الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اللغة والمسألة القومية

الطاهر المعز

2021 / 7 / 15
مواضيع وابحاث سياسية


الفصحى والعامية والمسألة القومية

تقديم:
تهتم الشعوب والأمم بصيانة لغاتها، وتفرض العديد من الدّول استخدام لغتها، حصريًّا على أراضيها، لأن اللغة تعتبر ركيزة أساسية لهوية الأمم، وتتخوف بعض الشعوب من اندثار لغتها بسبب هيمنة اللغة الإنغليزية على عديد المجالات المالية والتجارية والتقنية، فيما تُواجه اللغة العربية خطرًا آخر يتمثل في انتشار استخدام اللهجات المحلية (المَحْكِيّة) في وسائل التواصل "الإجتماعي".
لا تهدف هذه الورقة إذكاء حربٍ (لا لُزُومَ لها) بين الفُصْحى و"العامّيّة" (أُفضِّلُ عبارة "المَحْكِيّة" أو "الدّارِجة")، فلكل منهما وظيفتُها ودورها وضروراتها، بل تنطلق هذه الفَقَرات من ضرورة تطوير القواسم المُشتركة بين مُواطني الوطن العربي، كخطوة ضرورية لِنَهْضَة الأمّة العربية بكافة مُكَوّناتها، وكخطوة نحو وحدة الشعوب العربية، كحلقة من برنامج تقدُّمِي اشتراكي، أُمَمِي، وسوف أُحاوِلُ التّرْكيز على الدّعوات لتدريس وكتابة اللّهجات المَحلِّيّة، بديلاً للُّغة العربية الفُصحى التي سمِحَتْ، حتى القرن التاسع عشر، بتطوير الفلسفة والرياضيات ورسم الخرائط والطب والصيدلة ومجمل العلوم...
كان الشاعر والأديب والإعلامي المَصْري "فاروق شوشة" (1936 – 2016) من الأدباء المصريين القلائل، في عصره، الذين تَخلّصُوا من المركزانية المشرقية، أو المَصْرِية، حيث اهتم بالشعر والأدب في المشرق كما في المغرب (كتاب "الشعر أولاً، الشعر أخيرًا" – 2002)، ونَشَرَ ما لا يقل عن عشرين كتابًا بين دواوين شعر ودراسات أدبية، وكان يُقدّم برنامج "لُغتُنا الجميلة" الإذاعي، من 1967 إلى 1977، واستضاف مشاهير الأُدباء، منهم "طه حسين"، وفي التلفزيون، استضاف في إحدى حلقات برنامج "أُمْسية جميلة" الشاعِرَيْن "عبد الرحمان الأبنودي" ( 1938 – 2015) الذي يكتُبُ الشعر بالعامِّيّة، و "أمل دنقل" الذي كتب بالفُصْحى (1940 – 1983)، قُبيْل وفاة أمل دنقل بداء السّرطان، حيث قال دنقل ما معناه أن "لكل من شعر الفصحى والعامية دَوْرٌ في المجتمع، وكلاهما يُعبّرُ عن تنوّع الفكر والهُموم والمشاعر، فيُساهم كل منهما في إثراء التّراث الأدبي المَحلِّي"، وأتّفق مع هذا الرّأي الذي يُنصِفُ كلا من الفصحى والعامّية، لكن اللغة العربية تضمن الإنتشار في مجال أرحب...
اشتهرت قصائد وحكايات وملاحم عديدة بالعامية، مثل قصائد عبد الرحمان الأبنودي وأحمد فؤاد نجم (مصر) كما اشتهرت القصيدة المأساوية "حيزِيّة" (1878) للشاعر الجزائري "محمد بن قيطون" ( 1843 - 1907 ) والتي أعاد الشاعر الفلسطيني "عز الدّين المناصرة" ( 1946 - 2021 ) التعريف بها، لتنتشر حكاية المأساة (وليس القصيدة بذاتها) بعد أكثر من قرن على تأليفها، كما اشتهرت قصائد مُظفر النواب (العراق)، باللهجة العراقية، إلى جانب قصائده باللغة الفُصْحى، وساهم بعض الشّعراء التونسيين في نشر الوعي الطّبقي والفكر التقدمي بقصائد أُلْقِيَتْ العامّية، مثل بلقاسم اليعقوبي ولزهر الضّاوي من المُعاصرين والعديد من الشعراء الذين كتبوا قصائد مناهضة للإستعمار، كما كُتبت ملاحم عن أبطال الكفاح المُسلّح (محمد الدّغباجي أو البشير بن سديرة...)، أو قصائد عن الوضع الإجتماعي وارتفاع الأسعار، أو قصائد الوَصْف والغزل لأحمد البرغوثي (العديد من براغيث تونس شُعراء كما براغيث فلسطين)، ناهيك عن النصوص التي كُتِبَت للمَسرح أو للسينما، فيما حفظ جميعنا أمثالاً وحِكَمًا وحكايات شعبية باللهجات المحلية، أصبحت تُشكّل جزءًا من تراثنا، بعضها تقدُّمي وبعضها رجعي، يدعو للخنُوع، ما يتطلب غربالاً للتُّراث، لِفَرْزِ الغث من السّمين.

