الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النيل و التطور الحضارى فى مصر (1)

عمرو إمام عمر

2021 / 7 / 16
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


من يعكف على دراسة التاريخ الإجتماعى لمصر لا يستطيع الفكاك فى أحيان كثيرة من النظرة الإستشراقية ، فخلال السنوات الماضية سيطرة فكرة الإستبداد الشرقى ، و فكرة نمط الإنتاج الخراجى إلا أن تلك الفكرة عابها قصوراً هو أن لكل مجتمع ظروفه الخاصة فى بناء بنيته الاقتصادية و الاجتماعية من حيث نمط الملكية و الانتاج ، بل إن نفس هذا المجتمع نلاحظ فيه تغيرات افرزتها تاثيرات داخلية فى أحيان و خارجية فى أحيان أخرى تؤثر فى حركة تطور القوى الاقتصادية و الاجتماعية التى تشكل شبكة من العلاقات الرأسية و الافقية و ما يرتبط بها من ممارسات تؤثر على تشكيل العلاقات الاجتماعية و تطور الحالة الأقتصادية و الثقافية ايضا ، و يقول الدكتور رؤوف عباس فى ذلك ”يقع قارئ تاريخ مصر فى حيرة من أمره ، فكأن السلطة السياسية فى مصر تغير صبغة البلاد ، فتبدوا للناظرين مختلفة تماما عنها قبلهم ، و كأن الإنسان المصرى يعيش و يتحرك و ينتج بقرار من الحاكم ، و وفق مشيئته ، و للأسف إمتدت هذه العدوى إلى كتاب السياسة فوجدناهم يقسمون مصر المعاصرة إلى مصر عبد الناصر ، و مصر السادات ، و مصر مبارك“(1) ، هذا يعتبر إلغاء للمجتمع المصرى و للإنسان و تاريخ بناءه لحضارته بتفاعله مع الطبيعة و قدرته على تطويعها له ، و العلاقة الجدلية التى استغرقت ما يزيد عن ستين قرناً من الزمان بينه و بين النيل و الأرض …

إن الغرض من دراسة التاريخ هو رصد و متابعة لحركة المجتمع و التطورات و التغيرات التى نشأت فيه من خلال بنيته التحتية و إنعكاستها على البنية الفوقية له ، و اثرها على التطورات الاجتماعية و السياسية و الأقتصادية ، فى الحالة المصرية نلاحظ إن نهر النيل كان له دورا هاما فى تشكيل البنية المجتمعية من الناحية الاقتصادية و السياسية و الثقافية ، فالبيئة المصرية فيضية فى الأساس تعتمد على الزراعة من خلال الرى الطبيعى و الصناعى – حفر الترع و المصارف - ، و بالتالى تختلف تماما عن البيئات المطرية خاصة فى جانب الإستقرار المكانى لتشكل حياة المجتمع النهرى حيث يستمر العمل فى الأرض على مدار العام على العكس من البيئات المطرية التى يتوقف فيها العمل بالزراعة فى فترات الجفاف و تكون معرضة للتقلبات المناخية ، فهى فى الغالب تكون تحت رحمة الطبيعة ، على العكس من البيئة النهرية خاصة فى مصر ، فنهر النيل يشق اراضى صحراوية ، و بالتالى فهو يحتاج إلى عمل دائم لشق الترع و المصارف و إعداد الأرض للزراعة و حمايتها من الفيضان ، اى انها تحتاج إلى جهد بشرى جماعى ضخم حتى تكون الأرض مستعدة لزراعتها ، كذلك عملية ضبط و تنظيم الرى حتى لا يساء استخدامه أو احتكاره أو تتحول الحياة إلى ما يقرب من قانون الغاب ، و قد وصفها الدكتور جمال حمدان قائلا ”فى ظل هذا الإطار الطبيعى يصبح التنظيم الإجتماعى شرطا اساسيا للحياة ، و يتحتم على الجميع أن يتنازل طواعية عن كثير من حريته ، اخضع لسلطة أعلى توزع العدل و الماء بين الجميع ، سلطة عامة أقوى بكثير مما يمكن أن تتطلبه بيئة لا تعتمد نهر فيضى فى حياتها و مصيرها“(2).

