الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مينتاليتيت قفقاسي

امين حافظ
(Amin Hafez)

2021 / 7 / 19
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


أدغه وشراكسة

مقدمة:
أثرت الحروب الروسية – القفقاسية /1763 – 1864/م. بشكل جذري على الشعوب الجبلية في شمال القفقاس فتغيرت أساليب العيش والتفكير وجرى صدام اجتماعي – ثقافي أحدث شرخاً عامودياً في مجتمعات الجبال فتبدلت منظومة القيم الجمالية والأخلاقية والمثل الروحانية، مما أدى لتبدل المينتاليتيت التقاليدي القفقاسي، ومع اعترافنا به كمصطلح أو مفهوم اجتماعي لكننا نحتاج بداية لمقاربته وتعريفه بشكل دقيق عند دراسة الأوضاع الاجتماعية والتعرف على أنماط حياة الشعوب الجبلية فيحضرنا تعريف مختصر للمينتاليتيت وهو:
السمات المميزة لخصائص قوانين العيش والتفكير
درست الباحثة الشركسية "بيجيفا" من مايكوب مفردات واشتقاقات مفهوم المينتاليتيت التقاليدي الشركسي وبرهنت أنه يستند على تصورات خاصة عن معنى الشرف والضمير، كما يستند بإفراط على مفهوم "الإرادة للوصول إلى الكمال" أو الارتقاء بالذات الإنسانية والضمير الحي، وهو ما يعبر عن نفسه بنفسه فتظهر من خلاله وتنشأ أعلى وأرقى مشاعر الاعتزاز بالنفس والعنجهية والكرامة الشخصية وقد أدركها قدماء الشراكسة وقدسوها ولا زالت حتى الآن سارية في عروقهم، ومع التطور وتزايد ضغوط النتائج الكارثية للحروب الروسية – القفقاسية وارتفاع وتيرة الصراع الاجتماعي – الثقافي نتيجة "الانعكاس الفلسفي" غير الواضح لجأ الناس لأيجاد معطيات لغوية أو كلمات فيها علامات نمطية مشابهة تحتوي على مفاهيم ملائمة عن مسائل القضاء والقدر والضمير والشرف، فالوجه مثلاً يتم ادراكه مجازاً عند الشراكسة كمعبر عن الضمير ويأخذ معنى الإنسانية وهي بالتالي "الأدغاغه" غ الأولى = مصريةوتعني الانتماء والشعور القومي الشركسي وهي أول أداة للمينتاليتيت الأسطوري الإثني، أي النارتي الذي يرد عبر مفهوم الضمير النظيف أو الحي، ومنه وجد معطى لغوي ملائم وهو "الشرف" فمن لا ضمير لديه لا يمكن أن يكون شريفاً، ثم يأتي الوجه هنا ليمثل تجسيداً لتلك المعطيات اللغوية، فعندما يقول الشركسي عن أحد ما "لقد غاب وجهه" فهو يعني بذلك "لقد ألحق العار بنفسه" وعندما يقول عن أحد ما "لقد احترق وجهه" فهو يعني بذلك "الشعور بالعار" أو تأنيب الضمير، أما إذا كان ضميره حياً وهو شخص شريف فيقال عنه "وجهه أبيض حي" ومن هنا نفهم أن "الضمير النظيف" هو تعبير هام في المفاهيم الجمالية والأخلاقية الشركسية ومن خواص المينتاليتيت التقاليدي القفقاسي.
تؤكد الدراسات والأبحاث التي أجريت حول أزمنة الحروب الشركسية مع الروس أن العمليات التاريخية جرت على مراحل متقطعة وتناقضات متشابكة نشأت ثم كبرت وتكررت ومع تكرارها ومعاودتها برزت وتصدرت في كل شعب قيادات جديدة متناقضة كلياً مع تطور القيم المينتالية التقاليدية وخاصة في جوانبها الروحانية والأخلاقية، كما جرت معظم التبدلات مع تطور بطيء جداً في المجتمعات الجبلية في شمال القفقاس أكد عدم إمكانية المحافظة عليها ما لم تترافق مع تبدلات سياسية في منظومة القيم والأولويات التي تركها لنا الأجداد وأوصونا بالمحافظة عليها وعدم المساس بها، حتى أن غالبية سكان شعوب الجبال كانت تحيطها بهالة من القداسة.
جرت عمليات التغيير الاجتماعي – الأخلاقي لدى الشعوب الجبلية باتجاهات متناقضة جاءت بعضها نتيجة الضغوط الهائلة على الناس وعلى حياتهم وتفكيرهم والتي أفرزها العدوان والاحتلال الروسي والصدام الشعبي معه، فقد استمرت الحروب لمئة عام حدثت خلالها ألاف الغزوات والمعارك والصدامات الدموية والتهجير جلبت كلها الموت والدمار لكافة الشعوب الجبلية وانحفرت في وعي وذاكرة كافة الطبقات والفئات الاجتماعية ووضعت أمامهم خيارات مصيرية قاسية ومرعبة: إما القتال والموت حتى النصر أو الخضوع لاحتلال الروسي وانقسم الجبليون لفريقين، لقي خيار الاستمرار في القتال قبول معظم فئات الشعب وطبقاته الكبيرة وخاصة طبقة الفلاحين الأحرار التي كانت تمثل وسطياً 70% في القبائل الشركسية، وأيدته فئات واسعة من العبيد والأقنان وأبناء القبائل وفرسانها، حتى أن بعض القبائل التي لايوجد فيها تنظيم اجتماعي هرمي (عدم وجود الأمير الكبير والأمراء والنبلاء) أيدت وقادت متحدة هذا الفريق، كما لعبت الحركة المريدية التابعة للشيخ شاميل دوراً متقدماً في هذا الفريق كونه كان الأكثر شعبية وتنظيماً وتسليحاً، واجتمعت كل تلك القوى تحت راية المينتالية التقاليدية والاستمرار في الحرب حتى النصر، ووضع قادة هذا الفريق مخططات وبرامج متناغمة مع استراتيجية إستامبول ولندن حول آفاق الصراع على شمال القفقاس وضرورة تحريره من الروس وانشاء الإمارات الإسلامية فيه وتنصيب الإمام شاميل خليفة عليها ووكيلاً للسلطان الأعظم، أما الفريق الثاني فقد وطد تعامله وتعاونه مع المحتل وصار ينفذ سياسة القيصرية ولعب دوراً بارزاً في إضعاف وتحطيم منظومة الأولويات الأخلاقيةالتقاليدية، وفي فترات لاحقة برز فيه تيار وسطي معتدل نادى "بالتسليم والمصالحة والتعاون" والدخول في مواطنية روسيا القيصرية، وقاد هذا التيار طبقة الأمراء والنبلاء والإقطاعيين وكبار التجار ومربي الماشية والخيول وجزأ من المؤسسة الشرعية الدينية ومللاتها وقضاتها الشرعيين.
