الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


(كم مضى من الوقت؟) لوليد حسين وفلسفة التاريخ

داود السلمان

2021 / 7 / 14
الادب والفن


*داود السلمان
عنوان النص يبدأ بسؤال: (كم مضى من الوقت؟)، وهذا اختيار موفق للنص الى حدٍ ما، ويعطي الضوء الاخضر بالبوح لمديات النص، وجعله في حالة مرونة وانسيابية. إذ كانت رغبة مُلحّة لدى الشاعر أن يطرح معاناة عايشها من الداخل (ذاتية تعكس هموم مجتمع بأكمله)، على اعتبار أنّ الشاعر هو كتلة من المشاعر الجياشة تتدفق كالمياه الجارية، فهو ليس بالإنسان العادي، الذي تمرّ مجريات الحدث أمام ناظريه مرور الكرام. وعليه فالشاعر يشعر بوخزة لا أحد يدرك مداها، إلا الذي عاش تلك المعاناة و ذاقها بلسان شعوره، وكونت لديه ارهاصات ارهقت كيانه. ولا ننسى أن الفلسفة تبدأ بالدهشة وتطرح القضية على شكل سؤال، وهذا ما عُرف عن سقراط، الفيلسوف اليوناني المعروف. فقد ذكر مؤرخو الفلسفة إنّ سقراط كان يطرح ما يجول بخاطرة على شكل اسئلة (يطرح ذلك في أي فرصة تسنح له) ويدعي أنه لا يعرف الجواب، يريد من الآخرين أن يفكروا حتى تنضج عقولهم، وكان يقول ما معناه إنه "جاهل". لذلك صار هذا الجهل المدعاة بـ "الجهل السقراطي". بمعنى إنه الجهل هذا مبني على علم ومعرفة، ودراية تامة، وطرحها يكون بنوع من الاستفزاز المعرفي. وأرى إنّ الشاعر وليد حسين كان يحمل مشعل دراماتيكي مسبق حينما اختار هذا العنوان؛ لكي يستنطق المعاني بهدف الاعتراف، كالمحقق القضائي عندما يحقق في قضية ما.
"في اعترافات الأفعى
ثمّةَ فحيحٌ
تتدثرُ ببقايا جلدٍ
ربّما
طالَ بي الأمدُ
وأنا أرفل سماواتٍ
بعيونٍ محجوبة".
في القوانين الوضعية، قولهم: الاعتراف سيّد الادلة، ومعناه أنّ المتهم بقضية ما، اذا اعترف بارتكابها هو شخصيًا من دون ضغوطات خارجية، تصبح القضية مفروغ منها، ولا يحتاج الامر فيما بعد بإعطاء ادلة اضافية.
فقول الشاعر، في مقدمة النص "في اعترافات الأفعى ثمّةَ فحيحٌ" كأنما أراد المعنى الذي تطرقنا اليه، والافعى هو رمز للشر اختاره الشاعر بحبكة فكرية، ويقصد به السلطان أو الحاكم المستبد، فقد اعترف هذا المستبد بجرائمه التي ارتكبها بحق شعبه، فتمت ادانته علنا واعترف بدون ضغوطات، لأن جميع اصابع الاتمام كانت تشير ضده.
والشر مبدأ من مبادئ الفلسفة، هو و"الخير" يشكلان ثنائيتين، إذ يصبحان "الخير والشر" وقد خض في هذه الثنائية الكثير من الفلاسفة.
في اعترافاته يشير تولستوي الى إنه كان في بداية حياته يؤمن بقضايا مادية ولا يفضل سواها، حيث آمن بها وسار على نهجها، واعتبرها قضايا مسلّم بها، وكان يضحك ملأ شدقيه حينما يسمع بالقضايا الميتافيزيقية، ويعدها خرافات انتجها الفكر البشري خلال حقبة طويلة من عمر الزمن، وبعد بحوثه الطويلة وتأملاته، كما يقول هو نفسه، عاد الى رشده واعترف بإنه كان على ضلال مبين، على حد قوله، فعاد الى الايمان.
