الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مكانة سورية في الاستراتيجية الروسية للشرق الأوسط (2 - 2)

عبدالله تركماني

2021 / 7 / 17
مواضيع وابحاث سياسية


ثانياً: الدوافع الروسية للتدخل العسكري في سورية
(4) – محاربة إرهابيي الاتحاد الروسي في سورية
شكلت الحرب على الإرهاب العنوان الأبرز في الاستراتيجية الروسية للتدخل في سورية، بعدما أدركت روسيا أن ثلث أعداد الإرهابيين، الغرباء الذين انضموا إلى الدولة الإسلامية " داعش " وعددهم ثلاثون ألفاً، هم من الاتحاد الروسي أو من دول وسط آسيا. واعتبرت هذه القيادة أن " أفضل سياسة دفاعية يمكن أن تعتمدها ضد هؤلاء الإرهابيين تتركز على مقاتلتهم والتخلص منهم قبل عودتهم إلى ديارهم " (18). وتسعى موسكو إلى بقاء هؤلاء الإسلاميين (شيشان وطاجيك وأوزبيك وتركمان) في سورية يقاتلون فيها، ولكن من دون تحقيق انتصار على النظام. إذ " يخدم غرق هؤلاء في المستنقع السوري المصالح الروسية في ظلّ مخاوف موسكو من التطرف والإرهاب في الجمهوريات الإسلامية القريبة منها " (19).
(5) – تسويق السلاح الروسي
كشف الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، خلال فعالية " الخط المباشر " مع المواطنين، في 14 حزيران/يونيو 2017، عن أن العملية العسكرية الروسية في سورية أتاحت اختبار أحدث الأسلحة والمعدات العسكرية في ظروف القتال. إذ قال " هناك نفع كبير على مجمّعنا الدفاعي الصناعي. أتاح استخدام أحدث نماذج الأسلحة فهم كيفية عملها في ظروف القتال، وإدخال التعديلات اللازمة على جودة أحدث نظم الأسلحة ". وأضاف " يمكن القول إن خبرة استخدام قواتنا المسلحة في ظروف القتال، وباستخدام أحدث الأسلحة، لها قيمة كبيرة جداً من دون أية مبالغة " (20).
كما كشف رئيس لجنة مجلس الدوما لشؤون الدفاع، فلاديمير شامانوف، أن بلاده اختبرت أكثر من 200 سلاح جديد في سورية. حيث قال " إن روسيا أظهرت للعالم بأسره فعالية المجمّع الصناعي العسكري، من خلال اختبار أكثر من 200 سلاح جديد في سورية "، قبل أن " يفتخر " بأن ذلك " ساهم في زيادة مبيعات روسيا من السلاح، حتى من قبل بلدان ليست حليفة " (21). وسبق للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أن صرح، بدوره، بأن " الاستخدام الفعال " للأسلحة الروسية في سورية ساهم في تزايد إقبال دول العالم على شراء الأسلحة الروسية. وبحلول بداية عام 2018، بلغت حقيبة طلبيات شركة " روس أوبورون إكسبورت " الروسية لتصدير الأسلحة أكثر من 50 مليار دولار، وسط استقرار معدلات الصادرات الفعلية عند مستوى 15 مليار دولار سنوياً. وفي هذا السياق " تعمل وزارة الدفاع الروسية على إبرام صفقات ضخمة مع دول الخليج العربية، في مجال تطوير سلاح البحرية ونظم الدفاع الجوي وتقنيات الدفاع الجوي بدون طيار، فضلاً عن العربات المدرعة وأنظمة الإشارة " (22). مما يتطلب صياغة تحالفات أمنية، ووجوداً دائماً في شرقي البحر الأبيض المتوسط.