بداية نشير إلى أن المينتاليتيت الإثني (التقاليدي) يحدد القواعد والأعراف للسلوك الفردي بشروط متحركة (كما يرى العالم الروسي غوميليف) تتعلق بمستوى التطور للقوى المنتجة (صيد، زراعة، تربية ماشية وخيول، إلخ..) وهذا التطور يفصح عادة عن معدلات السلوك عبر الإيماء أو الإشارة أو الدندنة أو حركة الجسم الذي تطور لاحقاً إلى الرقص الذي بدى كحاجة وظاهرة حياتية موضوعية ودخل إلزامياً في الطقوس، وهذا ما يعبر عنه من خلال التفاعلات المتشابكة والمتبادلة للطقوس والخرافة ومعدلات السلوك والإيماءات وحركات الجسم التي صارت تتكاثر وتتنوع وتتوالد معها معدلات السلوك الفردي التي ترتكز على الخابزه (خ = مخففة) الشركسية أو التقاليد والعادات والأعراف الإثنية أو الدستور الشعبي، ثم صارت تمتلك خلال تطورها أفكاراً مقدسة.
يرى الجنس القفقاسي عموماً أن الروح والنفس تعملان بشكل متناقض بكامل طاقتهما وضمن شروط معينة للبقاء لإدراك وفهم الذات بمطلق الاستقلالية وعندما ينتهي التأرجح يتحقق المصير ويتطور ذاتياً فيحقق بذلك وينجز تاريخه العالمي.
عندما نسمع أغنية نارتية ملحنة عن البطل العجائبي (نصف الإله) ساوسروقه تتحدث عن خلق العالم والأرض نشعر بأن الأغنية تعبر عن مواصفات مينتالية للثقافة الإثنية – الروحانية على قاعدة ثلاثية مقدسة هي الكون – الإنسان – المنزل، كما تظهر في الأغنية – القصيدة الوحدة العضوية وترابط ثلاثية الخرافة – الأسطورة 0 الخابزه وكيف يولد فيها الجنين الذي يطور تاريخ الأمة، كما يرى الباحث الشركسي تحه – غاريتوف.
توطدت مكانة المينتاليتيت الشركسي خلال تاريخ حافل بالأحداث والحروب والكوارث الطبيعية والهجرات ووصلتنا معظمها عبر ملحمة البطولة نارت التي جسدت المينتاليتيت والخابزه الشركسية من خلال القصص والقصائد والأغاني الملحنة وسيرة الأبطال أنصاف الآلهة ونزالاتهم الفردية حتى الموت وتجوالهم الطويل لتقسية الروح واكتساب المهارات الفردية لهم ولخيولهم الأسطورية، ويبدو فيها شعب نارت الأسطوري يعيش على أرض ليس لها حدود ولا نهايات، كما يظهر الجبل المقدس "قوشحة مافه" كأقنوم (أحد أعضاء الثالوث المقدس) وتبرز شجرة العالم أو محور العالم وهو بعيد عن أرض شعب نارت ويقع في فضاء إثني مقدس، وفي هذه العبر والغيبة الكونية تكمن بالتحديد خواص الكون لدى قدماء الشراكسة، حيث وضعت الإحداثيات عمودياً وليس أفقياً فيبدو خط القطر كثقب دوميني يتناسب مع ثلاثية الخرافة – الأسطورة –الخابزه، وشيد الفضاء الشركسي عمودياً من المكان المقدس على الأرض نحو القمة المقدسة "أواشحة مافه" لكن الفضاء لا يقدس لوحده في قصص الكون، بل تتقدس معه السماء والأرض والجبال والغابات والأشجار والصخور الكبيرة والحيوانات وخاصة الحصان الذي يرد في أسطورة نارت كشخصية أسطورية من نسل إلهي وهو رفيق البطل وصديقه الوفي وصفه الشاعر الروسي جوكوفسكي في أشعاره خلال جولاته في تشركيسيا وقال:
خيولهم الأصيلة تتسلق الأعالي كظباء الجبال
بناء لما تقدم فقد عرف الباحثون الخابزه الشركسية كما يلي:
هي حقيقة اجتماعية – ثقافية – لغوية وما فوق لغوية تحدد نوع فن الشعر في أسطورة نارت الشركسية وفي الأدب عموماً كما تحدد العلاقات الإنسانية والوراثية والتاريخية – الإثنية للأدب ومنها جاءت تصورات النارتيين القدماء الأسطوريين أن الإله "تحه" هو الذي "صنع" كل شيء في الكون والسماء والأرض والطبيعة وكل ما هو إنساني ومعها كل كائنات اليابسة والجبل وقمته المقدسة، ثم ارتفع عن العالم المتوسط إلى العالم العلوي ليعيش في القمة المقدسة "أواشحه مافه" ويقود الكون منها، وبعد أن أصبح رئيس المجمع الإلهي الأعلى صار رئيس مجلس الآلهة العظماء السبعة إلى الأبد وأصبح اسمه "تحه – شخوه" أو الإله الكبير.