يقول تولستوي: " إن العقائد الدينية لا تلعب دورًا في الحياة أو في صلات الناس الاجتماعية ولا يحسب المرء لها حسابًا في حياته الخاصة، فهي لا تتصل بالحياة ولا ترتبط بها، فإن صادفتك مرة صادفتك كظاهرة خارجية منفصلة عن الحياة تمام الانفصال، يستحيل عليك أن تحكم على الرجل من حياته وسلوكه إن كان مؤمنًا أو غير مؤمن، وإذا كان ثمة خلاف بين الرجل الذي يعترف بإيمانه جهارًا وبين الرجل الذي يُنكر الإيمان، فإن هذا الخلاف ليس في صالح المؤمن، فإن ممارسة الدين والاعتراف به كان وما يزال شائعًا بين الأغبياء والقساة والمتكبرين، وكثيرًا ما تجد المقدرة والأمانة والثقة وكرم الطباع وحسن السلوك بين الكافرين". (تولستوي – الاعترافات – ص 22، منشورات هنداوي بمصر لسنة 2017)
والشاعر وليد حسين في هذا النّص ايضًا يعترف، واعترافه لا من هذا النوع الذي قدمه تولستوي، بل صاحب النًص كان يدعو رب السماء أن يُخلّص البشريّة من ذلك السلطان المستبد، بعد أن تمادى في غيه وفي ظلمه للناس.
"كان المسيرُ طويلاً
باختصارات مفتوحةٍ وجناتٍ ..
داكنةٍ
في رحلة بحثٍ
كالتنقيبِ
ومسايرة أمهات الكتبِ
لم تترك عظات التاريخِ المتورّم
سوى آثار
وندوبٍ طافحةٍ
في مُثُلٍ باهتةِ الفحوى"
وبين هذا وذاك، يريد الشاعر أن يخبرنا بأنه كان يدقق في التاريخ، ويغوص بأمهات الكتب، يبحث عن حكمة، وعن موعظة، يتسلى بها ويتصبّر لعلها تعينه على حجم تلك المآسي التي تمر امام ناظريه، ولا يجد ما يقدمه سوى التضرع والدعاء. "ومسايرة أمهات الكتبِ" يشير الشاعر الى اهمية التاريخ، فكما لنا حاضر نرسم ملامحه بأيادينا ونريد أن نقطع خطوات نحو التقدم، كذلك لنا تاريخ ناهض علينا أن نستنطقه، لنأخذ العبر منه.
يقول ابن خلدون: " أنّ فنّ التّأريخ فنّ عزيز المذهب جمّ الفوائد شريف الغاية إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم. والأنبياء في سيرهم. والملوك في دولهم وسياستهم. حتّى تتمّ فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدّين والدّنيا فهو محتاج إلى مآخذ متعدّدة ومعارف متنوّعة وحسن نظر وتثبّت يفضيان بصاحبهما إلى الحقّ وينكّبان به عن المزلّات والمغالط لأنّ الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرّد النّقل ولم تحكم أصول العادة وقواعد السّياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنسانيّ..". (ابن خلدون – المقدمة – ص 9، دار الكتب العلمية الطبعة الثالثة لسنة 2006 بيروت لبنان)
واعتقد إنّ هذا المعنى الذي ذكره ابن خلدون هو الذي يؤكده هنا الشاعر وليد حسين. فالأمم تفتخر بتاريخها وعليه تبني مجدها وحضارتها، والامم التي ليس لها تاريخ، بطبيعة الحال ليس لها حضارة. ومن هذه الفلسفة لازلنا نقول نحن بلد حضاري تاريخه سبعة آلاف سنة، وهذا دليل على أننا نهتم بالتاريخ وبفلسفة التاريخ كشاهد على الماضي التليد.