الإستعمار وسياسة "فَرِّقْ تَسُدْ":
ظهرت دعوات عديدة، في معظم البلدان العربية، للكتابة باللهجات المحلية (المَحْكِيّة أو العامِّيّة أو الدّارجة) بدل اللغة العربية، بالتّوازي مع الإدّعاء أن بلدًا صغيرًا مثل لبنان أو تونس يمثل أُمّة (أُمَيْمَة) بِحَدِّ ذاتها، وأن المصرين أو التونسيين أو اللبنانيين ليسوا عربًا، بل فراعنة أو قرطاجنيين أو بربر أو فنيقيين، كما بذل الإستعمار الفرنسي جهودًا للقضاء على تعليم العربية واستخدامها في المغرب العربي، وفي الجزائر بشكل خاص، مقابل تشجيع استخدام الدّراسة والكتابة باللغات البربرية، واللهجات المَحْكِيّة المحلية، ولم تنته هذه الدّعوات والجُهود الإستعمارية، بانتهاء الإستعمار العسكري المُباشر، بل تمكّنت فرنسا من فَرْض وزيرة للتعليم ( 2014 – 2019) تعمل في مركز وطني فرنسي للدراسات والبحوث، وحفيدة أحد مشاهير عملاء الإستعمار، ولا يُحَمِّلُها أحدٌ مسؤوليةَ خيانة جدّها، لو امتَنَعَتْ عن تَمْجِيد أقوالِهِ وأفعاله عَلنًا، وعبّرت كوزيرة تعليم، عن مُعادتها للغة (وللحضارة) العربية، باسم مناهضة الإخوان المسلمين، وتدعو للتدريس باللغة المَحْكِيّة وبالبربرية في المراحل الأولى، ثم بالفرنسية في المراحل اللاحقة، كما ظهرت خلال نفس الفترة دعوة مماثلة من وزير مغربي في حكومة الإخوان المسلمين، أما في تونس فقد كان "اليسار" (ولا يزال عدد هام من مناضليه) يكتب باللهجة المَحْكية...
ارتبَطَ تاريخ الدّعوات للكتابة بلغة المُسْتعمِر، كما باللغة المَحْكِيّة، بمخططات الإستعمار، للقضاء على مُقومات وحضارات وتاريخ الشُّعُوب الواقعة تحت الإستعمار، خصوصًا في الجزائر، حيث ترافق الغزو العسكري، مع غزو ثقافي، يقودُهُ عُلماء الآثار والأنثروبولوجيون والمُؤرخون وعلماء اللغة وباحثون من مختلف الإختصاصات، ادّعى بعضهم أنه أصبح مُسْلِمًا، وتعلّم بعضهم العربية (أو لُغَات الشُّعُوب المُسْتَعْمَرَة) بغرض خدمة الإستعمار وتقويض بُنْيَة المجتمعات الواقعة تحت الإستعمار، من داخلها.
نُشرتْ سنة 1886 الطبعة الأولى من "قاموس عربي فرنسي بحسب اللهجة الجزائرية"، كتبه "بلقاسم بن سديرة" (1845 – 1901)، وهو معجم بعنوان فرنسي، يعتمد تبويبًا فرنسيا، ومؤلفه حاصل على "وسام الشرف" الفرنسي و"الميدالية الإستعمارية الفرنسية"، في الجزائر المُسْتَعْمَرَة، وتَجَنَّسَ بجنسية الدولة المُسْتَعْمِرَة عند بلوغه سن الرّشد (21 سنة آنذاك، أي سنة 1866)، وتزوج امرأة فرنسية وحَمَلَ أبناؤُهُ أسماء فرنسية، وأنفقت وزارة الحرب الفرنسية على تعليمه بفرنسا (بوساطة من أحد الأعيان العُملاء بمنطقة الشرق الجزائري)، ليوَظّفَهُ الجيش الفرنسي، عند عودته "لرعاية" الجنود الجزائريين بالجيش الفرنسي، "وإدماجهم في النّسيج الثقافي والحضاري الفرنسي"، واشتهر بدفاعه المُستَميت عن "الحضارة الفرنسية"، وهو ما عبّر عنه جدّنا عبد الرحمان بن خلدون (ثم فرانتز فانون من بعده) بتَشَبُّهِ المغلوب بالغالب، وافتتانه بثقافته وحضارته، ولذلك كلفته السلطات الإستعمارية (الحاكم العام بالجزائر) ب"مهمة خاصة في منطقة القبائل"، تتمثل بحسب بلقاسم بن سديرة في "دراسة اللهجات البربرية وإدماج الأهالي"، والإدماج يعني "الفَرْنَسَة"، في إطار الدراسات الأتثروبولوجية التي بدأت مُبَكِّرًا، "لِفِهْم الإنسان الجزائري" (أو أي إنسان واقع تحت الإستعمار"، مع الإشارة إلى محاربة الإستعمار الفرنسي اللغة العربية منذ البداية، مع حَظْرِ تعليمها، وتدمير آلاف المساجد والزوايا والمدارس، بالتوازي مع تشجيع دراسة الفرنسية واللهجات المحلية، منذ سنة 1835 (أي بعد خمس سنوات من بداية الإحتلال العسكري)، وأورد أحد التقارير الفرنسية الرسمية (سنة 1847) أن الإحتلال تمكّن من إغلاق جميع المدارس، مع ترك هامش صغير لتعليم القرآن فحسب، وخصّص الإستعمار ميزانية هامة لدراسة اللهجات والعادات والخُصُوصيات المحلية، وخصصت وزارة الحرب الفرنسية (وليس وزارة التعليم أو البحث العلمي والأكاديمي) جوائز هامة للباحثين في هذا المجال، ومنهم "بلقاسم بن سديرة"، إلى جانب العديد من ضُبّاط جيش الإحتلال الذين تعلّموا العربية،وألّف بعضهم "مَعاجِمَ" كُتبت بالفرنسية وباللهجات الدّارجة الجزائرية، لتوعية الضباط والمُستوطنين الفرنسيين وتعليمهم كيفية التخاطب والتّعامل مع الجزائريين، بهدف تخريب المجتمع الجزائري، كجزء من خطّة تقسيم الشعب وفك الرّوابط الوطنية التي تجعله مُوحّدًا ضد الإستعمار...
لم يخدم "بلقاسم بن سديرة" بلادَه الجزائر، بل كان خادِمًا شديد الإخلاص للإستعمار الإستيطاني الفرنسي، واستغلّه المُستشرقون الفرنسيون، فعيّنوه عضوًا في "الجمعية الآسيوية" (تأسست بباريس سنة 1822) وهي عبارة عن نادي ذي اتجاه ثقافي وإيديولوجي يجمع المستشرقين الإستعماريين الفرنسيين، واستفادت الجمعية (ومُستشرقيها) من إجادة بن سديرة اللُغَتَيْن الفرنسية والعربية، فضلا عن دراساته للهجات البربرية، وأدّى انبهارُهُ بحضارة المُسْتعمِر، إلى عدم التوجه إلى بني وطنه، وعدم نَشْر أي شيء باللغة العربية، بل كتب في مُقدّمة كتاب "دُروس تطبيقية في اللغة العربية الدّارجة"، وهو كتاب مكتوب بالفرنسية طبْعًا: "إن الفرنسية لُغتُنا الأُمّ التي تحدّثنا بها من يوم ولادتنا".
رغم تضحيات الشعب الجزائري، يبقى استقلال الجزائر منقوصًا، لعدّة أسباب، أهمها، عدم تخصيص عائدات ريع المحروقات للإستثمار في التنمية وفي القطاعات المُنتِجَة، وكذلك، بسبب سيادة اللغة الفرنسية، ما يُعْتَبَرُ انتصارًا للإستعمار الفرنسي الذي يَسْتوْطِنُ العُقُول، ولا تزال فرنسا من أكبر الشركاء، في مجالات الإقتصاد والتجارة والثقافة، بعد قرابة ستة عُقُود من خروج الجيش الفرنسي، ولا يزال أنصار اللغة الفرنسية من الإئتلاف الطّبقي الحاكم، يتحكّمون بجهاز الدّولة ويحاربون تعميم اللغة العربية (رغم مُحاولات تعريب عناوين المحلات، أي تعريب الجُدْران، بدل تعريب العُقُول) في قطاعات التعليم وفي مؤسسات ودواليب الدولة، باختلاق مجابهة أحيانًا بين العربية والبربرية أو بين العربية واللهجات المحلّيّة، بلغت أَوْجها سنة 2015، وهو ما حصل أيضًا بالمغرب، سنة 2018، أما في تونس فقد تكفَّل مناضلو اليسار بإلغاء العربية من كتاباتهم لصالح اللهجات المَحلّيّة، سائرين على خُطى مجموعة "آفاق" ووَريثَتِها الشّرعيّة "العامل التونسي"، فإلى جانب هذا النّموذج الجزائري، من الدّعوة للكتابة بالفرنسية أو بالعامّيّة، أو اللّهجات المَحْكيّة، وُجِد نموذج آخر بتونس، يدّعي تَبَنِّي الإشتراكية.
تشكّلت حركة "آفاق" التّونسية من طلبة تونسيين درسوا بفرنسا، خلال منتصف القرن العشرين، وكان مُؤَسِّسُوها يتفقون مع رُؤْية بورقيبة للحداثة، ويشتركون معه في الهُيام بفرنسا وباللُّغة الفرنسية، وعلى سبيل المثال فإن أحد مؤسسيها الرّاحل "جِيلْبار نَقّاش" (1939 – 2020) يُصِرُّ على الحديث بالفرنسية، حتى عندما وقعت دعوته للحديث عن تجربة السّجن والتّعذيب (شريط "الحَنْظَل" من إخراج "محمود الجمني" 2012)، واختلفت مجموعة آفاق مع بورقيبة بخصوص مسألة الديمقراطية، ثم توسّعت المجموعة وأصبحت تضُمُّ قَوْمِيِّين (ناصريين وبعثيين)، فيما بقيت الفرنسية لُغة المنشورات، رغم وجود بعض المُتخرّجين من جامعة "الزيتونة" (المُعَرّبة) في الطاقم النّضالي، وعانى مناضلو "آفاق" من القمع والإعتقال والسّجن، فقد كانوا يعارضون الحرب الأمريكية ضد شعب فيتنام، فيما كان بورقيبة يدعم الإمبريالية الأمريكية عَلَنًا، ثم تظاهر بعض مناضليها (وليس كلهم) ضد العدوان الصهيوني على الشعوب العربية في الخامس من حزيران 1967، وتظاهروا ضد زيارة نائب الرئيس الأمريكي "هيوبرت همفري"، ووزير خارجية أمريكا "وليام روجرز"، وسلطت المحاكم الإستثنائية (أمن الدّولة) أحكامًا قاسية جدًّا (20 سنة أشغال شاقة لمحمد بن جَنّات، على سبيل المثال)، قبل إصدار بورقيبة عفوًا رئاسيًّا مشروطًا ضد معظمهم في العشرين من آذار/مارس (ذكرى اتفاقيات "الإستقلال") سنة 1970...
انتقد الجيلُ اللاحقُ من المناضلين الكتابةَ والخطابَ السياسي باللغة الفرنسية، باعتبارها لغة الإستعمار، كما انتقدوا مفهوم الأُمّة لدى مجموعة "آفاق" وما انبثق عنها من مجموعات، مثل "تجَمّع الدراسات والعمل الإشتراكي"، الذي اشتهر (بالسّلْب، وليس بالإيجاب) بإصدار "الكُرّاس الأصفر" (نسبة إلى لَوْن الغلاف) الذي تَضَمَّن موقفًا يمينيا واستعماريا عن فلسطين، ضمن مجموعة كراسات وإصدارات أخرى، مكتوبة باللغة الفرنسية، وكذلك مفهوم الأُمّة لدى منظمة "العامل التّونسي" فيما بعد، على إسم الصحيفة التي انطلقت سنة 1969، بالعربية "التونسية" المَحْكِيّة، مع الإشارة إلى اختلاف العبارات وطريقة الكلام بين منطقة وأخرى، داخل تونس، كما داخل كل بلد، وحصل الإنفصال بين مجموعتَيْ "آفاق" و "العامل التونسي" سنة 1971، وبعد انتقادات عديدة من داخل المنظمة ومن خارجها، أصبحت الصحيفة مكتوبة بالعربية، سنة 1974، ولكن لم يَنْتَهِ النقاش حول المسألة الوطنية والقومية، بل تواصَل، داخل تيارات المنظّمة، حتى منتصف عقد الثمانينيات من القرن العشرين، لمّا توحدت معظم تيارات "العامل التونسي" لتُؤَسِّسَ حزب العُمّال الشيوعي، الذي أصبح يُسمّى حاليا "حزب العُمّال"...
ظهرت خلال عقد الثمانينيات من القرن العشرين، مع "برنامج الإصلاح الهيكلي" (المفروض من قِبَل صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي) ومع خصخصة القطاع العام، لوحات إشهارية ضخمة في شوارع تونس والمغرب ومصر وغيرها، وإعلانات تجارية مسموعة ومرئية، بلهجة مَحلِّية مُبتَذَلة، وركيكة، وبذيئة، بالتوازي مع انتشار أغاني هابطة، في وسائل الإعلام الحكومية والخاصة، كانت عنوانًا لفساد الذّوق، بالإضافة إلى طابعها الإيديولوجي، كنتيجة منطقية لبرامج "الإصلاح الهيكلي"، واليوم، وبعد أكثر من خمسة عُقُود على ظهور تيار "العامل التونسي" الإقليمي الضيّق، يعود بعض اليسار التونسي (من مختلف الإتجاهات) للكتابة باللهجة المَحكية في تونس وفي العديد من البلدان العربية الأخرى، مع الإشارة إلى تنَوُّع اللهجات المَحَلِّيّة بين البلدان العربية، وبين المناطق أو الأقاليم داخل كل بَلَد، وإلى استخدام لُغات أخرى (البربرية والنُّوبية والكُرْدِية...)، فشكّلت هذه الكتابات (باللهجات المَحْكِيّة) نَسْفًا للقاسم المُشترك، أي اللغة العربية التي شكّلت لغة التواصل، سواء بين مواطني البلاد الواحدة أو مواطني الوطن العربي، فضلاً عن الإرتباط الوثيق بين اللغة والمسألة القومية، خصوصا داخل أُمّةٍ واقعة تحت الإضطهاد، وتخضع أجْزاءُ منها للإحتلال المُباشر، من سبتة ومليلة بالمغرب إلى لواء الإسكندرون السّوري الذي تحتله تركيا، وعربستان ( الأهواز) العراقية التي تحتلها إيران.