يتساءل بعض القراء من أين جاء مصطلح مينتاليتيت وكيف تم تعريفه كمفهوم في العلوم الاجتماعية، وهل توجد له خصائص وتصورات لكل شعب، أم هو سمات عامة مشتركة لدى كل الشعوب؟
عالج عالم الأساطير الشركسي د. حداغاله عسكر المينتاليتيت التقاليدي في أسطورة نارت الشركسية وفسره بأنه أسلوب خاص لمعرفة القدماء وفهم الخصائص النفسية للثقافة الشركسية القديمة وتظهر في مفاهيم القيم والقياس للبشر عند معالجة أساليب فهمهم للعالم ومكانتهم فيه، كما يعكس مستوى ثقافتهم وتقاليدهم ويحدد معارفهم. يختص المينتاليتيت بمعالجة خصائص ونفسية صانعي النص الثقافي الشركسي القديم وخاصة أسطورة نارت.
عالج العالم الروسي ألتونين دراسة د. حداغاله وأيده في تعريفه وتوضيحه لجوهر المينتاليتيت وأضاف بأنه يدخل ضمنه معرفه وتوفير معلومات عن الأمور التالية:
1- تركيبة ومحور النص الشفاهي للأسطورة.
2- تحديد آلياته النفسية والاجتماعية والسياسية.
3- أسلوب بنية النص ومستوى انعكاس أمزجة الناس وثقافتهم فيه.
4- إمكانية وضع معايير وعناوين محددة للقيم والظواهر الفذة والشاذة التي ترد في النص الأسطوري.
5- مراقبة حركة واتجاه تطور أساليب التعبير عن الذات الإنسانية وشرعنتها في المجتمع.
ويضيف ألتونين أن الدراسات النفسية لقدماء الشراكسة لها خصوصياتها وتبقى أسطورة نارت مصدراً أساسياً لفهم البناء الفوقي والتحتي لهؤلاء القدماء وإدراك أساليب تفكيرهم.
لقد أصبحت المجتمعات القفقاسية اليوم في شمال القفقاس من وجهة النظر التاريخية وحق تقرير المصير المينتالي التقاليدي ظاهرة فريدة من نوعها وينظر إليها اليوم على أنها إثنيات متعددة لا تشكل مجتمعاً متجانساً مع أنها في نفس الوقت تبدو منزوعة فنياً وثقافياً ومتأثرة بالتقاليد الإثنية شبه الموحدة.
فهل ينجح الانتقال من المينتاليتية التقاليدية إلى المعاصرة المتوالفة بنزعة ديمقراطية تلبي طموحات البشر وتتناغم مع نزعاتهم الروحانية والإثنية؟ وهل يمكن أن تجري عمليات توحيد وتعميق واسعة للتكامل الثقافي– الإثني – الروحاني والاجتماعي بين الإثنيات الشركسية في شمال القفقاس ويجري التنسيق الاقتصادي والسياسي والثقافي فيما بينها؟ أم بات مجرد تقليعه معاصرة ضعيفة في تصميمها وفي مجابهتها للواقع؟
ما هو المينتاليتيت:انتشرت في الاتحاد السوفيتتي بعد عام /1930/م. مفاهيم واتجاهات تقدمية عديدة لقيت صدى إيجابياً لدى القوى التقديمة والديمقراطية والعلمانية تمحورت حول قضايا فلسفية واجتماعية ومنها القراءة الشعبية للتاريخ وضرورة إعادة قراءته، وبعد عام /1940/م. توصل عالمان فرنسيان هما "بلوك و دوبي" لوضع مصطلح جديد اسمه "مينتاليتيت" ثم فسراه بعدد من المقالات والأبحاث وعرفاه على أنه طبيعة التفكير أو التصورات الجماعية ونظام رؤى لأنماط حياة البشر، وهو مفهوم يعالج القضايا التي لا حدود ولا نهايات لها ويتعدى مفهوم الدراسة الكلاسيكية للتاريخ القديم، وسنعرفه قفقاسياً على أنه المزاج العقلي لجماعة وتفسير مختصر لمفهوم إعادة القراءة الشعبية للتاريخ ومدخل للفهم والإدراك، وهو يحدد وحدة قياس ومستوى ومخزون العقل وقد يتشكل مع نشوء الثقافة الإثنية ويتراكم داخلها وله علاقة مباشرة مع الأسطورة ومع فلسفة الثقافة (كولتورالوجيا) ومع علم دراسة خصائص الشعوب (إثنولوجيا).
تم الكشف نظرياً بين مفهوم المينتاليتيت وبين ما جاء في أسطورة نارت الشركسية وذلك بعد دراسات مطولة في الأساطير وخاصة في أسطورة نارت، وساهمت تلك الدراسات والأبحاث في استعادة أسطورة نارت لمكانتها الرفيعة في الثقافة العالمية وعززت تلك الدراسات مرة أخرى أن الأصل في تلك الثقافة القفقاسية والشركسية خصوصاً هي الشفاهية (ما قبل الكتابية) التي لها قوانينها وتقاليدها الأدبية، وتبين أنها تصلح اليوم لتكون قاعدة انطلاق جديد لوضع مينتاليتيت جديد مكتوب حديثاً لكن أصله شفاهي، وقد ساعد ذلك في استعادة أسطورة نارت الشركسية مكانتها بعد جمعها وتدقيقها وأصبحت مصدراً ثقافياً غزيراً وموثوقة معرفياً لدى الشعراء والكتاب والفنانين عند تفسير الأحداث التي عاشها قدماء الشراكسة وسجلوها في مجلات الذاكرة الشفاهية الأسطورية، كما ساعدت الباحثين لإعادة فهم دلالات الموروث الشعبي اجتماعياً وثقافياً دون الحاجة لإعادة تفسير الأحداث، بل مجرد التقاط الرموز اللغوية والثقافية لتحسين الأداء السردي الإبداعي في القصص والقصائد الأسطورية المعاصرة.