"تمتصُّ ما علقّ في فمي
أثناء التحليقِ
ولأنّي مبصرٌ بخفايا الشرق القديمِ
أستميل أذنيَّ
وأرتقُ الفكرةَ لكي لا تغرق
في وحلِ التيهِ"
يقرّ الشاعر (عودة على بدأ) بأنّ له بصيرة "بخفايا الشرق القديمِ" (من فلسفات وعمق معرف بارز، وقضايا اجتماعية لها مساس مباشر بالواقع المعاش عبر حقب طويلة من الزمن) و واثق بأنه يرتق "الفكرةَ لكي لا تغرق في وحلِ التيهِ" على اعتباره شاهد عيان يكتب بمداد قلمه ما رأته بصيرته الثاقبة، من حدث حق عليه أن يدونه حتى لا تكسوه غبار النسيان.
فالشاعر حاله حال الفنان أو الفيلسوف والمفكر، يكون دقيقا في اختيار النظرية التي يبدعها، او الفكرة التي يطرحها أو تطرى على باله ثم يقوم بإنتاجها، كذلك الفنان والفيلسوف يفعل الامر نفسه، فكما أن لهؤلاء اقلام تنبض بالمعرفة وبالتدوين هو ايضًا.
"لا أدري كم من الوقت
مضى
دون أن أستذكرَ أمّي
وأختبئ في ثنايا حجرِ
تلك المرآة .. القسوة
لم تهتم يوماً بتقليم أظافرِها
ولن تحثَّ جارتَنا ..
لكنّها أطلقتْ للريحِ
شذا عطرها
ولم تداعب أبي
وهو ينفرطُ .. أمامها
كحباتِ مِسكٍ
إلّا في ليالٍ حالكةٍ"
وفوق كل الذي طرحه الشاعر، من شكوى وانين مرّ لأحداث يشيب لهولها الرضيع، تمرّ سلسلة من الذكريات، على الشاعر، ذكريات بطعم حنان الام، تلك الام التي تخضبّت بدماء الفقد، واذاقت لوعة فراق العزيز، وكلنا يتذكر دموع الام العراقية وهي تودّع فلذة كبدها، الذي غيبته ماكنة الحروب، تلك الحروب العبثية التي مرت على العراقيين في حقبة مريرة من تاريخنا الحديث. "لا أدري كم من الوقت مضى دون أن أستذكرَ أمّي"؛ فالأم تعني الكثير وهي بمثابة حضن الارض الرؤوم، عندما نشيخ ونموت نرجع تارة اخرى لنرقد بذلك في حضنها الدافئ.
في رائعته (الام) يحدثنا الروائي الكبير مكسيم غوركي عن موقف أم روسية إذ بين مدى نضال هذه الام وتفانيها من اجل ولدها. وفي هذه الرواية تناول مكسيم غوركي الاوضاع والظروف التي احاطت بروسيا خلال احداث الثورة البلشفية التي دعمت النظام الاشتراكي. وذلك عندما اجتمع العمال واتَحدوا في مواجهة البرجوازيين وتجريدهم من اموالهم التي هي بالأساس اموال الشعوب. وكانت بطلة الرواية وهي في الاربعينيات من عمرها، وهي من الطبقة الفقيرة المسحوقة نراها تنخرط في النضال مع الثوار وتكافح من اجل ولدِها، الا انها بعد أن ادركت اهداف ولدها وطموحاته الحقيقية، شعرت كأنها تسعى وتناضل من اجل جميع العمال والفقراء، الذين اصابهم الحيف من طغيان المستبدين.
"كانت تصطفُ مع كبرياتِ المدنِ
في ترتيبِ جدولِ الأولويات
ولم يحظَ منها
إلّا بمواعيدَ منفلةٍ
لعلّها ..
أرخت سرَّ بشاشتِها
تستمرئ الصبحَ
كخبز عراقيٍّ مستديرٍ"