على هذا لم تعد الطبيعة وحدها هى السلطة المتحكمة و المسيطرة ، فكان لابد من التنظيم المجتمعى الذى بدأ فى عصور ما قبل الدولة ليأخذ شكلاً بدائياً بأتفاقيات بسيطة بين المجتمعات المتكونة على جوانب النهر إلا أن تلك الإتفاقيات كثيرا ما كان يتم تجاهلها لتنشب النزاعات و التقاتل بين القرى ، و لكن مع تطور المجتمعات و نموها و بدأ عصر تشكيل الدولة التى أخذت تلعب دور الوسيط بين الإنسان و البيئة و وصياً على العلاقة بينهما ، لتصبح هى أداة التكامل الأيكولوجى بين البيئة و الإنسان لتكون عاملاً جغرافيا مضافاً للمكان ؛ هذا فضلا عن إن البيئات النهرية الفيضية دائما ما تكون مطمعاً من الرعاة البدو ، و هذا يستدعى تنظيماً سياسياً لتنظيم الدفاع ضد الغزوات الرعوية ، لذا أتخذت الحكومة المركزية دورا هاما فى الحفاظ على تماسك المجتمع ، هذا التنظيم لم نراه فى مصر فقط و لكن فى العراق و آشور و فارس و فينيقيا و اليونان و روما ، فالطبيعة الجغرافية مسئولة عن هذا التنظيم ، لذا سنجد إن المجتمعات النهرية فى كل من مصر و العراق سادها حكم مركزى مطلق ، كذلك فى فارس و آشور بسبب الطبيعة الجبلية ، بينما فى المجتمعات الغير نهرية السهلية المطيرة مثل فينيقيا و روما و اليونان سادها حكم غير مطلق …

عكف المفكر الألمانى كارل فدفوجل على دراسة البلدان الشرقية و أنظمتها السياسية و الأقتصادية أعتمد فيه على التحليل الماركسى للتاريخ ليصدر كتابا ضخما صدر عام 1957 بعنوان ”الاستبداد الشرقى دراسة مقارنة‌ للسلطة المطلقة“ ، لاحظ فدفوجل إن حضارات الشرق مصر ، الشام ، العراق ، فارس و كذلك كل من الهند و الصين سادها ما أطلق عليه الأستبداد الشرقى أو الآسيوى ، و تظهر فى القوى الإستبدادية للحكام و للسلطة السياسية و الدينية ، لكن تلك النظرة الإستشراقية تجاهلت طبيعة البيئة النهرية مثلا بدون قوة سياسية تستطيع تنظيم و ظبط الزراعات و توزيع المياه ، و حفر الترع و المصارف و تنظيم الأحواض ، سيتحول النهر من جالب للخير إلى شلالات دموية نظرا للنازاعات التى ستقوم بين المزارعين على أحقية المياه ، و هذا نراه فى الوثائق القديمة من كثرة النزاعات و التقاضى على المياه ، و إنتشار فكرة الأخذ بالثأر نتيجة لذلك ، و يؤكد شيخنا رفاعة رافع الطهطاوى فيذكر أن فى عهد ضعف حكم المماليك ، حدث نوع من التفكك و التضارب السياسى فيقول ”كان فى ايامهم لكل قسم ، و كل قرية ترع و جسور خصوصية لا ينتفع من السقى إلا أهاليها ، و لم يكن بينهم روابط عمومية ، فكان أصحاب الأراضى و المزارعون لها المجاورون شطوط الماء ، يحتكرون الرى و السقى ، و يختلسون من المياه ما هو قريب منهم ، و يمنعون الأراضى البعيدة عن ذلك ، مع كونها لها حق مشاركتهم فى المياه عند الفيضان ، فكان ينشأ من هذا ما لا مزيد عليه من عداوة قرية لأخرى ، و ربما ترتب على ذلك القتال و سفك الدماء“(3) ، لذا فكان التنظيم شرط أساسى للحياة و يتحتم على الجميع الخضوع لسلطة اعلى منهم توزع العدل والمياه بين الجميع …