اللغة العربية في وسائل الإتصال "الإجتماعي":
ابتكر وصَمَّم وسائل التكنولوجية الحديثة وشبكات التواصل الاجتماعي، مُخترعون وباحثون أجانب، أو حتى عرب يعملون لدى شركات عابرة للقارات، ذات منشأ أمريكي، أو أوروبي، ولذلك فإنها مُصَمَّمَة بهدف تحقيق الرّبح المالي، وعلى قياس اللغة الإنغليزية وعلى مقاس ثقافة الدّول الإمبريالية المُهَيْمِنَة، ما أثَّرَ سلبًا على اللغة والثقافة العربيَّتَيْن، وانتشر استخدام العامية، وخليط من اللهجات المحلية واللغات الأجنبية، عبر وسائل الإتصال، بالهواتف المحمولة واللوحات والحواسيب، لدى شباب الوطن العربي، كما انتشرت ظاهرة كتابة الأصوات العربية بالحروف اللاتينية، وكتابة الأرقام بدل الحروف التي لا وجود لمقابل لها في الأبجدية اللاتينية (القاف والحاء والخاء والضاد والظاء وغيرها)، وأصبحت هذه الظاهرة مُقلقة، ويمكن أن تُشكّلَ خطرًا على الهوية الثقافية العربية، وعلى جمالية اللغة.
أصبح العديد من مُستخدمي وسائل التّواصُل، من النقابيين والمناضلين الذين ينتمون لمنظمات اشتراكية وشيوعية، يعزفون عن استخدام اللغة العربية، وعن احترام قواعد اللغة السّليمة، ويستخدمون، بدلاً من ذلك، اللهجات العامية أو الدّارجة، لنقل معلومة أو خبر أو رأي، في وسائل الإتصال، كما في شعارات الحملات الإحتجاجية واللافتات (اليافطات)، وحتى الحملات الإنتخابية، مع محتوى جمالي وسياسي باهت، أو رديء، لا يمكنه الإرتقاء بوعي الأفراد أو الجماعات (الفئات أو الطّبقات) ثقافيا أو مَعْرِفِيًّا أو سياسيا، بل أصبحت هذه الكتابات باللهجة المحكية أداة لطَمْس الهوية، ولفساد الذّوق ولِتَدَنِّي الوعي السياسي، فضلا عن تدنِّي المُستوى اللُّغوي، شفاهيا وكتابيا، وعدم احترام الحد الأدنى من القواعد، كرسْم الهمزة واحترام قواعد الإعراب، وغير ذلك.
يعكس تدني مستوى العربية في مواقع التواصل "الإجتماعي" ضُعْف مستوى التعليم، إذ لا يُحسن نحو نصف سُكّان الوطن العربي استخدام قواعد اللغة العربية البسيطة، فيما يمتلك الوطن العربي كَكُتلة إقليمية رقمًا قياسيا بعدد الأُمِّيِّين (وكذلك عدد الفُقراء والمُعَطَّلين عن العمل) والذين غادروا منظومة التعليم مُبكِّرًا، ويعكس أيضًا استخفاف الأنظمة العربية بالتّعليم وباللغة وبالثقافة وكل ما يرمز إلى الهوية العربية، لأن اللغة تعبير عن "خَزّان مُشترك، بين الأفراد، من القناعات والإعتقادات"، وتمكِّنُ اللغةُ هؤلاء الأفراد والمجموعات من توفير مساحة من الحركية، ومن النّقد أو التفاهم من أجل تنسيق المشاريع المُشتركة، بحسب الفيلسوف الألماني "يورغن هبرماس" (1929 -... ) في كتابه ( Theory of acting communication ) بحسب الترجمة الإنغليزية للعنوان الأصلي الألماني، أو ما يمكن ترجمته "نظرية الفِعْل التّواصُلِي"، ويكمن خطر استخدام هذه المواقع في حلول "الإفتراضي" محل الواقع، وميل مستخدمي هذه الشبكات إلى الإستغناء عن المكتبات وعن المصادر والمراجع، ونبذ التراث، قبل غَرْبَلَتِهِ، ودون تمحيص ودون استخدام مَلَكَة النّقد...
تكمن أهمية مواقع التواصل "الإجتماعي"، مثل "فيسبوك" و "تويتر"، في ارتفاع عدد مستخدميها، وبالتالي ارتفاع عدد الرسائل المُتبادلة والمعلومات والأخبار، كما في استغلال المؤسسات الرسمية والحكومية هذه المواقع لنشر دعايتها السياسية، ولم يكن استخدام اللغة العربية (ولغات أخرى ) مُتاحًا في البداية، قبل أن تتفطّن الشركات التي تمتلك هذه المواقع وتُشرف على إدارتها إلى ضرورة زيادة عدد المُشتركين والمُتابعين، عبر إتاحة الإستخدام بلغات أخرى عديدة (منها العربية)، لزيادة قيمة هذه الشركات في السوق، وزيادة أرباحها من الإشهار بمختلف اللُّغات، ورافق هذا التوسع، بالنسبة للُّغة العربية، استهتار بقواعد الرسم والنحو وغيرها، بما في ذلك مواقع الوزارات والهيئات الحكومية العربية. إن الدفاع عن اللغة العربية وحمايتها وترسيخ قواعدها السليمة، مسؤولية فردية وجماعية، ويُعدُّ فعلاً مُقاوِمًا، لحماية للأمن القومي العربي، وهي خطوة تقدّمية، لأن العربية لغة أمة واقعة تحت الإضطهاد، وتستوجب المقاومة الثقافية تنمية مهارات القراءة والكتابة بالعربية لدى الأطفال، منذ الصّغَر، باستخدام الوسائل البيداغوجية الحديثة، قبل تعلم اللغات الأجنبية المُهَيْمِنَة، وهي ضرورية، مثل الإنغليزية، لُغة الإمبريالية والشركات الأضخم، كما أن تعلّم اللغات الأجنبية يُشكّل انفتاحًا على ثقافات شعوب العالم...