الام العراقية، كحال كثير من امهات الشعوب الاخرى، عانت في سبيل الخير والنقاء، وفي سبيل العيش الذي يليق بها كمخلوق له شعور واحساس فذ، سعت أن تعيش بكرامتها وكرامة اولادها، بل وناضلت وتحمت مشاق الحياة، ولا تزال كذلك كالطود الشامخ لا تهزها رياح الذل والتحدي، وقدمت رسالتها الانسانية بأفضل ما قدم مخلوق على وجه البسيطة.
كانت علاقة الفيلسوف ايمانويل بأمه جدة وقويمة، حتى انها قد رسخت الدين في فهمه وغذته اياه. بينما كانت علاقة أم الفيلسوف آرثر شوبنهاور طفيفة وفي السنوات الاخيرة انقطعت تمامًا، حيث اصبح تنافر بينهما ولما توفيت لم يحضر جنازتها.
والمرأة على مدى تاريخها الطويل تحملت المصائب والقضايا التعسفية، الا انها ظلت شامخة كالطود الاشم، فلم تتهزهز.
ففي كتابها (الانثى هي الاصل) تحدثنا نوال السعداوي عن الحيف الذي تعرضت له المرأة، منذ تاريخا الطويل، من ظلم واستبداد وتعسف من جهة الرجل، لكنها صبرت وتفانت، واظهرت شجاعتها ازاء ذلك.
"وقد لاحظ فرويد وزملاؤه من العلماء أن نسبة قليلة جدًّا من النساء يُظهرن عبقرية أو نبوغًا في الفن أو الأدب أو العلم، ولم يُرجعوا ذلك إلى الظروف الاجتماعية التي تفرض على المرأة الانغلاق داخل جدران البيت، وتضييع الوقت في خدمة الآخرين والغسل والطبخ، وإنما أرجعوا ذلك إلى الفروق التشريحية بين المرأة والرجل، وبعضهم أخرج نظرية تقول إن قدرة المرأة على الخلق تمتصها بيولوجيًّا وظيفتها كأنثى تحمل وتلد". (نوال السعداوي – الانثى هي الاصل – ص 119- 120، منشورات مؤسسة هنداوي لسنة 2017 مصر)
وعندما يتذكر الشاعر أمه انما يعني المرأة ككيان حي فاعل في جميع المجتمعات، لا يخص الام في جهة مخصوصة، وكما ذكرنا من قبل من أن الشاعر هو مترجم لمشاعر الناس وهو لا يزيغ المعنى دون معنى آخر.
"ولها يدانِ ..
انهكتهما في تباريحِ الدعاءِ
ولانّها تصارعُ الغيابَ
ترتفعان كلّما اشتدَّ وطيسُ التنّور
تبحث عن وجهي الضائع
بين تجاعيدِ الحروبِ
لكنّني ألفت أشياءها
وصندوقها الأسود
يوم كان الفقر بطلاً
يمتدّ إلى قرىً سائمةٍ
تشيخُ مع العوزِ
دون زخاتِ مطرٍ رحيم".
لعل خير من وصف الام شعرا هو شاعر النيل حافظ ابراهيم، فقد قرنها بالمدرسة، تلك المدرسة التي تخرج عرقا طيبا يمكن للجميع أن يفتخر بذلك العرق، من حيث التربية والاصالة. إذ قال: الام مدرسة اذا اعددتها.. اعددت شعبًا طيب الاعراق.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأسود والنمور بيكلموها!! .. عجايب عالم السيرك في مصر


.. فتاة السيرك تروى لحظات الرعـــب أثناء سقوطها و هى تؤدى فقرته




.. بشرى من مهرجان مالمو للسينما العربية بعد تكريم خيري بشارة: ع


.. عوام في بحر الكلام | الشاعر جمال بخيت - الإثنين 22 أبريل 202




.. عوام في بحر الكلام - لقاء مع ليالي ابنة الشاعر الغنائي محمد