انطلق من تعريف المينتاليتيت لتأسيس سؤال غير اعتيادي لفهم جذور المسألة وهو:
هل يكفي تشابه أسطورة نارت القفقاسية والمينتاليتيت التقاليدي لدى الشعوب الجبلية في شمال القفقاس لإطلاق تسمية شراكسة عليهم؟ وإذا وافقنا جدلاً على ذلك ألا يتطلب اتحادهم في جمهورية واحدة ضرورة وجود جذور وأصول تاريخية تساعد على إعادة تبوتقتهم كشعب واحد ذو أصول أنثروبولوجية متقاربة؟ أم هم مجرد شعوب وإثنيات متآخية ومتجاورة فقط، وحتى لو كان الأمر كذلك فما المانع من تهيئة مناخات إيجابية اجتماعية وثقافية ومصالح اقتصادية مشتركة لتوحيدهم في جمهورية حقيقية باسم تشركيسيا في الاتحاد الفيديرالي الروسي.
سنعالج في هذه الدراسة مفهوم المينتالية التقاليدية القفقاسية التي سادت لدى الشعوب الجبلية منذ القدم واستمرت حتى انكسار حركة تحرر الشعوب الجبلية عام /1864/م. وكيف تم التحول البطيء إلى المينتالية المعاصرة وكيف انتصر "القفقاسيون الضعفاء" بعد الاستسلام وانتصروا على المينتالية التقاليدية وأنصارها من "القفقاسيون الأقوياء" ونحن نعتقد أن تشكل "القفقاسيين المعتدلين" قبل حوالي ثلاثة عقود من الاستسلامساهم في توسيع الصلات والتعاون مع العدو وتم استغلال أخطاء وجرائم السلفية المريدية التكفيرية التي ارتكبت بحق كل شركسي لم يقف معها واعتبارهم كفاراً مثل الروس يحلل قتلهم، كما أن هرب نواب شاميل الثلاثة في تشركيسيا ولجوئهم للجانب الروسي مع أموالهم وحراستهم ما بين أعوام /1840 – 1849/م. أضعف ثقة الشراكسة بالحركة وانصرفوا عنها تدريجياً.
عند تحديدمفهوم المينتاليتيت أخذ بعين الاعتبار أهمية وتأثير العادات والتقاليد والأعراف (خابزه) ومعها الخرافات وأسطورة نارت وكذلك القيم الجمالية والأخلاقية والروحانية – الإثنية وكيف صارت كلها معاً بمثابة الدين الحقيقي للشعب.
عند قراءة أسطورة نارت الأديغيه (الشركسية) يرد كثيراً مصطلح "نارت تللاخانه" ل = مدغمة، ويعني أرض شعب نارت، وعندما جاء زمن النارتيين البشريين برز مصطلح جديد هو "نارت تللبق" ل = مدغمة، ب = pويعني شعب أو جنس نارت وظهر بعده مصطلح "أدغه تللبق" ويعني الشعب أو الجنس الأديغي، وعندما ظهرت أولى الخرائط العثمانية سمو بلاد الأدغه جركستان، لكن الروس والأوروبيين اعتمدوا تسمية جيركيسيا أو تشيركيسيا ولم يتداول مصطلح "جيركيس تللبق" ولم يظهر أبداً.
يتساءل كثيرون عن مصدر تسمية جيركيس ولماذا سمت بعض الدول الشعب الأديغي بالجراكسة، فعند مناقشة المسألة تظهر تباينات في معنى التسمية ومعانيها والجهة التي أطلقته على الأديغه، وهو أمر طبيعي نتيجة اختلاف مصادر المعارف والخلفية الثقافية والأيديولوجية ومستوى العلاقات والاتصالات بين الأطراف.
بداية أقول إن شعوب شمال القفقاس اليوم لا يعرفون عن أنفسهم بأنهم شراكسة، بل يعرفون عن أنفسهم كل حسب انتمائه الإثني المعاصر الذي اكتسبه من جماعته وهو يقر بأصل التسمية والمتغيرات التي طرأت عليها تاريخياً نتيجة الهجرات والاندماجياتوالاتحادات الكبيرة التي جرت بين القبائل القفقاسية وما جرى عليها من تعديلات في التسميات والتعديلات اللغوية وظهور التسميات الجديدة منذ بداية القرن الثامن م. وحتى القرن الخامس عشر م.، واستقرت مع بداية الغزو الروسي لشمال القفقاس في نهاية القرن السابع عشر م.، ثم جاء النظام السوفييتي وشكل الكيانات الإدارية الجديدة في شمال القفقاس وأطلق عليها أسماء جديدة بعضها يحمل اسم القبيلة أو الشعب وبعضها يحمل اسم أكبر قومية أو قوميتين في الكيان، وجرى تشكيل تلك الكيانات كما ادعوا وفقاً للمفهوم اللينيني "حول حق تقرير المصير للشعوب" لكن الناتج كان انعكاساً للمصالح الجيوسياسية للمركز ورؤيته وليس مصالح الشعوب الجبلية فقد صار لكل قبيلة أو أكثر من شعب واحد كياناً قبلياً مستقلاً يحمل اسمها وتم تشريعه في الدستور واعتبار كل كيان يمثل شعباً مستقلاً بتاريخه ولغته، وتم تزيين وتلميع تلك السياسات الكولونيالية بأهداف مزيفة عن المسألة القومية وادعاء إحياء التراث والثقافة واللغة الهجوية ووضعوا لها أبجديات هادفة ومعنية بجعل اللهجة القبلية لغة رسمية وأدبية شكلياً لشعب معين، عموماً فإن الحلول المتبعة حملت في داخلها عناصر ومؤشرات الانفجارات القادمة وتبين أن المركز ما زال يخاف من إعادة توحيد تشيركيسيا وأسيتيا والجيجان ويخاف من وصول الأدغه لشواطئ البحر الأسود.