ثالثاً: توظيف موقع سورية في الاستراتيجية الروسية للشرق الأوسط
تدفع روسيا إلى الانخراط المسبق في رسم الحدود الجديدة للشرق الأوسط الجديد في القرن الحادي والعشرين، من خلال وجودها في سورية. وتُعَدُّ منطقة الساحل السوري نقطة انطلاق للاستراتيجية الروسية في الشرق الأوسط، فلموسكو قلق وهواجس من دور تركيا في شمال سورية، لانعكاساته المحتملة على استراتيجيتها البحرية في شرق البحر الأبيض المتوسط. وموسكو مهتمة بالتطبيقات الجيوسياسية للجغرافية السورية التي تشكل " مسرحاً استراتيجياً " يؤثر في قضايا حيوية عديدة للنظامين الدولي والإقليمي: الصراع العربي - الإسرائيلي، القضية الكردية، الصراع السني - الشيعي، أنابيب النفط والغاز، أمن الخليج.
لقد جاء كتاب " ماذا تريد روسيا في الشرق الأوسط؟ " ليؤكد أن الحرب الأهلية السورية " تعتبر مرحلة فاصلة في التاريخ المعاصر للشرق الأوسط، بقدر ما كان غزو العراق الذي قادته الولايات المتحدة في 2003 حدثاً مفصلياً أيضاً أثر بقوة على تدافعات وتحولات المشهد اللاحق، منوّهاً إلى أن الحرب في سورية، مثل الحرب العراقية، كانت لها هي أيضاً تداعيات عالمية كبيرة ". وأشار إلى أنه في أوروبا، تعتبر روسيا قوة رجعية تسعى إلى الثأر للهزيمة السوفييتية أثناء الحرب الباردة. وفي الشرق الأوسط، تعتبر روسيا قوة الوضع الراهن، وإن كانت متقلبة، فقد تعلمت من هزيمتها في أفغانستان " أن تتعامل مع التحالفات والانحيازات في هذا الجزء من العالم باعتبارها مواقف تكتيكية بصورة أساسية ومن السهل تحولها، فلا أصدقاء دائمون ولا أعداء مؤبدون " (23).
كما حذر مركز " ويلسون " الأميركي للأبحاث على موقعه الإلكتروني في خلاصة الحلقة النقاشية التي شارك فيها 12 محللاً ودبلوماسياً من الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل وروسيا، في أوائل أيار/مايو الماضي، من تصاعد خطر الدور الروسي المتزايد في منطقة الشرق الأوسط. وجرى الحديث عن أن روسيا " أصبحت عاملاً أساسياً في سورية وليبيا وشريكاً لإيران، وشريكاً لطموحات مصر العسكرية، ومحاوراً لدول الخليج وبخاصة الإمارات العربية المتحدة والسعودية، وكذلك محاوراً لإسرائيل والحكومة الأفغانية وحركة طالبان والفلسطينيين وغير ذلك من الكيانات السياسية. كما أصبحت روسيا عنصراً في الأزمة اليمنية ووسعت مصالحها في شمال أفريقيا ". ومع ذلك، ما زالت " أبعد من أن تكون قد شكلت نظاماً إقليمياً من تصميمها في المنطقة ".
وعلى ضوء الانسحاب الأميركي الواضح من الإدارة اليومية لأزمات الشرق الأوسط وانحسار رغبة واشنطن في أي دور قيادي مباشر في هذه الملفات والاكتفاء بالإدارة عن بعد، وجدت موسكو أن الفرصة مهيّأة لها لإمساك زمام الأمور، وملء الفراغ، والإقدام بشراسة من أجل حياكة القيادة الروسية في منطقة الشرق الأوسط برمتها. وإذ كانت الولايات المتحدة قد تبنّت " الفوضى الخلّاقة " وسيلة لإحداث التغيير في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فإن روسيا تستثمر في رغبة الولايات المتحدة بفكرة " التفاهمات الخلّاقة " و" الترتيبات الخلّاقة " (24).