عصور ما قبل الأسرات

كانت مصر مختلفة تماما عما كانت عليه اليوم ، فظهور الإنسان فى مصر على حسب الدراسات التى بدأت من نهايات القرن التاسع عشر ، خصوصا ما توصل إليه العالم الألمانى شفينفورت إلى وجود عدة محطات تاريخية ترجع إلى عصر ما قبل التاريخ المصرى أى إلى عهود جيولوجية سحيقة أى قبل أن يظهر الإنسان و هو موضوع طويل و شاق ، لكن بشكل مختصر إن القشرة الأرضية فى مصر تتكون من ثلاث طبقات متتابعة بعضها فوق بعض ، لكن ما يهمنا حاليا إن هيكل مصر الفراعونية تكون فى نهايات العصر الجيولوجى الثالث و بدايات العصر الجيولوجى الرابع ، حيث شكلت العوامل الجوية و التغيرات الأرضية سطح هضبة وادى النيل بشكل قريب مما نراه اليوم ، و خلال العصر النيوليتى بدأت تتشكل المدن فى الوجه القبلى و البحرى على جابنى النهر ، و كانت قرى أو مدن هذا العصر تتشكل مساكنها من أكواخ بيضاوية مصنوعة من البوص و الأخشاب و الطين و تدل الآثار المكتشفة أن تلك المساكن كانت تحتوى على حصير و اسرة من الأخشاب و وسائد من القماش أو الجلد محشوة بالقش ، كذلك عثر على منازل مستطيلة الشكل خصوصا فى الوجه البحرى ، كان من أهم الظواهر البارزة فى عصر ما قبل الأسرات هو أكتشاف معدن النحاس و استعماله فى مرافق الحياة ، كذلك ظهر الحديد و الذهب و الفضة و إن كانت الأخيرة نادرة ، كذلك ظهرت صناعة النسيج و قد أخذت فى النمو و التقدم خاصة مع أكتشاف المعادن و القدرة على استخدمها فى صنع الآلات ، كذلك صناعة الجلود و إن كانت أقدم من صناعة النسيج فهى ظهرت فى نهايات العصر الحجرى …

للأسف الشديد المعلومات عن عصور ما قبل الأسرات شحيحة للغاية خاصة عن ملوك تلك الفترة ، فلم نعثر إلا عن أسماء تسعة من الملوك اللذين سبقوا الملك مينا فى الدلتا ، و قد وجدت اسماؤهم محفورة على قطعة من الحجر يرجع تاريخها إلى الأسرة الخامسة و هى محفوظة فى متحف بلرمو بصقلية ، كذلك عثر على اربع قطع حجرية اخرى عليها نفس المعلومات و هى محفوظة الآن فى المتحف المصرى ، فى تلك الأحجار دونت أسماء هؤلاء الملوك و ملخص لأهم الحوادث فى عصر كل منهم ، و يعتبر هذا الأثر من أهم الآثار المكتشفة التى عرفتنا بعصور ما قبل الأسرات …