وخلقت هذه الإجراءات الإدارية أجواء سلبية وساهمت في تفتيت الانتماء الإثني الواحد وتغييبه، كما شوهت مفهوم المواطنة وخلقت حالة تنافر وجفاء بين السكان الأصليين القفقاسيين وبين المستوطنين الروس والقوزاق ما زالت موجودة وهناك تخوف من إمكانية تعكير التعايش السلمي، كما عمقت الشعور بعدم الأمان وانعكس ذلك في أشكال الاستقرار والتمركز في مكان محدد لإثنية واحدة، وأنعشت هذه الإجراءات ونشطت بقايا التيارات السلفية الدينية والقومية، حتى أن السلفية التكفيرية الإسلامية باتت مؤخراً تستعير وتتبنى شعارات بعض القوميين الذين التحقوا بالجمعيات الدينية والسلفية، ويجري ذلك في ظل ضعف وتمزق حركة المتنورينوالمثقفين القوميين الديمقراطيين والاشتراكيين الشراكسة.
لقد أثبت الزمن عدم نجاح نماذج التجارب الستالينية في المسألة القومية وخاصة في شمال القفقاس، وبدلاً من تطبيق الوصايا اللينينية في مسألة حق تقرير المصير للشعوب الصغيرة في الاتحاد السوفييتي وإعادة إحياء لغاتها القومية وتراثها وثقافتها وأساطيرها وإعادة توحيدها قومياً على أراضيها التاريخية جرت تجزئتها وتقسيمها لكيانات هامشية تابعة وأدت تلك السياسات لنتائج سلبية انعكست على التعايش السلمي والمساواة في المواطنة وحق إقامة الدولة القومية السيادية في ظل الاتحاد وتعزيز الأخوة بين الشعوب وساهمت في توتير الأوضاع الاجتماعية وحصل تنافر اجتماعي وعدم احترام متبادل بين المكونات العرقية داخل الكيانات الجديدة، فالشراكسة مثلاً تم توزيع من بقي منهم على أرض الوطن تشيركيسيا إلى عدة كيانات هشة متجاورة هي جمهوريات أديغيا، كباردينا بالقاريا، كرشاي جيركيسك وظلت أكبر قبيلة شركسية وهي شابسوغ وغيرها خارج حدود كيان جمهورية أديغيا لأسباب جيوسياسية وهي إبعاد الشراكسة عن شواطئ البحر الأسود، وفي الشرق جرى نفس الشيء في منطقة غابات مزدوك الصماء، وتلت تلك التقسيمات صنع أبجديات لهجوية لكل جمهورية زرعت فيها عن عمد أو عدم معرفة إشكاليات لغوية وتم تصميم بعض الحروف من ثلاثة حروفكيريلية ومختلفة لنفس الصوت الشركسي، حتى أن أعدادها ليست واحدة في كل أبجدية، وشجعت تلك الإجراءات توجيه الإعلام والأدب على النفخ في أمجاد القبيلة واعتبارها وحدها هي الأصل والفصل وأثارت العقلية البدوية المتخلفة والمينتاليتيت التقاليدي القبلي، مما ساهم في إحداث شرخ في مفهوم الانتماء الإثني الأديغي الواحد ودغدغة الوعي الجماعي الإثني المتخلف داخل كل كيان، وتم حشر كل تلك "الإنجازات" في أذهان الناس وإبرازها وكأنها عمليات إيجابية في إطار إحياء الروح القومية الأديغيه (الشركسية) وخطوة متقدمة في طريق بناء الدولة الشركسية المعاصرة، لكن الواقع أثبت غير ذلك، بل حدث العكس أحياناً، فقد سربت قوى المركز روح التنافس بين قادة تلك الكيانات وصار حدود تفكيرها وتطلعاتها القومية لا تتجاوز في أفضل الظروف حدود مراعي وسهوب وجبال وغابات القبيلة تاريخياً، كما ساهم المركز والقيادات المحلية في نشر حزم من الأفكار الديماغوجية المبنية على أسس ضرورة إحاطة المسألة القومية بالنهج الاشتراكي الجديد والادعاء بأن النزعات الدينية والقومية والروحانيات الإثنية ستحل نفسها بنفسها لصالح الاشتراكية من خلال رفع الوعي السياسي والثقافي والاجتماعي الاشتراكي وتحسين مستوى الحياة والصحة والتعليم وتأمين السكن والعمل ونشر الثقافة الاشتراكية ونبذ الدين والقومية والتعتيم عليهما تغليباً لمصالح وضرورة المرحلة من البناء الاشتراكي.
قامت السلطات الجديدة بعد انكسار التجربة السوفيتية بإجراءات متباينة لإعادة الاعتبار للدين والقومية لأسباب مختلفة في مقدمتها كسب تأييد القوميين والمتدينين للبناء الرأسمالي الجديد ومحاولة دفن المزاج الاشتراكي الشعبي وتحفيز الملكية الفردية والسوق الحر فتنشطت التيارات الليبرالية والدينية والقومية ومعها قويت التيارات السلفية في شمال القفقاس وتبعتها في النشاط تيارات قومية متفرقة ولما اشتد ساعد السلفية التكفيرية عبر دعم خارجي وتدخل مباشر أعلنت برنامجها في شرق شمال القفقاس وخارجه لإقامة الإمارات الإسلامية على نفس مناطق نفوذ الكيانات القومية بينما ظلت القوى القومية والتقدمية الديمقراطية تراوح في مكانها بلا برامج ولا مشروع وأعلنت بعضها الانخراط في التجربة الجديدة وتجديد التعاون والمضي معاً لتعزيز الاستقرار والبقاء في الفيدرالية الروسية بينما انخرطت مجموعات أخرى مع التيار السلفي التكفيري، وهذا الصراع ما زال مستمراً حتى اليوم وهو يشتد ويأخذ أشكالاً دموية أحياناً ويتمدمد إلى غرب شمال القفقاس بهدوء وحذر شديدين وقد أخذ دفعاً إضافياً جديداً بعد الصدام العسكري بين أرمينيا وأزربيجان، وفي هذه الفترة برزت نزعات سياسية وفكرية جديدة حول مفهوم الحرية والسيادة ومعها إعادة ملف مصطلحي "أدغه وجراكسة".
