحكمة، وإنما كل صناعتي هي توليد الأفكار من الرجال، إن أسئلتي ساعدت الناس الذين أجادلهم- رغم أنهم لم يستفيدوا مني شيئاً – أن يكتشفوا بأنفسهم كثيرا من الحقائق الرائعة التي تولدت منهم واستخلصت من أنفسهم وأعماقهم ".
عدم ادعاءه الحكمة والمعرفة، وتوقيفه للناس في الأماكن العامة، وجعلهم يدركون، عبر أسئلته المزعجة، مدى محدودية ما يعرفونه، خلق له العديد من الأتباع، الذين اعتبروه الرجل الأكثر حكمة على قيد الحياة . بيد أنه خلق له أيضاً أعداء ضربوه، واحتقروه وسخروا منه. ووصل بهم الأمر إلى محاكمته. إذ أنه وهو في سن السبعين اتهم من قبل مواطني أثينا بتهمة الالحاد – عدم الإيمان بآلهة المدينة – وإفساد عقول الشباب . لقد خرب ، حسب قولهم ، عقول الشباب وجعلهم ينحرفون عن الطريق القويم ، وطالبوا انطلاقا من ذلك بإعدامه.
في المحاكمة تصرف سقراط بشجاعة وخاطب المحكمة بجرأة قل نظيرها : " طالما أنني أتنفس وأملك القوة، لن أتوقف عن ممارسة الفلسفة واسداء النصح لكم وتوضيح الحقيقة لكل من أصادفه ... وبذلك أيها السادة... سواء برأتموني أم لا . أنتم مدركون أنني لن أغير سلوكي حتى لو مت مئة مرة " 2. ولأنه لم يتراجع عن قناعاته، ومعتقداته، فقد انتهت المحكمة بالحكم عليه بالموت : " لم يزعج الحكم سقراط بالمرة، بل ذهب بهدوء الى سجنه "3 .
في السجن حاول بعض تلامذته تهريبه، لكنه رفض ذلك رفضا قاطعا، ومات موت الشجعان، ليصبح بعد موته مبجل أكثر مما كان عليه وهو على قيد الحياة. إن استعداده للموت بدلا من التخلي عن معتقداته ضمن له الخلود، إذ لو هرب أو تراجع عن أفكاره لما ضمن له هذا أي شيء. " وبعد خمسة قرون كتب المؤلف الروماني ماركوس فابيوس دفنتيليانوس : باستغنائه عن السنوات القليلة الباقية له كسب خلودا عبر القرون".4
هكذا انتهت حياة سقراط، الذي نجح في مهمته المتمثلة في " توعية الناس بنقص معرفتهم " 5، مضايقا محاوريه مثل الذبابة بأسئلته المزعجة، لكن مأساة الفلاسفة والمفكرين والعلماء لم تنتهي عنده ، فقد أدين أرسطو أيضاً، لهذا اضطر للهرب وقال أنه هرب كي لا يرتكب الاثنيون جريمة ثانية في حق الفلسفة ، في إشارة إلى جريمتهم الأولى في حق سقراط . وبعد مرور المئات من السنين صلب الحلاج، ونفي ابن رشد، و أحرقوا برونو الذي أكد نظرية كوبرنيكوس القائلة بأن الأرض ليست هي مركز الكون، وحاولوا قتل الفيلسوف اسبينوزا بطعنة خنجر....وهو الخنجر نفسه الذي انغرس في رقبة نجيب محفوظ.

على سبيل الختم :
قلت في التقديم أنني أؤمن بأنه يمكننا التعلم من سقراط والاستفادة منه . لهذا أرى من المفيد أن أتحدث عن ذلك، ولو بشكل مختصر ومقتضب: إن الدروس المستفادة من سقراط كثيرة ولعل أبرزها أنه أولاً يدفعنا الى وضع ما نعرفه ونؤمن بصحته موضع فحص وتمحيص. سقراط ينزع عنا الثقة، ويخلق لنا نوع من القلق ويضع أمامنا إمكانية أن يكون ما نؤمن به خاطئ، وهذا الأمر نحن في الغالب، لا نفكر فيه ولا يخطر على بالنا، نعيش حياتنا مطمئنين إلى صحة ما نعتقد وذلك فقط لأن الأغلبية تعتقد نفس ما نعتقد. وثانيا يعلمنا أن نتجاوز جبننا، وأن نتحلى بالجرأة والشجاعة . كيف ذلك؟ لنفترض أننا اكتشفنا تهافت وتضعضع ما نعتقد، بعد إخضاعه للمساءلة. غالباً ما سنخاف من التصريح بهذا الأمر بشكل علني خوفا من رد فعل الأغلبية، لكن سقراط لن يفعل ذلك، سيختار المواجهة بدل الاختباء وحتى عندما سيكون في ذلك هلاكه، لن يتراجع ولن يطأطئ رأسه مُذعناً.

الهوامش
1) James Meller. The philosophical live. Oneworld publications.2012. page 46
2) الان دو بوتون، عزاءات الفلسفة : كيف تساعدنا الفلسفة في الحياة. ترجمة يزن الحاج. دار التنوير للطباعة والنشر. الطبعة الأولى 2016. ص 8
3) ينس رونتجن. فكر بنفسك: عشرون تطبيقا للفلسفة. ترجمة عبدالسلام حيدر. مركز المحروسة، الطبعة الأولى 2018، ص 270
4) نفس المرجع. 270
5) Pierre hadot. What is Ancient philosophy. Translated by Michael chase. Harvard university press. 2004 , page 26








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مؤتمر باريس حول السودان: ماكرون يعلن تعهد المانحين بتوفير مس


.. آلاف المستوطنين يعتدون على قرى فلسطينية في محافظتي رام الله




.. مطالبات بوقف إطلاق النار بغزة في منتدى الشباب الأوروبي


.. رئيس أركان الجيش الإسرائيلي: هجوم إيران خلق فرص تعاون جديدة




.. وزارة الصحة في غزة: ارتفاع عدد الضحايا في قطاع غزة إلى 33757