وفي الواقع لم تكن موسكو في يوم من الأيام غير مهتمة بمنطقة الشرق الأوسط، بل " سعت بكل ثقلها لتكون طرفاً فاعلاً في أزماتها ومشاريع حلولها ماضياً ومستقبلاً، بل ظلت المنطقة باباً رئيسياً لعودتها للنظام العالمي " (25). لكن مراقبة السلوكين السياسي والعسكري الحاليين، يشيران إلى جملة من الأسئلة التي ينبغي التوقف عندها، ومن بينها، هل تعتبر موسكو أن ظروف المنطقة مناسبة لهذه الاندفاعة؟ وهل بمقدورها حالياً الوصول إلى أهداف محددة عجزت عن تحقيقها خلال العقدين المنصرمين مثلاً؟ وهل ثمة فك وربط بين ما يجري في شرقي أوروبا، وتحديداً في البلقان، وما يجري في الشرق الأوسط؟
على المستوى الإقليمي، فإن روسيا تختبر إمكانية إعادة بناء تحالف واسع في الشرق الأوسط بعد غياب طويل. إن الوجود الروسي الجديد في سورية يبعث بإشارة قوية إلى بغداد، بأن روسيا قد عادت مرة أخرى إلى الشرق الأوسط وعلى استعداد لبناء تحالفات جديدة. وتأتي مصر كمحور ثالث للعلاقات المميزة مع روسيا. وعلى رغم أن الجيش المصري لا يزال يحصل على معظم العتاد العسكري من الولايات المتحدة الأميركية، إلا أن من الواضح أن وجهات نظر الرئيسين عبد الفتاح السيسي وبوتين تتوافق حول عدد كبير من القضايا السياسية والأمنية. وإذا نجحت روسيا في مساعيها، تكون قد " أعادت بناء تحالف يشبه التحالف السوفياتي القديم الذي شمل دمشق والقاهرة وبغداد، بل زادت عليه طهران التي كانت في الحرب الباردة حليفاً لأميركا " (26)، بهدف إنشاء منظومة إقليمية جديدة. ففي مقابلة مع موقع RT الروسي، في 2 تشرين الأول/أكتوبر 2015، أكد الفريق سيرغي كورالينكو ممثل روسيا في المركز الإعلامي ببغداد: إن المهمة الأساسية للمركز تتمثل في " جمع وتحليل ومعالجة وتبادل المعلومات الجارية حول الوضع في منطقة الشرق الأوسط "، وأضاف قائلاً " أود التأكيد على أن هذا المركز المعلوماتي لا يعتبر مقتصراً على الأطراف الأربعة فقط، وإنما نأمل أن ينضم إلى عملنا دول أخرى، والتي لها مصلحة في القضاء على داعش " (27)، وذلك في إشارة واضحة إلى تعاون المركز الإعلامي مع رئاسة الأركان الإسرائيلية، وإمكانية انضمام إسرائيل إلى هذا التحالف. وبذلك يتضح أن هدف روسيا هو ملئ " الفراغ الغربي " من جهة، وضرب العزلة على تركيا والمملكة العربية السعودية في ذلك الوقت (2015).
إن ما يهم روسيا هو أن أمامها فرصة تاريخية لنحت جغرافيا جديدة لدورها السياسي في الشرق الأوسط عبر سورية، إنها في صدد بناء محور أو محاور في الشرق الأوسط بقيادة روسية. وهي " تريد أن تقود تسويات سياسية لأزمات الشرق الأوسط وفق الشروط الروسية بدءاً ببقاء نظام بشار الأسد في السلطة " (28).
ويُمكن إدراج إطلاق البحرية الروسية 26 صاروخاً من أربع سفن من بحر قزوين، لتُحدّد بالتالي روسيا " خريطتها الجديدة " من بحر قزوين إلى البحر المتوسط، وما بينهما من إيران والعراق وسورية ولبنان، " مدى حيوياً لها ". وذلك بصورة مشابهة لارتباط شبه جزيرة القرم وشرق أوكرانيا بالأراضي الروسية (29). وتتعلق هذه الرسالة بتفكير الكرملين عن " عَظَمَة " روسيا عالمياً، وسعيه إلى تثبيت هذا النفوذ. وفي تحليق الصواريخ الروسية فوق المجالين الجويين، الايراني والعراقي، تأكيد على " أوليّة الروسي " في تراتبية محور جديد، كانت روسيا تطمح كي يتشكّل ميدانياً.
فبعد خسارة مواقعها في المنطقة، في المشرق العربي ومصر واليمن ودول أخرى " تعود روسيا في زمن تهالك النظام الإقليمي العربي والفراغ الذي أحدثته السياسة الأميركية المتعثرة. وتأتي عودة روسيا بالتحالف مع إيران التي بدأت تطبيع علاقاتها مع المجتمع الدولي (بعد اتفاق 5+1 في عام 2015)، وبعدما أحرقت تركيا أوراقها مع الاطراف جميعها، في العالم العربي، لا سيما مصر، وأوروبا، وحتى إسرائيل " (30).
إن روسيا تتعاون مع القوى الإقليمية الفاعلة في الشرق الأوسط لتحقيق مكاسب في المنطقة على المدى القصير، حيث أن مصالحها لا تتفق مع مصالح هذه الدول على المدى الطويل. وهنا " تعمل موسكو على إقامة توازن بين هذه القوى الإقليمية حتى لا تنفرد أي منها في كسب تأثير كبير بالمنطقة ". استراتيجية موسكو في الشرق الأوسط هي البقاء أقرب لجميع اللاعبين أكثر من قربهم من بعضهم بعضاً. روسيا تتبع هذه الاستراتيجية لا لأنها تريد أن تكون قائداً رئيسياً في المنطقة، بل لـ " تكسب أكبر مقدار ممكن من التأثير، ما يسمح لها بعرض التعاون على واشنطن في الشرق الأوسط مقابل تنازلات في مناطق أخرى، في أوكرانيا مثلاً. إذا رفضت واشنطن عرض موسكو للتعاون، فإن روسيا، على الأقل، ستكون قد جعلت الوضع أكثر صعوبة بالنسبة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وأبقتها أكثر تشتتاً وتعثراً ".
ومن ناحية أخرى، يبدو أن روسيا تحاول المناورة بين المطالب الاسرائيلية، الرافضة للتمدد الإيراني في سورية، وبين ضرورة التعاون مع طهران، وذلك من خلال تقديم وعود متضاربة لكل جانب. ويبقى السيناريو الغامض تجاه التمدد الإيراني في سورية هو ردة فعل إسرائيل. ومن وجهة النظر الإسرائيلية، ربما تكون روسيا هي " القوة الأكثر تأثيراً للمساهمة في احتواء إيران ضمن الحدود المقبولة لإسرائيل في سورية " (31).
وثمة من يعتقد أن هناك توافقاً أميركياً – روسياً، في عهد إدارة أوباما، على الترتيبات الجديدة في الشرق الأوسط، إذ إن أوباما " لم ينجح في شيء قدر نجاحه في دفع الشرق الأوسط للسقوط في أحضان الروس والفرس "، أي أن الشرق الأوسط " يدخل العصر الروسي بقرار ثنائي أميركي – روسي، بهدف تقاسم النفوذ في المنطقة، كما فعلت بريطانيا وفرنسا في بدايات القرن العشرين " (32).
ولكن في الواقع، ثمة نظامان إقليميان رئيسيان يتنافسان، ويمكن أن يتقاسما الشرق الأوسط (33): أولهما، النظام المعتاد والقائم على استمرار الهيمنة الغربية الأميركية. وثانيهما، ما يمكن أن نسميه بسلام بوتين. ويعرض بوتين الآن على المنطقة بديلاً من (منظومة السلام الأميركي)، على أساس ترسيخ دور روسيا كوسيط عسكري. ومن خلال هذا المنهج، يحاول إثبات قدرة الدبلوماسية العسكرية الروسية على أن تصبح روسيا القوة المهيمنة الوحيدة الحاذقة في المنطقة. روسيا " تريد ملء الفراغ الذي تعتقد أن الفراغ الأميركي والأوروبي خلّفه ".
وبالعودة إلى كتاب ديمتري ترينين نرى أن موسكو " لم تحلّْ أيضاً محلّ واشنطن كقوة فاعلة أساسية أو مزود رئيس للأمن في الشرق الأوسط، وليست لديها رغبة ولا موارد ولا نية للاضطلاع بذلك الدور. ولكن ما فعلته هو مجرد قطيعة مع حالة ما بعد الاتحاد السوفييتي بالانكفاء على حدودها الاستعمارية السابقة والغياب بشكل كبير عن بقية العالم " (34).