خلال مناقشاتي حول هذين المصطلحيين "أدغه وجراكسة" مع بعض الأشخاص من القوميات القفقاسية غير الأديغيه المقيمين في مايكوب عاصمة أديغيا حيث أعيش لم أصادف أحداً منهم يقبل أن تسميه جيركيس إلا الأدغه وبعضهم يبدون استغرابهم ويستهجنون ما يدور حالياً في أوروبا والشرق الأوسط من ضجة إعلامية مركزة ونشاط لخلق ترسيم جديد للولاءات الإثنية للقفقاسيين الأصلاء في أوطانهم ويقولون:
لماذا يجب على الأوسيتي والجيجاني والداغستاني وغيرهم إلغاء انتمائه الإثني وانتحال تسمية غريبة عنه؟ إن القبول بذلك يعتبر تخلياً عن الأصل والعرق والنسب والسلالة وهو بمثابة صك لإلغاء الآخرين وانقراضهم مستقبلاً.
عند متابعة نفس الموضوع وعرضه على المهاجرين القفقاسيين المتواجدين في بلدان الشتات نلاحظ وجود اختلاف جذري في المسألة، فخلال سنين العيش خارج الوطن اصطفت الجاليات القفقاسية وتعاونت كأقليات وصار الآخرون يطلقون عليهم كلهم شراكسة وخاصة أنهم صاروا ينسقون نشاطهم الثقافي والاجتماعي من خلال جمعيات خيرية تجمعهم تحت اسم شركسية وشكلت بعض الجاليات القفقاسية مؤخراً جمعياتها القومية الخاصة ومعظمها صارت تحمل اسم القفقاسية وليس الشركسية، ولعل تعميم مصطلح شراكسة على القفقاسيين المهاجرين جاء بسبب غالبية الشراكسة (الأدغه) بينهم، وقد أشار بعض الناشطين لذلك، كما تعامل الإعلام العالمي وخاصة التركي والروسي مع الحرب القفقاسية على أنها حرب ضد الشعوب الجبلية الشركسية.
ظهر مصطلح جيركيس في الربع الثاني من القرن /13/م. بعد الحملة التترية– المغولية الأولى على شمال القفقاس عام /1227/م. واحتلاله لاحقاً، ومهد لتأسيس ممالك خانات استرخان والقرم وغيرها الذين تحاربوا مع الشراكسة لمدة ثلاثة قرون تقريباً وكانوا يغزون تشيركيسيا من شبه جزيرة القرم مرة في السنة على الأقل وتكون الغزوة الرئيسية عادة بعد الحصاد وجمع المحاصيل وتزايد دسم الماشية فيقتلون الشيوخ والجرحى ويقطعون رؤوسهم ويسبون الأطفال والشباب من الجنسين ويبيعونهم كبضاعة حية لعصابات النخاسة التركية النشطة، وتذكر بعض الوثائق التاريخية أن التتار أبادوا خلال ثلاثة قرون ثلث الشعب الأديغي وكانوا من أكثر الشعوب وحشية وقسوة، كما تذكر بعض الأدبيات أن التتار هم من اطلقوا على الأديغه اسم جيركيسي أو جيركس لأن الفرسان الشراكسة وكل المقاتلين كانوا حليقي الرأس ما عدى جديلة شعر طويلة في مؤخرة الرأس، كما يرى بعض الباحثين أن التسمية التترية تعني قاطعي الرؤوس أو الجماجم، وهي رؤية عنصرية لأن التتار أنفسهم كانوا يفتخرون بأنهم قاطعي الرؤوس وكانوا يخيفون كل الشعوب بها، لكن بعض المؤرخين الروس تبنوا الفكرة واعجبتهم لصق هذه التهمة بحق جميع الجبليين القفقاسيين ليبرروا سياساتهم العرقية - العنصرية وجدوى ومصداقية استراتيجيتهم في الحرب القفقاسية تحت شعار "الأرض المحروقة وشعب بلا سكان" وجعلوا من الأدغه قاطعي الرؤوس المتوحشين لتخفيف جرعة سياسة الإبادة الجماعية والتهجير القسري لمعظم سكان شمال القفقاس وجعلوها شماعة ملائمة لاحتلاله وتفريغه من سكانه الأصليين وجلب ملايين المستوطنين الروس والقوزاق وإسكانهم فيه، وهي نفس العقلية والنظرية الاستعلائية الكولونيالية التي اعتمدها المستعمرون الأوروبيون خلال غزو أميركا وتبرير إبادة عشرات ملايين السكان الأصليين من الهنود في الأمريكيتين تحت شعارالتخلص من المتوحشين.
عند قراءة الأدب الروسي شعراً ورواية حول تشركيسيا وذكرياتها في أذهان من خدموا فيها كضباط ومستشارين ومؤرخين ودبلوماسيين ومراسلين خلال القرون /17 – 18- 19/م. نلاحظ أن معظمهم لم يكونوا يعرفون عن شمال القفقاس أكثر من كونه إقليماً غنياً للجبليين المتوحشين ولم يملكوا أي معارف أنثروبولوجية (علم السلالات البشرية ومنشأ الأعراق) لذلك لم يميزوا بين كلمات جيركيس – جيجينيتس أو داغستانيتس واعتبروهم شخصاً واحداً جبلياً متوحشاً، حتى أن شاعر روسيا الكبير بوشكين وقع في نفس الخطأ في قصيدته الملحمية تازيت، لكنه عرف بعد معاشرته للشراكسة اثناء خدمته في تشركيسيا كضابط روسي أن المينتاليتيت (أنماط ذهنية التفكير) الأديغي والجيجاني والأسيتي والأبخازي والقفقاسي الجبلي عموماً هومتشابه لدى الجميع في صفاته التقاليدية كالطاعة الصارمة للعادات والتقاليد والأعراف وآداب الطعام والشراب (إتكيت الموائد) والثأر بالدم وتشاركية قوية في أسطورة نارت القفقاسية وأمور أخرى كالفروسية والبسالة والحذر من الغرباء وعشق الحرية المطلقة والنزعة القتالية وتقديس الخيول وتوحد وتجوال الفارس والرقص والموسيقى والتربية وحسن الخطابة والفصاحة في الكلام والإيمان بالمصير والقدر واحترام الكبار.