انتشار اللغة العربية عبر التاريخ:
يُقدّر حجم الكلمات ذات الجذور العربية بنحو 25% من اللغة الإسبانية، وبنحو ثلاثة آلاف كلمة في اللغة البرتغالية، في القرن التاسع عشر، بحسب المستشرق الهولندي "رينهارت دوزي" ( 1820 – 1883)، كما ساهم الإسلام في نشر اللغة العربية، عبر القُرآن، لكن العرب وُجِدُوا قبل الإسلام، وكتبوا بلُغتهم العربية التي كانت موجودة ومُتداولَة قبل الإسلام، ولا تزال بعض القصائد المكتوبة قبل الإسلام مشهورة عند عرب اليوم، وكما ساهم العرب، بمختلف دياناتهم، في الدّفاع عن بلادهم ضد الغزاة، ومنهم "الفرنجة" الذي أطلقوا على عُدْوانهم "الحُرُوب الصليبية"، ساهم العرب، بمختلف أطيافهم ودياناتهم في صيانة مُقومات الحضارة والثقافة واللغة العربية...
كتب المستشرق "جورج سارتون"، وهو اختصاصي في تاريخ العلوم (1884 – 1956): "قاد العرب العالم طيلة أَلْفَيْ عام، قبل اليونانيين، ثم طيلة أربعة قرون خلال العصور الوسطى.... حيث كانت اللغة العربية أعظم اللغات خلال هذه العصور وكتبت بها المؤلفات القيمة، فكان على الباحثين، من غير العرب، الذين يريدون الإلمام بخصائص تلك الفترة وتطور العلوم أن يتعلموا اللغة العربية، وهو ما فعله العديد من المؤرخين والباحثين الأوروبِّيِّين، فضلاً عن الدبلوماسيين والجواسيس...
تمكّن العرب من ترجمة العلوم من عدة لغات أجنبية، وألّفُوا كُتبًا هامة في مجالات الأدب والفلسفة والعلوم والرياضيات والطّب، كما بدأوا مُبكّرًا في إصدار المعاجم، منذ القرن الثامن للميلاد، منها معجم "العين" للخليل بن أحمد الفراهيدي، الذي دَوّنَ كذلك أوزان الشعر العربي (قواعد العَرُوض)، ومعجم "لسان العرب" (ابن منظور) الذي لا يزال من المراجع الأساسية للغة العربية، ومعاجم القرن العاشر كمعجم الجوهري، أو القرن الثامن عشر لمرتضى الزّبَيْدي، إلى معاجم القرنَيْن التاسع عشر والعشرين، ومعظمها من تأليف أدباء عرب، غير مسلمين (فالمسيحيون سابقون للمسلمين في الوطن العربي، كما في العالم) ومن أهم العرب المسيحيين الذي صانوا اللغة العربية: ناصيف اليازجي (1800 – 1871) وابنه إبراهيم (1847 – 1906)، ورجل الدّين المسيحي "أنستاس الكرملي" (1866 – 1947) و"بطرس البستاني" (1819 – 1883) الذين كان لهم دور هام في الدّفاع عن اللغة العربية وصيانتها وتطويرها، خلال الفترة التي عرفت زيادة الأطماع الإستعمارية، إلى جانب "أحمد فارس الشدياق" (1804 – 1887)، وغيرهم ممن قاوموا الإحتلال العثماني والإستعمار الأوروبي بالبحث والنّشر وتطوير اللغة والثقافة العربيّتَيْن، لتكون اللغة والثقافة رافعةً لفكر ما سُمّيت "النهضة العربية الحديثة" التي شملت نَشْرَ الصّحف والكُتُب، وتأسيس النّوادي الفكرية والمدارس والجامعات، كشكل من أشكال مُقاومة الإحتلال العثماني، ثم الأوروبي، رغم نُخْبَوية وانتقائية هذه الأشكال من المقاومة...
كانت اللغة العربية لغة العلوم والحضارة والثقافة التي ساهمت في إنتاج المعارف العِلْمِيّة والفلسفية أو ترجمتها من اللُّغات اليونانية واتلفارسية والهندية وغيرها، لتتلقفها أوروبا في عصر النّهضة، أو مرحلة الإنتقال من الإقطاعية إلى الرأسمالية، كما كانت لغة التجارة والعُقُود التجارية، من سواحل الصين والهند إلى القرن الإفريقي، وبين ضفاف البحر الأبيض المتوسط، ولا تزال العربية، حاليا، إحدى اللغات الأكثر انتشارًا (رغم العراقيل العديدة)، ويستخدمها نحو أربعمائة مليون شخص في العالم، بحسب بيان منظمة اليونسكو، بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية، يوم 18 كانون الأول/ديسمبر 2020، وكانت الأمم المتحدة قد أقَرّت يوم 18/12 من كل عام، منذ 1973، يومًا للغة العربية، إحدى اللُّغات الرسمية السِّتّ المُستخدمة في الأمم المتحدة، وكان الرئيس الجزائري هواري بومدين (1932 – 1978) أول من ألقى خطابًا باللغة العربية في الجمعية العمومية الأمم المتحدة (نيسان/ابريل 1974)، مُطالبًا بنظام اقتصادي عالمي جديد، يُراعي مصالح البلدان حديثة الإستقلال السياسي، ليُضْفِيَ الرئيس الجزائري مضمونًا تقدُّمِيًّا عالميا على خطابه باللغة العربية.
أما اليوم فإن اللغة العربية تُواجه تحدّيات كبيرة، كانعكاس لوضع عام، تغَوّلت فيه الإمبريالية الأمريكية التي احتلت العراق وسوريا ولا تزال تُعربد، مباشرةً أو عبر الكيان الصهيوني، أو عبر حُلفائها من الأوروبيين أو من الحكام العرب، في ليبيا واليمن وبلدان أخرى، وتتمثل التحديات في الثقافة الرجعية التي تنشرها وسائل الإعلام، المتحررة من القيود ومن الحدود، وكذلك وسائل الإتصال "الإجتماعي"، كما تتمثل في لغة الخطاب الشفوي أو المكتوب، المُستخدَمة في وسائل الإعلام والإتصال، ما يُساهم في تراجع اللغة والثقافة، وكذلك في تدهور مستوى وعي الشباب العربي بتاريخه وثقافته، وما يُشكّل خَطَرًا على مستقبل البلاد العربية ومواطنيها وثرواتها.

اللغة العربية في منظومة التعليم ووسائل الإعلام والإتّصال:
يتأثر انتشار اللغة العربية بنشر التعليم والإعلام والفُنون باللغة العربية، فانتشرت، في حقبة انتشار وسيادة النيوليبرالية (مثلما كان الشأن في بدايات حقبة الإستعمار المباشر)، المدارس الأجنبية الخاصّة التي تُعمّق الشّرخ بين الأثرياء ومتوسطي الدّخل الذين يتقنون اللغات الأجنبية، من جهة، والفئات الشعبية التي يدرس أبناؤها في المدارس الحكومية التي تفتقر إلى المعدات والتجهيزات والوسائل البيداغوجية والمختبرات، وباللغة العربية أساسًا، وما انتشار المدارس الأجنبية سوى نتيجة منطقية لخصخصة منظومة التّعليم، وتصفية القطاع العام، ضمن برامج "الإصلاح الهَيْكَلِي" الذي يفْرضُهُ الدّائنون، منذ ثمانينيات القرن العشرين. أما في الإعلام المكتوب، وربما في دُور النّشر، فقد اندثرت وظيفة المُدقّق اللغوي.
إن استخدام النقابيين والمناضلين التقدّميين وعناصر "المجتمع المدني" للغة المَحْكِيّة (العامّيّة)، في الخطاب المَكْتُوب، لا يسهل التواصل ولا يسهل نَقْلَ المعلومة، بل ينسف القاسم المشترك بين العرب، وحتى بين مختلف أقاليم ومناطق البلد الواحد، لتتراجع اللغة العربية، تاركة فراغًا تملؤُهُ اللغات الأجنبية التي بقيت مُستخدمة لتدريس العُلُوم في معظم البلدان العربية، ما يُعَرّضُ لُغَتنا، كجزءٍ من ثقافتنا وهويتنا، لمخاطر التّلاشِي، مع انتشار الإعلام الإلكتروني الذي صَمّمَتهُ وأعدّته وتشرف عليه شركات عابرة للقارات، وعلى سبيل المثال فإنِّ "الروبوت"، المُدقّق الإلكتروني للحاسوب، يرفض أن نكتُبَ عبارة "مَسْؤُول" بالهمزة فوق الواو، رغم صحّتها، وبذلك تنشر شركات تكنولوجيا الإعلام والإتصالات أخطاء عديدة في رسم الكلمات وفي تصريف الأفعال ووظيفة الكلمات في الجُمْلَة، لتُصبح هذه الأخطاء مُتداولة، بل هي القاعدة (التي أَقَرّتها شركة عابرة للقارّات)، ما يُهَدّد سلامة اللغة العربية، ناهيك عن الطابع الإيديولوجي والسياسي للرقابة التي يُمارسها المُشرفون على هذه المواقع...
إن اللغة "كائن حي"، فهي تتأثّرُ بلغات أخرى، إما بالقُوّة، مثل لغة المحتل، أو بالإختلاط، مع سُكّان البلدان المُجاورة، أو مع السُّكان الأصليين للبلاد التي استوطنها العرب في مراحل تاريخهم المختلفة، ومع توالي الإحتلالات، على مر القُرُون، ابتعدت اللهجات المحكية المحلية عن اللغة العربية، وقد يجد العراقي صعوبة في فهم المغربي، كما قد يجد المصري الإسكندراني صعوبة في فهم المصري النُّوبي، بالإضافة إلى المجموعات التي تتحدّث لُغات أخرى كالبربرية أو الكُردية...
إن اللغة العربية قديمة، مُقارنة بلُغات من استعمروا الوطن العربي (خصوصا الفرنسية والإنغليزية)، وهي أكثر مُفردات من اللغات المَحْكِية، فضلا عن القواعد المضبوطة التي مَكّنت اللغة العربية، منذ قُرون، من المُحافظة على وجودها، لأن القواعد تُمكّنُ القارئ من فهم مضمون الخطاب الذي كُتِبَ قبل قُرُون، وتشكّلت العربية من اللغات القديمة لحضارات المشرق والمغرب، كاللغة الآرامية، واللغة الفارسية، ولهجات الجزيرة العربية، في المشرق، والبربرية في المغرب العربي، أما اللغة التركية فإنها حديثة نسبيا، وكانت تُكْتَبُ بحروف عربية إلى حد هزيمة الدّولة العثمانية، بنهاية الحرب العالمية الأولى، حيث فَرَضَ مصطفى كمال أتاتورك "تَغْرِيب" تركيا وفصلها عن محيطها، وما التّأثير اللغوي التركي في المشرق العربي سوى جزء من نتائج الإحتلال العثماني، تلاه الإحتلال الأوروبي الذي أثّرَ في لغة الخطاب بين العرب، وعلى سبيل المقارنة بخصوص قِدَم اللُّغات، بدأت جهود إرساء قواعد اللغة الفرنسية خلال القرن السابع عشر، ولم تتأسس اللغة الفرنسية الحالية سوى بداية من القرن الثامن عشر، أي قبل عشرة قُرون من إرساء قواعد اللغة العربية، نثرًا وشعرًا...
رغم هذه التّأثيرات الخارجية (وهو أمْر طبيعي) حافظت اللغة العربية على مكانتها المتميزة، لأنها بقيت لغة التعليم والإعلام والتّظاهرات الثقافية، ولغة النّشر وتدوين التاريخ والتّراث (الذّاكرة الجمْعِية) والأدب، ولأن قواعدها كانت مُدَوّنَة في معاجم ومراجع قَيِّمَة، ومن ميزات العربية إنها لغة اشتقاق، أي يمكن ابتكار (اشتقاق ) كلمة جديدة، انطلاقًا من جذر أو فعل ثُلاثِي.
توارثت الأجيال أشعارًا (أزْجالاً) وأغاني دُوّنت بعد إلقائها بالعاميات، كما استخدم العديد من الكُتّاب اللهجات المحلّية في لغة الحوار في المسرح والسينما وفي ببعض القصص والروايات، ما أضْفَى عليها مسحة من الواقعية، لكن تعدّد اللهجات يُشكل إحدى الصعوبات التي يُلاقيها الأجانب الذين يتعلمون العربية، لتطبيق ما تعلموه في الحياة اليومية. أما الدبلوماسيون والجواسيس والمُستشرقون فإنهم يتعلمون العربية الفصحى واللهجات المحلية أيضًا، لاستخدامها من أجل تخريب الوطن والأُمّة العربيّيْن...
إن اللهجات المحكية أو الدارجة، هي لغة تفاصيلِ الحياة اليوميّة والتواصل اليومي، بين الناس، ولكنها ضيقة فقد تختلف اللهجة بين الشمال والجنوب أو بين الشرق والغرب، داخل العديد من البلدان العربية، فضلاً عن لغة الأقليات من غير العرب، أما اللغة العربية فهي لغة الأمة العربية التي دُوّنَ بها تاريخها وتراثها الحضاري والعلمي والأدبي، ويُعتَبَرُ الإدّعاء بأن الكتابة باللهجات المحلية "تجديد للغة العربية"، يُقَرّبُ المُثقّفين من الشعب، كلامًا مردودًا على أصحابه، إذ يُمكن لكل مُتعلم، في أي بلد عربي، فهم أي نص مكتوب بالعربية الفُصحى، أما غير المُتعلّم فلا يمكنه قراءة ما يُكتب، لا بالعامية ولا بالفُصْحى، ولا بأي لغة كانت.