ويبدو أن احتمالات التقارب الأمريكي - الإيراني، بعد اتفاق (5+1) في عام 2015، كان لها أثر على تحريك الموقف الروسي، إذ " بدت أميركا بصدد إعادة صياغة علاقاتها مع إيران التي يتداخل فيها الاقتصاد والسياسة بدرجة كبيرة ". وذلك لأن موسكو " تدرك أنّ قدرتها على التأثير بالنظام السوري ومصيره هي عامل متغيّر يخضع لشروط علاقة طهران وواشنطن، إذ في ظل تحوّل الصراع إلى النمط الطائفي يصبح لإيران اليد العليا في التأثير على النظام السوري " (35).
بالنسبة إلى إيران، سعت روسيا، منذ تولّي فلاديمير بوتين مقاليد السلطة في موسكو عام 2000، إلى تثبيت حلفاء في مواقع مختلفة كمناطق عازلة، ضد النفوذ الأميركي في العالم. ووفق هذا التصوّر " احتلت إيران مكانتها لدى موسكو، باعتبارها شريكاً لروسيا في منطقة الشرق الأوسط والخليج وآسيا الوسطى، بحيث يحقق المحور الجنوبي لروسيا الخروج إلى المياه الدافئة عبر الخليج العربي، وهو هدف ظلت موسكو قروناً طويلة تسعى إليه ولا تتمكن من تحقيقه ". والحال هذه، فروسيا التي تضم أكثر من 25 مليون نسمة من المسلمين السنة المنحدرين من الأرومة التركية " تعمل على التعاون إسلامياً مع طهران، كما تتعاون معها بوصفها مخفراً متقدماً في وجه النفوذ الأميركي المتغلغل على مقربة من روسيا، سواء أفغانستان أو الخليج العربي ".
كما تحرص موسكو على الإفادة المثلى من البوابة الإيرانية إلى الشرق الأوسط، وتقوم بمهام حراسة لهذه البوابة في المحافل الدولية. فالأمر الذي تفهمه موسكو جيداً، هو أنه من دون موافقة إيران أو من دون مشاركتها، فإن " الحصول على نتائج مهمة في الشرق الأوسط ليس بالأمر السهل، كما أن التوصل إلى حلول لكثير من القضايا، سيكون أمراً غير ممكن (36).
أما بالنسبة إلى تركيا، فقد أجبر التدخل الروسي في سورية أنقرة على التقارب مع موسكو لاحتواء أزمة إسقاط طائرة روسية من قبل مقاتلة تركية، وإلى تطوير العلاقات من أجل تحقيق مزيد من التعاون الديبلوماسي في مؤتمر آستانة الذي أدى إلى إنشاء مناطق " خفض التوتر " في سورية بمشاركة تركية فاعلة. كما " وجد الطرفان في ظل الوقائع القائمة على الأرض، أن هناك ضرورة عسكرية واستراتيجية لتوسيع التعاون ومنع أي خلل قد يضر بالمصالح الاستراتيجية والاقتصادية لكل منهما " (37). ولكن سورية في الجيوسياسية الروسية هي منطقة لكسر الرغبة التركيّة (جارتها على البحر الأسود) في إنشاء منطقة عازلة شمالي سورية، وهذا ما لا ترضاه روسيا التي تستغل الورقة الكُرديّة للضغط على تركيا.
بالنسبة لإسرائيل، فإن التواصل مع روسيا، يتيح لإسرائيل تحقيق نجاحات على صعيد تقليص القدرات العسكرية لإيران في سورية، مع تأثير روسي محدود على العمليات الإسرائيلية في الأراضي السورية. وتحتاج إسرائيل إلى المحافظة على تواصلها مع روسيا لتأمين هذه الأهداف العليا. فقد أشار مدير مركز " ديان لدراسات الشرق الأوسط " التابع لجامعة تل أبيب، إيال زيسر، إلى أن " التدخل الروسي المباشر، لا يمسّ بإسرائيل ولا يعني مساعدة إيران على تحويل سورية إلى نقطة انطلاق للعمل ضد إسرائيل " (38).