ترى ألا تشكل كل هذه الخواص والصفات والتقاليد المترادفة عاملاً أساسياً يؤهلنا لتسمية كل من يؤمن بها شركسياً بحق؟ نعم اعتقد ذلك وأؤمن به، وإن تشاركيتنا في كل تلك القيم والتقاليد لا يمنع وجود خصوصيات واختلافات في ثقافاتنا الإثنية ويمكن أن نتعايش معها في إطار دولة واحدة بشرط أن لا نجذرها، بل الاعتراف بها والسعي لتدوير الزوايا الحادة إن وجدت والحوار حولها وتطويعها لصالح المجتمع، يمكن أن نضيف لتلك الخواص المشتركة أن معنى كلمة شركسي تتوحد فيها تاريخياً كل المعاني المشتركة بين الشعوب الجبلية في شمال القفقاس وهي تحمل مدلولاً لغوياً واحداً متعارف عليه وهو "الفارس المقاتل" وهي تسمية تتوافق مع طراز عيشيهم وتفكيرهم وعشقهم للحرية المطلقة والأرض والخيل وتاريخهم المشترك الحافل بالحروب والغزوات والحملات الخارجية والهجرات ومعظم مقاتليهم كانوا من الفرسان ولم يحاربوا كمشاة بسبب وعورة المناطق الجبلية وتباعد أماكن السكن، كما يتعلمون الفروسية منذ الصغر ويعشقون الخيول الأصيلة التي يتم تدريبها على القتال الليلي والالتحام المباشر والهجوم السريع وعدم الخوف من الضجيج وأصوات الرصاص والمدافع. الخيول القتالية الشركسية تدرب على الكبو والعدو بسرعة ثابتة تسمح للفارس وهو على ظهر حصانه إطلاق السهم والرمح ولاحقاً الرصاص، الحصان هو الصديق الأول لصاحبه وهو الذي يعتني به وإذا قتل الفارس في المعركة انتهت حياة حصانه فيقتل ويدفن بجانب صاحبه وقيل في ذلك:
روح الفارس وروح الحصان
منذ الأزل متحدتان
يظهر الأبن الأصغر "تازيت" في قصيدة بوشكين الملحمية غير الكاملة والمسماة تازيت ومعه والده "غاسوب" كشركسيين في محيط جيجاني وفي مقاطع أخرى يبدوان كجيجانيين، وقد سار الشاعر الكبير الأخر ليرمنتوف على نفس خطى وخطأ بوشكين وظهر ذلك في العديد من قصائده الشركسية، لكن ليرمنتوف كان أكثر ثورية وتعاطفاً مع نضال الشراكسة ولم يكن قلقاً ومتبدل المزاج ولا يخاف من السلطة مثل بوشكين الذي كان يتراجع ثم يثور من جديد، أما ليرمنتوف فقد اختار مرة وإلى الأبد أن يكون مع تحرير تشركيسيا وحريتها، كما كان أول من أدخل شخصية الفتاة الشركسية وإخلاصها في الأدب الروسي وأبرز روح شخصية الفارس الشركسي فيه وتعمق في ذهنية تفكير المقاتل الشركسي وعشقه للأرض والحرية وقناعاته بقدره أن يموت من أجل وطنه وركز على تقديس الشراكسة للحرية والسيادة، وعموماً فإن ليرمنتوف خاصة وبعده بوشكين كانا نصيرين لحركة تحرير الشعوب الجبلية في شمال القفقاس.
يعود الفضل لهذين الشاعرين وغيرهما من عظماء الأدباء والفنانين ومناضلي حركات المثقفين والمتنورين والثوريين الديمقراطيين والديكابريين الروس في تعريف روسيا على الشراكسة ودعمهم لنيل حريتهم، لكن بوشكين وليرمنتوف أبدعا في تصوير الحياة الشركسية البسيطة وأوضحا قدسية الانتماء الإثني لدى الشراكسة ورسما لوحات فنية راقية ورائعة عن بساطة ونقاء العيش الشركسي والعادات والتقاليد ومستوى الثقافة الإثنية مما ساهم في نشر مصطلح جيركيس في كل العالم.
يعالج بوشكين في قصيدة تازيت تأزم الحالة الثقافية والاجتماعية لدى الشعوب الجبلية ويعرض وجهات نظر "القفقاسيين الضعفاء" والقفقاسيين الأقوياء" وكيف سيظهر من بينهم "القفقاسيون الجدد" أو المراقبين من داخل تلك المجتمعات المتخلفة (نصف المتوحشة) وكيف ستحل تلك الشخصية الجديدة مكان "القفقاسيين الأقوياء والضعفاء" وتشكل لاحقاً كتلة "القفقاسيين المعتدلين" الذين سيمسكون زمام الأمور (وهم الآن في سدة الحكم في كل الكيانات) وهؤلاء يحبذون تسميتهم ب "القفقاسيين المعاصرين" وغابت تقريباً شخصية "القفقاسي القوي" التي كانت تعني المقاومة والقتال، العنجهية، الفردية، الفروسية، الصيد الطويل، التجوال، الحرية المطلقة، السيادة والقوة، وجاء زمن المعاصرين الذين استسلم أجدادهم فكسبوا البقاء في وطنهم لإعادة بنائه، أما الأقوياء فمعظمهم فنوا في ساحات القتال وتشرد من بقي منهم حياً وانتشروا في بلدان الشتات بسبب تدني الوعي الجماعي لديهم وغابوا دون أن يدون التاريخ حقيقة ومصداقية نواياهم فخسروا بذلك الحرب والوطن والأحبة وفنيت قبائل شركسية كلياً وأخرى جزئياً وبعضهم ما زالوا يعتقدون أنهم الأقوياء.