اللغة والمسألة القومية:
ملاحظة أولى للتوضيح: أيّدت الأحزاب الشيوعية العربية، عن قناعة أو عن انتهازية القيادات، أو عن هُزال فِكري وعقائدي، قرار الإتحاد السوفييتي الإعتراف بالكيان الصهيوني، ما خلق انقسامات داخل الحزب الشيوعي الفلسطيني، وما أدّى إلى استغلال هذا الموقف من قِبَل القوى المناهضة للإشتراكية وللشيوعية، لكن التيارات التي نشأت خارج هذه الأحزاب الشيوعية "التقليدية" أكّدت على عُرُوبة فلسطين وعلى وُجُوب تحريرها كاملة، وأكّدت على المسألة القومية، لكنها تختلف مع التيارات القومية العربية (البعثية والنّاصرية) بشأن العديد من المسائل، من بينها طُرُق إنجاز الوحدة العربية، فالقوميون لا يضيرهم تحقيق الوحدة بالقُوّة، أو عبر انقلابات عسكرية أو عبر قرارات فَوْقِية، فيما يعتبر الإشتراكيون والشيوعيون أنها وحدة شعوب، تُنجز من القاعدة، وليس من قِبَل سُلطة الدّولة وأجهزتها العسكرية والبيروقراطية، ونشرت معظم المنظمات الشيوعية العربية، من المغرب إلى المشرق، نصوصًا ودراسات بهذا الشأن، تربط المسألة القومية بالتحرر السياسي والإقتصادي من الرأسمالية ومن التّبَعِيّة، رغم تراجع بعض هذه المنظمات عن محتوى هذه النّصوص أو طَمْسِها ودفْنِها.
ملاحظة ثانية: للتوضيح أيضًا، لا ينطلق مفهوم القومية العربية، أو الأمة العربية، من منطق عرقي أو أثني، بل من تاريخ مشترك وثقافة مشتركة ووجدان أو طموحات مشتركة – ينقصها العامل الإقتصادي بسبب وجود حُكّام عُملاء- على رقعة جغرافية ممتدّة من البحر إلى البحر، منذ حوالي خمسة عشر قرنًا، وتشمل هذه الأُمّة كافة الشعوب والثقافات، وتُشكّل اللغة (كوعاء ثقافي وحضاري) عاملا هامًّا من عوامل التّواصل بين كافة الشعوب (عرب وغير عرب) التي تعيش على هذه الرقعة الجغرافية...
تلاشى أو أُهْمِلَ موضوع الأمة، والتأكيد على ضرورة الوحدة العربية، من النقاشات، منذ تسعينيات القرن العشرين، بالتزامن مع هيمنة النيوليبرالية والعدوان على العراق وتطبيع قيادات منظمة التحرير الفلسطينية مع من يحتل وطن الشعب الفلسطيني، فضلا عن انسحاب مصر (أكبر دولة عربية) من جبهة المقاومة والتحاقها بصف الإمبريالية الأمريكية، ومع هيمنة القُطب الإمبريالي الواحد، بزعامة الإمبريالية الأمريكية، ومن الضّروري طرح هذا الموضوع (والمواضيع المتعلقة به) على جدول الأعمال، وخوض حوارات ونقاشات هادئة وبنّاءَة، بعيدًا عن التّشنّج وعن الشتائم والإتهامات...
إن اللغة العربية الفُصحى هي لغة اتصال مُشتركة، وليدة تمازج لهجات العرب، وشيئًا فشيئًا توحّدت التراكيب والصّيغ اللُّغَوية، قبل تدوين القواعد في المعاجم، ولئن ساهم الإسلام في نَشْرِها فإنها وُجدت قبل الإسلام، كما وُجد العرب المسيحيون والوَثَنِيُّون قبل الإسلام، ويَعُود أَقْدَم أثر وقع اكتشافُهُ للكاتبة باللغة العربية، إلى سنة 51 ميلادي، على باب معبد مسيحي، وتروي القصص العربية عن مآثر "حاتم الطّائي" (أكْرَم العرب) وهو مسيحي، وكذلك الشاعر الأمير، امرؤ القيس، صاحب المُعلّقة الشهيرة ومطلعها: "قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ ومَنْزِلِ * بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ"، وهو من قبيلة "كندة" بمنطقة حضرموت باليمن، عاش في القرن السادس ميلادي، وتُعتبر العربية من اللغات القليلة التي مَكّنتها صياغة القواعد اللغوية والنّحوية من الثبات طيلة القُرون الماضية، وتُمَكِّنُ هذه القواعد من اشتقاق وابتكار عبارات وألفاظ جديدة، بسهولة نسبية يَنْدُرُ وجودُها في اللغات الأُخرى، ولولا مُحافظة الأجيال العربية على لغتها لما وصَلَنا هذا التّراث الثّرِيّ، فاللغة ليست وسيلة تخاطب واتصال فحسب، بل جزء من الإرث الثقافي والحضاري، وأورَدَ موقع منظمة الأمم المتحدة للعلوم والثقافة (يونسكو) سنة 2018، أن اللغة العربية هي إحدى اللغات الرسمية الست في الأمم المتحدة، وهي لغة رسمية في ثمان وعشرين دولة، يتحدثها أكثر من أربعمائة وعشرين مليونا شخص، وهي في المرتبة الرابعة في الشبكة الإلكترونية، بعد الصينية والإسبانية، والإنغليزية، وهي اللغة التي نَقَلَتْ الإرث الثقافي والحضاري والعلمي والفلسفي اليوناني، والطب العربي والخوارزميات، ووظائف الْجَبْر إلى أوروبا.
أمّا اللهجات الدّارجة، فهي لهجات أقاليم أو مناطق محدودة وليست لغة وطنية أو قومية، ويُعْتَبَرُ استخدامها كتابَةً، خارج إطار الشّعر أو المسرح أو تدوين التراث الشعبي، موقفًا إيديولوجِيًّا إقليميًّا ضيّق الأُفق...
ليست اللغة العربية جامدة، بل هي كائن حي، وتطورت بفعل تفاعلها عبر الزمن مع لغات الأمم المجاورة ومع اللهجات المَحْكِيّة داخل الوطن العربي، وبفعل اعتمادها لغة رسمية في مناهجِ التعليم والإعلام والتّشريع في كافة بلدان الوطن العربي، وكانت لغة العُلُوم "الصحيحة" (الرياضيات والفيزياء والهندسة )، ولا تزال كذلك في بعض الدول العربية، ولكن لا تكفي اللغةَ وحدَها لتعريف أو تشكيل القومية، بل هي شرطٌ ضروري، لأن اللغة العربية تَجْمَعُ المواطنين العرب من خلال متابعة وسائل الإعلام ومطالعة الرواياتٍ والشعر والدراسات والبُحُوث، وما إلى ذلك، رغم تقهقر مستوى التعليم لدى الفئات الأكثر فقرًا وهشاشةً، ليترافق تعميق الفَجْوة الطبقية مع توسيع الشّرخ الثقافي واللغوي، بالإضافة إلى ما سبقت الإشارة إليه من التحاق أبناء الأثرياء، وكذلك الفئات الوُسطى (بمن فيهم أبناء زُعماء أحزاب اليسار) بالمدارس الأجنبية الخاصّة، في بلاد العرب، قبل إرسالهم إلى الولايات المتحدة وأوروبا، والإستقرار بها في معظم الحالات، بدل إثراء مجتمعاتهم الأصلية بالترجمة وتعريب المعارف العلمية والتقنية، ومصطلحات الإبتكارات الجديدة، وذلك بسبب عدم اهتمام الأنظمة العربية القائمة بالعلوم والثقافة، ما جعل المصطلحات الأجنبية تكتسح مجالات العلوم والتكنولوجيا، رغم ما تُوَفِّرُهُ اللغة العربية من سهولة الإشتقاق التي مكّنت الأجيال السابقة من ابتكار أسماء لاختراعات أجنبية، مثل المذياع والهاتف والكهرباء والسيارة والحاسوب وغير ذلك، اقتداءً بالعرب الذين طوروا العربية لتصبح لُغَةَ الأدب والفلسفة والرياضيات وأدب الرحلات ورسم الخرائط، ولغة الطب والصيدلة ومجمل العلوم...
يلجأُ العديد من المُثقّفين، بمن فيهم المُثَقّفُون "الثّوْرِيُّون"، إلى ترجمة بعض المفاهيم من اللغات الأجنبية، مُهملين إمكانيات الإشتقاق التي تُوفِّرُها اللُّغة العربية، ومنها (- country - homeland nation - nationalism ) رغم دقّة التعبير عنها بالعربية، بالإضافة إلى اختلاف معاني هذه المفاهيم لدينا كأمة مُضْطَهَدة، كما لدى باقي الأمم الأخرى الواقعة تحت الإضطهاد، ففي اللغة العربية، نُفرّق بين مفاهيم الوطن و البلد والمَوْطن و"القومية" و "الأمة" و"الدّولة"، وأميل شخصيا إلى اعتبار سوريا أو تونس، أو المغرب، وطنًا، رَسَمَ الإستعمار حُدودَهُ، لكن هذه الأوطان تنتمي إلى الأمة العربية التي تضُمُّ شُعوبًا (وليس شعبًا واحدًا) وقَوميات أو أقَلِّيّات، يمكن أن تمارس أشكالا من الحكم الذّاتي داخل البلد الواحد أو ضمن حدود الدّولة الواحدة، وعمل الإستعمار والإمبريالية والفئات الحاكمة على عَزْلِ هذه الأوطان والشعوب عن بعضها، وعرقلة تنقُّل الأفراد وتبادل الإنتاج المادّي والسّلع، والإنتاج الثقافي، بين شُعوبها، بينما ازداد التنسيق بين وزراء الدّاخلية العرب، لذلك يُعتبر النضال اليوم من أجل توحيد العرب، بدءًا بصيانة اللغة المُشتركة وتطويرها، عملاً تقدُّميًّا، بل ثوريا، ولئن كانت اللغة عاملأً مُهِمًّا، فهي غير كافية لتشكيل الأمة، ولا يمكن لهذه الوحدة، مهما كان شكلها، أن تتم ضد إرادة الشعوب، بل انطلاقًا من إرادتها وبمشاركتها جميعًا في رسم مُستقبلها، بشكل ديمقراطي، اختياري، وهي وحدة من أجل السيطرة على الثروات وإنتاجها وتقاسمها، وإنتاج الثقافة والفن، ومن أجل تحرير الأجزاء المُحتلّة، والدّفاع عن كل شبر من الوطن العربي ومواجهة أطماع الجيران، بمن فيهم الذين يدّعون "مُساعدتنا"، أو الإمبريالية وشركاتها العابرة للقارات، وثقافتها الرّجعية المُهيمِنَة حاليا.
يُرَوّجُ الإستعمار أن لا وجود لأمة عربية ويحاول مَحْوَ أي أثر للعروبة في تسمية منطقتنا (الوطن العربي) "منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا"، كما يُسميها صندوق النقد الدّولي، وينْسخ العديد من الأفراد ومن المنظمات والأحزاب هذه التّسمية المَسْمُومَة، عن وعي أو عن غير وعْي، لا فَرْقَ.

المسألة القومية في عصر الإمبريالية:
يعتبر العديد من العرب التّقدّميين الإتحاد الأوروبي نموذجًا يُحْتَذَى، لأن الدول الأوروبية تمكّنت من تأسيس إطار يجمعها، رغم اختلاف اللغات والعادات والتاريخ (كان بعضها في حالة حرب بينها لعُقُود عديدة)، والواقع أنه اتحاد غير ديمقراطي، للرأسماليين ضد الكادحين وصغار المزارعين والفُقراء، فالمؤسسات النافذة في الإتحاد الأوروبي لا تُمثل سوى مصالح المصارف والشركات العابرة للقارات، وهي غير ديمقراطية بالمرة، فالمُفَوِّضِية التي تُمثل توازن القوى بين الحكومات غير مُلْزَمة باستشارة البرلمان الأوروبي، الذي لا يمتلك الإستقلالية أو النُّفُوذ ليعترض على قرارات المفوضية، وسبق أن نَشَرْتُ مقالات عن طريقة عمل الإتحاد الأوروبي وعلاقاته الفوقية مع الشعوب والكادحين...
انتشرت في الوطن العربي "مُوضة" تُرَوّجُها مجموعات رجعية، ومجموعات "يسارية"، منذ انهيار الإتحاد السوفييتي، الذي تزامن مع هيمنة النيوليبرالية، ومع العدوان على العراق ومع اتفاقيات أوسلو، وبالأخص منذ بداية القرن الواحد والعشرين، واحتلال العراق الذي أيّدته بعض القوى "اليسارية"، أي "موضة" التّبَعِية باسم اليسار الذي التحق بصفوف "الطابور الخامس"، وشكل الإحتلال فُرصةً لتأييد قرار الإمبريالية حلَّ أجهزة الدّولة العراقية (وليس فقط حل حزب البعث الحاكم)، وشكّل موقع "الحوار المتمدّن" إحدى الساحات لترويج هذه "الموضة"، باسم اليسار والعلمانية، بذريعة التّخلّص من القمع ودكتاتورية حزب البعث، وتطوّرَ هذا الموقف ليُعبّر عن مُعاداة كل ما يمُتُّ بصلة إلى العُرُوبة، وأصبح هذا الموقع (ذي الإمكانيات المادّية الهائلة) رمز إنكار وجود الأمة العربية، ورمْز تغييب المسألة القومية العربية، وتأييد استحوذ أحزاب ومليشيات العشائر الكُردية على المال العام العراقي لتمويل الإنفصال الفعلي (حظر رَفْع العلم العراقي )، وأصبح موقع "الحوار المتمدّن رمز العداء للعروبة ومعاداة مجرّد ذِكْر الأمة العربية أو الوطن العربي، أو الحديث عن ضرورة الوحدة العربية، وكل ذلك باسم "التقدّمية" و"اليسار" و "العلمانية"، وكأننا تجاوزنا مرحلة الإمبريالية، ولم تعد المسألة القومية (العربية) مطروحة، ولا النضال من أجل تحرير فلسطين والأراضي العربية المحتلة، مقابل تأييد انفصال الأكراد أو البربر...
يتمثل جزء من هذه "المُوضة" في المُزايدة بضرورة الإهتمام بالصّراع الطبقي، بدل التّركيز على الإمبريالية، معتمدين على المناقشة أو الخلاف بين روزا لكسمبورغ وفلاديمير لينين بهذا الخصوص، وتعتبر هذه "الموضة" أن حركات التحرر الوطني والقَوْمي "برجوازية بطبيعتها"، بما فيها المُقاومة الفلسطينية، والمقاومة العراقية ضد الإحتلال الأمريكي، مُتناسين أن الإمبريالية هي مرحلة من مراحل تطور الرأسمالية، تَمْزج الإضطهاد القومي بالإستغلال الطبقي، فالإمبريالية تُتَرْجمُ رغبة رأس المال في التّوسُّع إلى الأسواق الخارجية، بعد السّيْطَرة على السُّوق الدّاخلية، ولهذا الغرض، تستعمر الأوطان، وتضطهد الأمم وتستغل ثروات هذه البلدان والأمم باستخدام العُنف العسكري بالتوازي مع الإستغلال الطبقي، ما يجعل من النضال من أجل التحرر الوطني والقومي صراعًا طبقيّا أيضًا ضد "المركز الرأسمالي" الذي يعمل على "عَوْلَمَة" الأسواق، منذ القرن التاسع عشر، ويعود الفضل لفلاديمير لينين وللثورة الصينية وكذلك "مدرسة التّبعية" (سمير أمين وغوندر فرنك وكاروزو وفورتادو، على سبيل الذّكر...)، ومفكرين عرب مثل حسن حمدان (مهدي عامل) وحسين مروّة، منذ النّصف الثاني من القرن العشرين، وكذلك "علي القادري" وأمثاله لاحقًا، للتأكيد على اعتبار الصراع القومي هو صراع طبقي في جوهره، على أن الصراع يبقى قائمًا داخل حركات التحرر لقيادتها وتوجيهها لإدماج عملية التحرر من الإضطهاد بالتحرر من الإستغلال الطبقي والإجتماعي، كما من أجل المُساواة الكاملة بين المواطنين...
هناك اختلاف جوهري بين القوى القومية التقليدية والقوى التحررية الإشتراكية، لأن الإشتراكيين يربطون عملية النضال من أجل الوحدة العربية بالديمقراطية وبإنجازها قاعِدِيًّا (أُفُقيّا) وليس عاموديا وفَوْقِيًّا، وهم يربطون النضال من أجل الوحدة العربية بالنضال من أجل تغيير علاقات الإنتاج، وتأميم الثروات العربية، بدل استغلالها من قِبَل الشركات الأجنبية، وتوزيع الثروات بشكل عادل، لتلبية احتياجات المواطنين، بدل خدمة المصالح الإمبريالية أو استيراد الغذاء والأدوية والسّلاح من الدول الإمبريالية...
تنطلق بعض التنظيرات التي تُنكر وجود الأمة العربية من غياب الإقتصاد العربي المشترك، متناسين أن التقسيم والتفتيت كان من نتائج الإحتلال العثماني، ثم الإحتلال الإستعماري الأُورُوبِّي، وهيمنة الإمبريالية، التي تدعم القوى الحاكمة التي نصّبتها لتخدم مصالحها ومصالح شركاتها العابرة للقارات، فالعامل الإقتصادي غير متوفر بالفعل في الوطن العربي، بسبب التجزئة، الناتجة بدورها عن الهيمنة الإمبريالية، وتعمل الطبقات الحاكمة على استدامتها وتأبيدها، باستثناء المسائل الأمنية، إذ تُنسِّقُ شرطة واستخبارات الأنظمة العربية فيما بينها، بإشراف الإستخبارات الأمريكية أو الأوروبية.
تستفيد الإمبريالية والكيان الصهيوني من تأبيدُ التجزئةِ، بينما يُساهم التقارب والتنسيق، باستخدامُ القواعد المُشتركة، منها اللغة والثقافة، في تقريب الشّعُوب، وفي تخطِّي الهويّات الضّيِّقَة المُصْطَنَعة التي استغلّتها الرّجعيات العربية (البرجوازية الكُمْبْرادُورِيّة) لتخريب وتدمير بلدان عربية أخرى (العراق وسوريا واليمن وليبيا...)، والتّخلّي عن فلسطين لصالح الصهاينة، بل والتّحالف مع الكيان الصهيوني ضد "الإخوة" في الدّين وفي العُرُوبة.