وخلال عشر سنوات من الحرب الأهلية السورية ضمنت روسيا مصالحها الأمنية والاستراتيجية في سورية، واستطاعت إسرائيل بلورة تفاهمات مع روسيا للحفاظ على مصالحها الأمنية هي أيضاً، وأسهمت روسيا في تمكينها من ضمان هذا الأمن بيسر، على الرغم من أنها كانت تدّعي أنها لا ترسم استراتيجياتها بناء على المصالح الإسرائيلية، كما حرصت روسيا على الحفاظ على توازن المصالح بينها وبين إسرائيل، التي تعتبرها قوة إقليمية لا بدَّ من أخذ مصالحها في الحسبان.
وإزاء كل ما ذكرناه قد تصبح منطقة الشرق الأوسط ساحة لصراعات أكبر وأكثر خطورة، تهدد السلم والأمن الدوليين، وربما تقود في وقت لاحق إلى مواجهة روسية - غربية.
خاتمة
السلوك الروسي، في سياق الأزمة السورية، تعرّض لامتحانات عدة، ولم تكن النتائج إيجابية، بحيث يظهر أن ما تمارسه الديبلوماسية الروسية يمثل استراتيجية وليس تكتيكات سياسية، كما بدت واضحة محاولات توظيف الأزمة السورية في سياق صراع المصالح والنفوذ الذي تخوضه مع الغرب. وتكمن الإشكالية - في هذا الإطار - في حقيقة أنّ حزمة المطالب التي ترفعها روسيا، في مواجهة منافسيها وخصومها، كبيرة تشمل مكانتها الميدانية في منطقة الشرق الأوسط ومكانتها السياسية ونفوذها في مجلس الأمن، وكذلك علاقاتها الثنائية مع الولايات المتحدة الأميركية، وتسعى لإبرام معاهدة شراكة استراتيجية مع الاتحاد الأوروبي تشمل إلغاء تأشيرات الدخول لمواطنيها، وكذلك منحها تسهيلات إضافية في إطار منظمة التجارة الدولية، أو تخفيف الدعم الغربي للحركة الاحتجاجية في روسيا.
ومن جهة أخرى كيف بمقدور موسكو أن تسوّي الصلف الإيراني تجاه دول الخليج العربية وعلى رأسها السعودية التي باتت تتعرض يومياً لمقذوفات من الحوثيين في اليمن المدعومين والمسلحين من إيران؟ وأيُّ نظام أمني للشرق الأوسط وفق مبادئ مؤتمر هلسنكي للأمن، قابل للتطبيق وسط هذه التهديدات، وقبل أن تقتنع طهران بأنها دولة وليست ثورة مستمرة للتصدير؟ أيُّ نظام أمني إقليمي مع إمعان طهران بابتزاز العالم يومياً عبر تهديداتها بالحصول على قدرات نووية؟
وفي مقلب آخر، هل من عاقل يعتقد أن موسكو قادرة على إقناع إسرائيل بأن تُقْدم على سلام مع نظام يتهاوى ويتعكز للاستمرار كواجهة نتيجة للدعم الإيراني والروسي المتقاطع المصالح؟ هذا علماً بأن موسكو لم تنجح حتى الآن في تهدئة تل أبيب وتطمينها من مخاطر السلاح الإيراني عليها في سورية بعد أكثر من سنتين على وعودها الخائبة؟
وفي الواقع ليس الوجود العسكري الروسي في طرطوس أو مطار اللاذقية يشكل تهديداً للغرب، وبوتين يعرف جيداً أنّ روسيا ليست تهديداً جدياً في البحر المتوسط لأنّ مرفأ طرطوس الوحيد لها فيه يمكن منع الوصول إليه من المنفذين الوحيدين له وهما الدردنيل والبوسفور التركيين ومضيق جبل طارق. ويعرف أيضاً أنّ وجوده البحري في المتوسط لا يستطيع أن يواجه بفاعلية الوجود الأميركي المماثل كما وجود بحرية حلف " الناتو".