نهر النيل عند الفراعنة له مكانة بارزة فهو الضلع الرئيسى فى مثلث الحياة المكون من الشمس و الأرض و النهر ، لذا لم يكن من المصادفة أن تعطى الميثولوجيا المصرية القديمة مكانا بارزا للنيل فهو الأله حابى حامى النيل جالب السعادة واهب الحياة ، كانوا يمثلونه على شكل شخص عريض الجسم لونه خليط ما بين الأخضر و الأزرق ، يأتى فى وقت الفيضان ليقذفون له الكعك و حيوانات الضحية و الفاكهة ، و تماثيل الإناث لإثارة أخصاب النيل ليفيض فى أمواج متتالية لتعطى الحياة لساكنى جنباته ، و الأله رع المجسد فى الشمس واهب كل أشكال الحياة ، و أبيس إله خصوبة الأرض و يتمثل على هيئة عجل ، فى نفس الوقت تحول فرعون إلى الملك الأله ، فهو ضابط النهر ، و كان يلقب بنيسوت – بيتى أى صاحب النبات ، فالسلطة الحاكمة هى التى كانت تتعهد بحسن الإدراة المائية و ضبط و تطهير الترع و بناء الجسور و القناطر ، و هذا ما عبر عنه الطهطاوى قائلا ”و ليس فى ممالك الدنيا لصاحبها النفوذ الحقيقى على الزراعة و الفلاحة إلا صاحب مصر ، فإنه لا يجد فى إهمالها فلاحة ، و بقدر نفوذه على إدارة الزراعة يمكون له النفوذ على الأهالى ، و أما فى غير مصر من البلاد التى ريها بالمطر فليس للحكومة عليها و لا على قلوب أهلها قسط كبير من التسلط“(4) …

أما عن المجتمع فهو فى غالبه مجتمعا تعاونيا لا يعرف الفردية و يدرك قيمة العمل الجماعى المنسق ، فمصلحة وجوده مرهونة بالتكافل و التضامن الجماعى ، و من هنا نرى فى القربة المصرية فى صميم تركيبها و سيكولوجيتها قدرا كبير من التعاونية والمشاركة التلقائية ، على العكس من أوروبا مثلا حيث نرى أن ريفها عبارة عن قلاع أقليمية ترمز للصراع الدامى بين البشر ، بينما على العكس فى مصر فقلعة القرية المصرية هى الإنسان نفسه فى صراعه مع الطبيعة ، و رمزا إلى تجمع طاقة و عنفوان الإنسان لترويض الطبيعة و جعلها تعمل فى خدمته لا ضد الإنسان ، و هذا كنا نراه عند مواجهة فيضان النيل من تكاتف القرى على كل جوانب النهر لتتحد فى حقيقة واقعة دفاعا عن الوجود ...





____________________________________________________
هوامش

1) دكتور رؤوف عباس كتابة التاريخ فى مصر إلى أين صـ 11
2) جمال حمدان – شخصية مصر الجزء الثالث صـ 23
3) رفاعة رافع الطهطاوى – مناهج الألباب المصرية فى مباهج الآداب العصرية صـ 203
4) رفاعة رافع الطهطاوى – مناهج الألباب المصرية فى مباهج الآداب العصرية صـ 202




المصادر

• دكتور سليم حسن – موسوعة مصر القديمة ، فى عصر ما قبل التاريخ إلى نهاية العصر الإهناسى (الجزء الأول) – مؤسسة هنداوى للتعليم و الثقافة – طبعة إليكترونية 2012
• دكتور رؤوف عباس – كتابة التاريخ فى مصر إلى اين ؟ (أزمة المنهج و رؤى نقدية) – طبعة إليكترونية 2015
• دكتور جمال حمدان – مختارات من شخصية مصر (3) – مكتبة مدبولى – الطبعة الأولى 1996
• Karl August Wittfogel. Oriental Despotism: A Comparative Study of Total Power. New Haven, USA: Yale University Press. 1957
• رفاعة رافع الطهطاوى – مناهج الألباب المصرية فى مباهج الآداب العصرية ، مؤسسة هنداوى للتعليم و الثقافة – طبعة إليكترونية 2017
• أمين سامى باشا – تقويم النيل (المجلد الأول) – المطبعة الأميرية بالقاهرة 1916








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هجوم إسرائيل -المحدود- داخل إيران.. هل يأتي مقابل سماح واشنط


.. الرد والرد المضاد.. كيف تلعب إيران وإسرائيل بأعصاب العالم؟ و




.. روايات متضاربة حول مصدر الضربة الإسرائيلية لإيران تتحول لماد


.. بودكاست تك كاست | تسريبات وشائعات المنتجات.. الشركات تجس الن




.. إسرائيل تستهدف إيران…فماذا يوجد في اصفهان؟ | #التاسعة