خاتمة:
تُشكل القراءة وسيلة هامة للتّمكّن من قواعد اللغة لإتقان العربية وترسيخ القواعد في ذهن الإنسان، ما يستوجب تشجيع البحث العلمي وحركة النّشر، ودعم المطبوعات والمنشورات باللغة العربية، ليتمكن المواطن والطالب والشاب من اقتنائها بأسعار معقولة، أو الإطلاع عليها مجانًا في المكتبات العمومية، لأن أهمية اللغة تكمن كذلك في إتاحتها نشر البحوث العلمية والدّراسات، ومواكبة التقنية ومجالات الإقتصاد والمال والأعمال، وكذلك في الحصول على وظائف تُناسب مُؤهلات وخبرات المحتاجين للتوظيف.
تُعتَبَرُ مصر أكبر دولة عربية، وكان تأثيرها الثقافي عظيمًا، خصوصًا في المرحلة "النّاصِريّة" التي دافعت عن مشروع سياسي وثقافي عربي، ودعمت التعليم والثقافة الفن، واشتهرت مصر بغزارة الإنتاج الثقافي والأدبي والفَنِّي، ما جعل أغاني أم كلثوم تشتهر في كافة أرجاء الوطن العربي، بما فيها المكتوبة بالعربية الفُصحى (الأطلال أو رباعيات الخيام...)، ولذلك انتشرت الأفلام والقصائد المصرية المكتوبة أو المُلقاة أو المُغنّاة باللهجة المصرية، رغم التّأثير الواضح للإحتلال العثماني، على الأسماء التي تنتهي بتاء مفتوحة مثلاً (عِصْمَت، مِدْحَتْ أو حِكْمَتْ...) كما على اللغة اليومية المحْكِيّة، حيث غابت من اللهجة المصرية حُروف أساسية للأبجدية العربية ( ق – ج – ظ – ذ...) ووقع استبدالها بحروف أو أصْوات أخرى، فيما بقيت لهجات الخليج (رغم التّبعية السياسية والإقتصادية) ولهجات بعض المناطق في الشّام واليمن وليبيا وجنوب تونس والجزائر، أكثَرَ التصاقًا باللغة العربية الأُم...
إن الكتابة بالعامّية (خارج نطاق الشعر والمسرح والفن الشعبي) لا تُعبِّرُ بالضرورة عن الإلتحام بالطبقة العاملة وبالكادحين والفُقراء، فاللّغة بحدّ ذاتها أداة تخاطب، لكنها بالخُصُوص وعاء ثقافي وحضاري وأحد مُقومات أي أُمّة، إلى جانب مقومات أخرى، ولذلك حارب الإستعمار الإستيطاني الفرنسي والإحتلال الصهيوني اللغة والثقافة العربية التي تجمع مواطني الرقعة الجغرافية المُمتدّة من المحيط الأطلسي إلى بحر العرب، والتي تعيش شُعوبها تاريخًا مُشتركًا منذ خمسة عشر قَرْنًا...
إن دفاعي عن الثقافة العربية واللغة العربية لا يعني عداءً أو ازدراء للهجات المحلية، بل هما مُكمّلان، فالفن الجميل (موسيقى أو رسم...) يُثير مشاعر المُستمع أو المُشاهد أو القارئ، مهما كانت لُغتُهُ، وأعتَبِرُ أن دفاعي عن اللغة العربية، كتقدُّمِي، اشتراكي، عربي، يندرج ضمن مشروع أرْحَبَ، يجعل من وحدة الأمة العربية (وهي أُمّة مُضْطَهَدَة، وبعض أجزائها مُسْتعمَرة عسكريا) والوطن العربي، خطوة نحو الأُمَمِيّة، أما الكتابة بالعامّية أو المَحْكِيّة أو الدّارجة، فهي – إضافة إلى الطابع الإيديولوجي المُتماهي مع الإستعمار- دعوة للإنعزال وتضْيِيق الآفاق، حتى داخل البلد الواحد...
نَشَر مجمع اللغة العربية بدمشق، مُنتَصَفَ سنة 2010، ردًّا على الدّعوات التي انتشرت، لاستبدال اللغة العربية بالدارجة المحكية، واعتماد العامية لغة لها قواعد تكتب ويمكن تدريسها، يمكن تلخيصه كالتالي: إن مجابهة مثل هذه الدّعوات تتم بتعزيز اللغة العربية الفصيحة‏ في مواجهة تحويل اللهجات العامية من المستوى الشفهي إلى مستوى الكتابة وترسيخ العامية التي تُكرّس الإنقسام العربي وسلخ الإنسان العربي عن هويته وتراثه، ولذا وجب تمكين اللغة العربية الفصيحة، وإفساح المجال لها في الفضاء التعليمي والإعلامي والإداري والتّشريعي وما إلى ذلك...
من جهة أخرى، يمكن تلخيص الوضع العربي الحالي كالتالي:
طُرِحت المسألة القومية في أوروبا، خلال القرن التاسع عشر، حين كان الوطن العربي محكومًا من قِبَل الدّولة العثمانية المُحْتَضِرَة، قبل أن تستعمر الإمبريالية البريطانية والفرنسية، بشكل أساسي، معظم أجزاء الوطن العربي.
لا يزال الوطن العربي خاضعًا للإستعمار المباشر في بعض أجزائه وللإستعمار السياسي والإقتصادي والإجتماعي والثقافي في مجمله، ما يعني أن التناقض مع الإمبريالية لا يزال قائمًا، وكرست الدولة العثمانية ثم الإستعمار الأوروبي واقع التقسيم والتجزئة الذي لا يزال متواصلاً بواسطة الأنظمة الرجعية الكُمبرادورية السّاهِرَة على رعاية مصالح الامبريالية وشركاتها العابرة للقارات التي تنهب الثروات، فيما تسلّحت الأنظمة الحاكمة بترسانة القمع لوأدِ كافة أشكال المعارضة.
في المشرق العربي، شكّلت وحدة اللغة، ووحدة المصير، عوامل ساعدت، منذ قُرُون، على مُقاومة امبراطورية فارس من جهة وبيزنطة، من جهة أخرى، رغم التحالفات المؤقتة بين المناذرة وفارس، وبين الغساسنة وبيزنطة...
تُعتبر اللغة العربية من أهم أدوات التواصل بين العرب، وهي أقدَم من كل اللغات الأوروبية، وتمكّنت من البقاء، ومن استقطاب علماء مَرْمُوقين، من أُصُول غير عربية، كتبوا بالعربية، في كافة المجالات، بفضل القوة المادّية (الدّولة العربية الإسلامية) وبفضل متانة قواعد النحو والصرف، وتدوين هذه القواعد، وبفضل الفعاليات والمباريات الثقافية، وتدوين الشعر والوقائع التاريخية...
يؤدّي التحرر الوطني إلى وضع حدّ للإستعمار المباشر أو غير المباشر، ووضع حدّ لِحثكْم وكلائه المحليين، ولكن لا يُؤَدِّي حتمًا إلى التحرر الإقتصادي، كما لا تُؤَدِّي الوحدة العربية بالضرورة إلى التحرر الوطني الديمقراطي، فقد تكون الوحدة على الطريقة الناصرية أو البَعثية، وحدةً فَوْقِيّة، لا تطرح مسألة الإستغلال الطبقي، ولا اضطهاد فئات أو أقليات أخرى.
يتميز الوطن العربي بتواصل المساحة والإمتداد الجغرافي، من المحيط الأطلسي إلى الخليج وبحر العرب، أي بوحدة الأرض، وبوحدة التاريخ واستمرار العلاقات والعيش المشترك، منذ قُرُون عديدة، منذ انتشار الإسلام في المغرب العربي، ووحدة الثقافة واللغة والطموحات، ما يُيَسِّرُ عملية التوحيد وبناء وطن عربي كبير، بمختلف مكوناته الدّينية والأثنية والثقافية، التي تتلاشى في حالات المَدّ الثوري، أو خلال فعاليات الدفاع عن فلسطين، لكن إدماج هذه الأقليات في النضال القومي (المُناهض للإمبريالية وللفئات المحلية التي تخدم مصالحها) يتطلب وضوح الهدف المتمثل في القضاء على الاستغلال وعلى الإضطهاد، وبناء اقتصاد عربي مُتكامل ومُشتَرَك، في ظل نظام عربي ديمقراطي، يحقق المساواة الكاملة بين الجميع، وهو ما لا تُحققه الأنظمة القائمة، بحكم تبعيتها للإمبريالية التي تُقسّم الشعوب والأمم، لتُيسِّرَ عملية الهيمنة، بل إن إنجاز هذه الخطوات مَنُوط بالأجيال القادمة، وبالقوى الإشتراكية والتّقدّمية.
يروج البعض أن "الأمة العربية" ليست قائمة الذات بل هي أمة في طور التشكل بسبب غياب العامل الإقتصادي أو "وحدة السّوق" (وحدة السوق = تعبير رأسمالي بحت)، بحسب تعريف جوزيف ستالين، وبحسب ما عبّر عنه "موريس توريس"، أمين عام الحزب الشيوعي الفرنسي الذي كان يعترض على استقلال الجزائر، فاعتبرها "أُمّة بصدد التّشكيل"، أما الكيان الصهيوني الذي اعترف به الإتحاد السوفييتي والأحزاب الشيوعية التي كانت تدور في فَلَكِهِ، فهو في نظرهم أمّة "كاملة الأوصاف"، و"مسمارًا في نعش الإقطاع العربي المتخلف"، وليتشرّد الشعب الفلسطيني في المخيمات!!!
تُشكّل اللغة العربية إحدى ركائز مقومات الأمة العربية، وهي اللغة المُشتركة في كافة البلدان العربية، كما في شمال مالي وتشاد والعديد من المناطق الأخرى، في آسيا وإفريقيا، ولابد من الإشارة هنا إلى دور الإستعمار في تغذية بعض النزعات العرقية التي تعتبر أن العرب دخلاء، استعمَرُوا إقليم المغرب العربي، فلا يصح بالتالي الحديث عن وطن عربي وعن أمة عربية، ووجب التّأكيد، في مواجهة هذه النزعات وأمثالها في المشرق والمغرب العربِيَّيْن، على وجود شعب عربي أغلبي يعيش على مساحة جغرافية تمتد من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي، وتربط بين أفراده وحدة الأرض واللغة والعوامل النفسية التي تجسدها الثقافة المشتركة، وتعيش داخل هذه الرقعة الجغرافية أقليات قومية لها حقوق وواجبات، وعلينا أن نعمل على تحقيق مطالبها في العدالة والمُساواة، دون تدخّل امبريالي، باسم "حقوق الإنسان"...