الهوامش
18 - نيكيتا سوغولوف (معهد واشنطن): الأهداف الطاقوية لروسيا في سورية – عن موقع " كلنا شركاء في الوطن " 2 أيلول/سبتمبر 2017.
19 - نزار عبد القادر: الاستراتيجية الروسية في سورية، المرجع السابق.
20 - خيرالله خيرالله: من العبث السوفياتي... إلى العبث الروسي في سورية – صحيفة " الرأي "، الكويت 17 أيلول/سبتمبر 2015.
21 - موسكو: خطط بوتين في سورية.. تسوية وانسحاب إلى طرطوس وحميميم – صحيفة " العربي الجديد "، لندن 15 حزيران/يونيو 2017.
22 – موسكو: روسيا اختبرت 200 سلاح جديد في سورية.. تسويق على جثث السوريين – صحيفة " العربي الجديد "، لندن 22 شباط/فبراير 2018.
23 - د. بشير زين العابدين: التدخل الروسي في سورية.. المخاطر والفرص الكامنة، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، ص 6.
24 - وائل بدران: روسيا وأهداف التدخل في سورية – صحيفة " الاتحاد " الإماراتية، 8 كانون الأول/ديسمبر 2017 (الكتاب: ماذا تريد روسيا في الشرق الأوسط؟ - المؤلف: ديميتري ترينين (رئيس مركز " كارنيغي " للسلام الدولي في موسكو)، الناشر: بوليتي 2017).
25 - أوردتها راغدة درغام: روسيا.. الترتيبات الخلاّقة بعد الفوضى – صحيفة " الحياة "، لندن 11 أيلول/سبتمبر 2015.
26 - د. خليل حسين: روسيا والعودة العسكرية للشرق الأوسط – صحيفة " الخليج " الإماراتية، 12 أيلول/سبتمبر 2015.
27 - بول سالم: أبعاد التصعيد الروسي في سورية وتداعياته – صحيفة " الحياة "، لندن 18 أيلول/سبتمبر 2015.
28 - د. بشير زين العابدين: التدخل الروسي في سورية..، المرجع السابق، ص 3 و9.
29 - راغدة درغام: هدف موسكو فرض التسويات في المنطقة بشروطها – صحيفة " الحياة "، لندن 9 تشرين الأول/أكتوبر 2015.
30 - بيار عقيقي: رسائل قزوين الروسية...، المرجع السابق.
31 - فريد الخازن: عودة روسيا المدوّية – صحيفة " السفير "، بيروت 31 تشرين الأول/أكتوبر 2015.
32 - يوسف شيخو: موسكو تخطط لإبقاء قواعدها في سورية – صحيفة " الحياة "، لندن 5 كانون الثاني/يناير 2018.
33 - محمد خليفة: مخطوط كتاب " الغزو الروسي لسورية "، ص ص 145 و146.
34 – د. سمير التقي: انتخابات سورية ما بين نظامين إقليميّين متنافسين – صحيفة " النهار العربي "، بيروت 1 نيسان/أبريل 2021.
35 - وائل بدران: روسيا وأهداف التدخل في سوريا، المرجع السابق.
36 - نزار عبد القادر: الاستراتيجية الروسية في سورية..، المرجع السابق.
38 - نزار عبد القادر: الاستراتيجية الروسية في سورية..، المرجع السابق.

(*) – ورقة قُدمت في مؤتمر " القوى العالمية الكبرى ومنطقة الشرق الأوسط "، بدعوة كريمة من " مركز أورسام لدراسات الشرق الأوسط " و " جامعة إسطنبول "، خلال الفترة من 12 إلى 14 تموز/يوليو 2021.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صواريخ إسرائيلية -تفتت إلى أشلاء- أفراد عائلة فلسطينية كاملة


.. دوي انفجارات في إيران: -ضبابية- في التفاصيل.. لماذا؟




.. دعوات للتهدئة بين طهران وتل أبيب وتحذيرات من اتساع رقعة الصر


.. سفارة أمريكا في إسرائيل تمنع موظفيها وأسرهم من السفر خارج تل




.. قوات الاحتلال تعتدي على فلسطيني عند حاجز قلنديا