يمثل تازيت الابن شخصية القفقاسي الضعيف الذي يرفض المينتاليتيت القفقاسي التقاليدي ليس تأثراً بالأفكار التنويرية ولا المعتقدات المسيحية، بل لديه عقيدته الخاصة "لا تقتل" وهو لا يراعي ولا يتقيد بالتقاليد الفروسية ولا بالعادات والأعراف القفقاسية بعكس والده غاسوب القفقاسي – الجيجاني – الشركسي – المحافظ ذو الثقافة المينتالية التقاليدية الذي يكره الغرباء ولا يثق بهم ويريد من ابنه الوحيد الباقي أن يقتل قاتل أخيه ليخلص العائلة من العار وعندما يئس الاب من اقناع ابنه تازيت قال له قبل أن يطرده من المنزل:" أنت لست منا، أنت عبد وأنا لا أعرفك، ولعلك لست ولدي فأنت جبان ولست قفقاسياً، فاخرج من هذا البيت القفقاسي الحر المنكوب بسبب خمولك وكسلك ولا تعد إليه ثانية".
غاسوب وولده تازيت هما الشخصيتان المحوريتان في القصيدة ويمثلان قمة الصراع الجاري وقتها في زمن الحرب بين الأقوياء والضعفاء قبل ظهور كتلة "القفقاسيين الجدد" وقد أدخل بوشكين في قصيدته الثنائيات الضدية المتبدلة التي تشتهر بها أسطورة نارت الأديغيه فاكسب القصيدة طابعاً قفقاسياً لا ينتهي فيه الصراع، لكن بوشكين لم يعلم على الأغلب أن النصر لا يكون دائماً لنفس الطرف فقد تتبدل المواقع وتعمل وفق صراع الأضداد والتاريخ في حركة معاودة متكررةدائمة والتفافية ولا يعلم أحد متى تتبدل أشواطه الزمنية واتجاهاتها.
ابدى ليرمنتوف قلقه البالغ على مصير الشراكسة وصرخ منادياً بأعلى صوته:
قفقاسياً، أيها البلد البعيد
يا ديار الحرية البسيطة
كفاك شقاء وتعاسة
مدمى من الحروب
ترى هل ستعود لزمن المغاور والصخور
وغشاوة الظلام الموحش
تسمع صراخ الخوف والفزع
سليل المجد والمخابطالذهبية
كلا لا نتوقع عودة السنين الماضية
الشركسي يعشق الحرية
ومسقط رأسه عزيز عليه
جاهز للموت من أجله في كل لحظة
غالباً ما نجد رمز الحرية الشركسية المطلقة في القصائد الغنائية العاطفية عند ليرمنتوف
أحبك يا خنجري الفولاذي
رفيقي البارد اللماع
قساك بالثأر حداد فطن متأمل
وشحذه شركسي حر استعداداً لمعركة قاسية

وفي مطلع قصيدته المشهورة "إسماعيل بيي" يقول:

يقتحم الشركسي في قتاله بحق
ويعرف كيف يموت بمجد
خنجره الحاد من الطرفين هو منقذه
والخوف من العسف والقبور
لا يمنعه من الدفاع عن أرضه
إذا اقتربت منها قوى الأعداء

أصبحت تشركيسيا لدى ليرمنتوف واحة الحرية المطلقة وبلد الفرسان الشجعان عند مقارنتها مع وطنه روسيا القيصرية وأغرم الشاعر بجنوح الشعوب الجبلية واصرارها على السيادة والاستقلال ومجابهة الموت طوعاً واستقر رأيه أن هذه الجبال الأبية لا يمكن أن يعيش فيها إلا الأبطال الذين يعشقون الحياة الحرة ويستحقون لذلك المجد والرفعة.
عندما نفي ليرمنتوف في خدمته العسكرية إلى شمال القفقاس غادر روسيا غير أسف وكتب يقول:

وداعاً روسيا القذرة
بلد العبيد والسادة
قد أكون فيما وراء جدار القفقاس
قد تحررت من باشواتك
ومن عيونهم التي تراقب كل شيء
وأذانهم التي تسمع كل شيء.
أخيراً أسجل اعتزازي بأصولي الأديغيه– الشركسية وبعلاقات الدم والأخوة والقرابة مع كل الشعوب الشركسية في جبالنا العنيدة وأنا نصير إعادة تعزيز أواصر الصداقة والتعايش السلمي مع كل شعوب اتحادنا الفيدرالي وفي مقدمتهم الشعب الروسي العظيم، وأرى أن ما يجمعنا نحن الشراكسة من أصول لغوية وسلالية وتاريخ وأرض وأنماط معيشية ومينتاليتيت قفقاسي موحد تشدنا لنبقى متحدين ومتضامنين في كل مكان فلا شيء ينقذنا إلا التلاحم والتماسك كشعوب صغيرة لتحاشي الانقراض والبقاء معاً لتطوير حياتنا وثقافاتنا الإثنية وتراثنا وفولكلورنا وأسطورتنا الخالدة نارت جوهرة الثقافة العالمية.
كما أرى أن تشابه ووحدة أهم العناصر المينتالية القفقاسية التقاليدية لدينا يضع على عاتقنا كإدارات وهيئات ومنظمات وأحزاب وأفراد مهمات تاريخية مصيرية لم تعد قابلة للتأجيل بعد الآن تؤكد ضرورة توحيد البوصلة واستعادة التلاحم ونبذ التخوين والتكفير والسلفيات الدينية والقومية وتعزيز النضال والوحدة من أجل الدفاع عن مصالحنا القومية والثقافية والاقتصادية وإعادة تقويم المينتالية المعاصرة المشوهة والمخاتلة والعمل لإيجاد مينتالية تقاليدية معاصرة أخرى يختارها القفقاسيون الجبليون بأنفسهم تعمل على رفع الوعي الجمعي وتقر مبدأ التعايش السلمي والأخوة في دولة العدالة الاجتماعية في اتحادنا الفيدرالي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. انفجارات أصفهان.. قلق وغموض وتساؤلات | المسائية


.. تركيا تحذر من خطر نشوب -نزاع دائم- وأردوغان يرفض تحميل المسؤ




.. ctإسرائيل لطهران .. لدينا القدرة على ضرب العمق الإيراني |#غر


.. المفاوضات بين حماس وإسرائيل بشأن تبادل المحتجزين أمام طريق م




.. خيبة أمل فلسطينية من الفيتو الأميركي على مشروع عضويتها | #مر