الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ظل آخر للمدينة36

محمود شقير

2021 / 7 / 23
الادب والفن


واصلت الاهتمام بالقراءة. جذبتني روايات نجيب محفوظ فقرأتها تباعاً، وصرت أذهب إلى مركز المعلومات الأمريكي بالقرب من مبنى جريدة الجهاد لاستعارة الكتب. عثرت هناك على بعض روايات أرنست هيمنجواي، جون شتاينبك، وأرسكين كالدويل، فقرأتها، ثم قرأت بعض الكتب المناوئة للشيوعية التي كان هذا المركز معنياً بالترويج لها، ومن أبرزها رواية "ظلام في النهار" لآرثر كوستلر، ثم قرأت كتاب "هذه هي الشيوعية في الوطن العربي" لعبد الحفيظ محمد، الذي وزعته وزارة التربية والتعليم الأردنية على المدارس، فوجدت فيه، رغم سذاجته، بعض المعلومات التي جعلتني ممعناً في معاداتي للشيوعية، غير مستعد تحت أي ظرف لتقبلها.
فيما بعد، أصبحت مهتماً بمتابعة مجلة "الآداب" البيروتية، وحققت فائدة كبيرة من متابعة الآراء النقدية التي كانت تنشر على صفحاتها لنقاد معروفين من مصر وسوريا ولبنان. وقد فتحت الآداب ذهني كذلك على الأدب الوجودي الذي كان د. سهيل إدريس ، صاحب دار الآداب ورئيس تحرير مجلتها، مواظباً على ترجمته، فقرأت لجان بول سارتر، ألبير كامو، سيمون دي بوفوار، وفرانسواز ساغان، وقرأت كذلك لكولن ولسون. وقد تأثر بعض أبناء جيلي بكتابه "اللامنتمي" ووجد فيه متكأ فكرياً يتكئ عليه.