بعض مُصطلحات اللغة العربية
الصّرف: علم لُغة، ينبني على وِحْدَة تُسَمّى "الجِذْر"، وهو يختص بصيغ المفردات اللغوية، وبما يمكنه إحداث تغيير في المعنى الأصلي للمفردة، عند تغيير الصيغة الصّرْفِيّة.
النّحو: يختص بالإعراب والبناء للمُفْردات والجُمَل
علم اللغة: دراسة نشأة اللغة وقوانينها وأساليبها وخصائصها وتطوراتها، ودلالة الألفاظ وبُنْيَتها من خلال الإعراب والإشتقاق، وكذلك دراسة النظام الصوتي، ويُعتبر علم اللغة أداةً لدراسة تطورات الحضارة والأدب.
علم الدّلالة، أو علم المَعْنَى: دراسة الشروط التي يجب أن تتوفر في "الرّمز" أو الكلمة أو اللّفظ اللُّغَوِي، ليكون "للرّمز" معنى، كما يهتم علم الدّلالة بالنظام التركيبي اللغوي سواء للمفردة أو للسِّيَاق

من الشخصيات المُؤثِّرة في تاريخ اللغة العربية
عَمْرُو بن عثمان بن قنبر الحارثي (المُلَقّب ب"سيبويه" (760 – 796)
فارِسيُّ الأصل، عربي اللسان، من تلاميذ مدرستَيْ البصرة وبغداد، ودرَس علوم اللغة بإشراف عدد من الجهابذة، منهم "الخليل بن أحمد الفراهيدي"... أوّل من دوّن قواعد النّحو، مع محاولة تبسيطها، وتطويرها.
الخليل بن أحمد الفراهيدي (718 – 786)
شاعر ونَحْوِي من البصرة، ابتكَرَ "العروض"، وهي أوزان الشعر العربي، انطلاقًا من ضَبْط الإيقاع الموسيقي للقصيدة الشّعرية. من تلاميذه (إضافة إلى سيبويه) الكناني والأصمعي والكسائي وهارون بن موسى، المُكَنَّى ب"النّحْوِي".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - لماذا التشتت وانت تكتب عن اللغة
خلف البهات ( 2021 / 7 / 15 - 13:34 )
مقال يفتقد التركيز علي موضوعها الاساسي وهو عنوان المقال : اللغة والمسالة القومية

اخر الافلام

.. ماذا نعرف عن انفجارات أصفهان حتى الآن؟


.. دوي انفجارات في إيران والإعلام الأمريكي يتحدث عن ضربة إسرائي




.. الهند: نحو مليار ناخب وأكثر من مليون مركز اقتراع.. انتخابات


.. غموض يكتنف طبيعة الرد الإسرائيلي على إيران




.. شرطة نيويورك تقتحم حرم جامعة كولومبيا وتعتقل طلابا محتجين عل