***
تسير حياتي الاجتماعية سيراً عادياً، وكنت مغتبطاً بذلك خصوصاً وأنا أتعرف إلى قطاع المعلمين الذي انتميت إليه، وكذلك وأنا أتعرف إلى أناس جدد من فلاحين ومتعلمين في القرية التي عينت معلماً فيها، بما لديهم من عادات اجتماعية ولهجة محلية وطقوس تختلف نوعاً ما عما لدي.
بعد ثلاثة أشهر من تعييني في الوظيفة، ذهبت إلى فرع البنك العربي في البناية المحاذية لكلية شميدت في القدس، وقبضت راتبي الشهري، وكان مقداره تسعة عشر ديناراً أردنياً. كان للمبلغ الأول الذي أقبضه من الوظيفة رونق لا ينسى، وكان لا بد من التقيد ببعض مستلزمات الوظيفة، أقصد المظهر اللائق بموظف لديه دخل شهري ثابت، في قرية يندر فيها الموظفون. ولم يكن هذا الأمر غائباً عن بال أبي، الذي بدا مرتاحاً لأن ابنه البكر أصبح موظفاً.
ذهبنا معاً إلى مخيطة إسحق الشرفا في شارع صلاح الدين، وانتقينا قماشاً ملائماً لبدلتين. فصّلهما الخياط طبقاً لمواصفات الموضة الشائعة آنذاك، الجاكيت واسع، ينطبق طرفه الأيسر على طرفه الأيمن بعد أن يشبك بزرين، ويبقى على الطرف الأيسر زران آخران للزينة وللتوازن مع الزرين اللذين على اليمين. وأما البنطال فهو فضفاض، لكنه ليس عريضاً عند القدمين، وله من أسفله ثنيتان. واشتريت ربطة عنق للمرة الأولى في حياتي، ثم ذهبت أنا وأبي إلى محل الكندرجي أبو داود في أول سوق الحدادين، الذي فصّل لي حذاء من الجلد، استلمته منه بعد أسبوعين.
وكنت في أيام الجمع، أذهب إلى مطعم العائلات أو مطعم السلام في باب خان الزيت، أو مطعم شعيب في سوق العطارين، لتناول وجبة الغداء التي تتكون في العادة من اللحم المشوي واللبن والسلطة والخبز، وبعد ذلك أتوجه إلى محلات جعفر في أول باب خان الزيت لتناول الكنافة. كان الذهاب إلى مثل هذه الأماكن في ذلك الزمن يعتبر امتيازاً لا يقدر عليه إلا من يملك دخلاً ثابتاً، وكان فيه تعبير عن علاقة حميمة مع المدينة، تتوثق مع الأيام.
وكان لا بد لي من مغادرة القدس إلى رام الله بعد عصر الجمعة، حيث يصطف باص خربثا بني حارث الذي يوصلني مساء إلى القرية، استعداداً لبدء الدوام المدرسي صبيحة السبت (كان من الصعب الوصول إلى القرية صباح السبت لندرة المواصلات آنذاك، حيث يتحرك الباص صباح كل يوم من القرية ويعود إليها في المساء).
ولم يكن الاحتفاء بوظيفتي وقفاً على أبي وحده، بل شارك في ذلك عدد من أقاربي، كما لو أن الأمر يخص كل واحد منهم على نحو ما. ذات يوم، جاء خالي الذي سوف يعمل زبالاً في سنوات لاحقة، لزيارتي في المدرسة. هو لم يأت خصيصاً للزيارة، بل كان يعمل حارساً في ورشة لشق الطرق في موقع قريب من القرية التي أعمل فيها، فاغتنم فرصة وجوده قريباً من مكان عملي. سأل عن موقع المدرسة فدلّه أحد رجال القرية عليها. دخل علي غرفة الصف وأنا منهمك في تعليم التلاميذ درساً في اللغة العربية، ولم تكن المدرسة تتكون إلا من غرفتين اثنتين، ولم يكن فيها سوى معلمين اثنين، أنا وشخص آخر. جلس خالي على الكرسي المخصص لي للجلوس عليه، وتبادل معي مجاملات مألوفة وهو يتأمل التلاميذ الجالسين على المقاعد.
وكان يمكن للزيارة أن تتم دون حوادت مفاجئة، لولا أن ذبابة مرت قريباً من وجه خالي، فأثارت استياءه كما يبدو، فاتخذ قراراً فورياً بتصفيتها جسدياً. ترصدها حتى عاودت مرورها قريباً من وجهه، فأطبق عليها بكفيه محدثاً اصطفاقاً مدوياً، ما جعل التلاميذ مندهشين من هذه الحركة المباغتة، وما جعل بعضهم يلجأ إلى ضحك مكتوم. غير أن خالي لم يجد الذبابة حينما تفقد كفيه. تفادت الخطر في اللحظة المناسبة، ما أدخل شيئاً من القنوط إلى نفس خالي، كما لو أن هدف زيارته لي تمحور حول هذه القضية الطارئة دون غيرها. شعرت بشيء من الأسى لأن ثمة أحداثاً صغيرة تقتحم سياق حياتنا فتجعلنا أقرب إلى الهشاشة من أي شيء آخر. في ذلك النهار تناول خالي طعام الغداء في بيتي الذي استأجرته في القرية، ثم عاد إلى مكان عمله.
وجاء عمي الكبير لزيارتي أيضاً. غير أنه لم يأت خصيصاً ولم يتناول طعام الغداء في بيتي. كان يشرف على مجموعة ورش لشق الطرق، وكانت الدائرة التي يعمل مراقباً عاماً فيها تضع سيارة جيب يقودها سائق، تحت تصرفه. حينما وصل المدرسة وهبط من سيارة الجيب، ورآه زميلي الآخر والتلاميذ وبعض أهل القرية، شعرت بنشوة لا مزيد عليها. فقد رفعت هيبة عمي التي لم تخف على الحاضرين من أسهم عائلتي إلى حد لم تعد ثمة ضرورة لإقامة الدليل عليها بعد هذا الدليل الملموس. ولم يطل عمي الجلوس كثيراً في المدرسة، شرب فنجان قهوة ومضى تاركاً خلفه ذكرى ممتعة. وقد استثمرت هذه الزيارة في التوسط لعدد من أبناء القرية لدى عمي، حيث منحهم فرصاً للعمل في الورش القريبة من قريتهم.
كنت في تلك المرحلة من العمر معنياً بإظهار مكانة عائلتي أمام معارفي وزملائي، وذلك بتأثير من الوسط الاجتماعي الذي كنت على تماسٍّ معه، وبتأثير من الوضع الطبقي السائد في البلاد آنذاك. لم تكن لعائلتي مكانة متميزة كثيراً، فهي متحدرة من أصول بدوية لا تملك مالاً كثيراً ولا أرضاً شاسعة. ومع ذلك، كان اسم جدي لأبي يعطيها قيمة في أوساط القرويين وعشائر البدو التي تقيم في مناطق متاخمة لقريتنا.
يتبع..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا