الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في فلسفة الصراع

سامح عسكر
كاتب ليبرالي حر وباحث تاريخي وفلسفي

2021 / 7 / 25
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


كم من أمور الحياة تحتاج للنظر والتأمل لفهمها بعيدا عن سياقاتها المضللة، فأنت لن تفهم العلاقة بين الرجل والمرأة من خلال السياق الديني فقط أو السياسي فقط بل هي علاقة معقدة يشتبك معها العلم مع الدين مع الاجتماع مع العقل والبيولوجي والفسيولوجي والسيكولوجي..إلخ، كذلك لن تفهم العلاقة بين السنة والشيعة في الإسلام أو الكاثوليك والبروتستانت في المسيحية من خلال السياق الديني والسياسي فقط، بل يتطلب ذلك أن تنظر لظلال تلك العلاقة في النفس البشرية أولا وموقفها من الآخر بالمجمل، فالسني الذي يكره الشيعي والعكس سيسهل عليه كراهية أي جهة لأصالة هذا الفعل العنيف في جسده وبساطة الجنوح للعنف في رأيه..

من هذا المدخل رأيت أن الصراع الإنساني ليس وليد الحدث نفسه موضع الإشكال بل تتداخل فيه عدة عوامل مجتمعة، وفي تقديري أن أبسط مثال لشرح هذا الصراع هو نموذج الشجرة القوية التي تنمو بمفردها في الحديقة أو الغابة..إذا زاحمتها شجرة أخرى قوية سيحدث الصراع على أيهما ،أولا: أكثر طولا لفرض هيمنة الفروع على الأقصر، فالشجرة الطويلة التي تقي نفسها حرّ الشمس ستفرض نفسها على القصيرة بمقابل خضوعها وانسحاقها نظير حمايتها من الشمس أيضا، وثانيا: على المعان في التربة حيث ستسحب القوية أكثرية معادن التربة للاستفادة منها في التمدد والرسوخ وتقوية الجذور، وقد يكون هذا السلوك من الشجرة القوية مصدره المنافسة الشريفة والصراع على الطاقة والثروة، أو قد يكون مصدره النرجسية والأنانية لا غير..

الفضاء الكوني الذي نعيشه ملئ بالثروات ومسببات الصراع البشري الذي نعيشه، فالأمر لا يتعلق فقط بالثروات المادية بل بالشعور وتصور تلك المواد نفسها في داخل جسم الإنسان وكينونته، فعلى سبيل المثال يرى الرجل الأناني والعنصري ضعف صوت وجسد المرأة كإشارة على قابلية النساء للخضوع والانسحاق، فيكون تصرفه مبنيا على زهو القوة بالأساس..وتلك الجزئية التي تفسر سلوك المجتمع القرووسطي تجاه الإناث في الماضي البعيد وحتى الآن من قِبَل الحركات الدينية المتطرفة التي لم تغادر بعد هذا المجتمع، وكذلك فالأنثى الضعيفة من الداخل سترى في قوة الرجل فرصة للبقاء..وهو مصدر الأقاويل الشعبية الدارجة في التعبير المصري (ظل راجل ولا ظل حِيطة) كتعبير عن شعور المرأة بالانسحاق الداخلي مما يلزمه تزلفا وخضوعا واعترافا بالسيادة للذكر..

إن هذا المثال أقرب لنموذج الشجرة، فالنبات الضعيف الذي ينمو بالقرب من نباتٍ قوي يحتاج لظلاله آليا كي يصمد ضد حرارة الشمس، ويحتاج لمعادنه ليظل النبات راسخا في الأرض لا يذبل بفقدان تلك المعادن، لذا فعندما أرى نموذج المرأة السلفية التي تدافع عن مفاهيم (نقصان عقلها وميراثها وحقوقها) أفهم مباشرة على أنه لولا الانسحاق الأنثوي بداخلها ما رأت في الذكور فرصة للنجاة، على عكس المرأة القوية التي تكره ذلك الانسحاق وتراه ظلما يستوجب المقاومة، وأن ظلم الذكور لا يختلف عن ظلم الحكومة للشعب ولا عن أنانية ونرجسية الأشرار في تلذذهم بآلام ومعاناة الآخرين.

هنا سيكون المقابل صراعا بين الرجل والمرأة على أيهما أكثر طولا في عنان السماء وأكثر رسوخا في باطن الأرض، وحدوث ذلك معناه أن الفرصة صارت للمرأة في الحصول على الزعامة كون تنافسها الشريف مع الذكر في القيادة والثروة سيعطيها الأهلية والقوة ليرى بعض الذكور أنفسهم خاضعين لإناثهم ، وهذا سر من أسرار العلاقات الاجتماعية والأسرية التي تسيطر فيها المرأة على الرجل، أو بالتعبير الشعبي (رجل ماشي ورا مراته) أو (بتاع أمه) للاعتراض فقط والسخرية من تبدل الحال وخضوع هذا الرجل لإحدى الإناث، والقائل لم يدرك أن تلك الحالات التي تهيمن فيها الأنثى على الذكر هي نفسها الحالات التي بدأت فيها سيطرة الذكر على الأنثى قديما وتفسيرها في المثال السابق بشعور أحد الطرفين بالانسحاق وأنه لا معنى لحياته سوى بالآخر

وينطبق ذلك على الأديان والمعتقدات والأحزاب، فالسني الذي هيمن على تاريخ المسلمين طوال 1400 عام ويشكل مجموع 70% تقريبا من عدد المسلمين لن يرى الشيعي سوى ضعيفا كالذكر الذي يرى أنثاه، ومثلما يفرض الرجل على النساء طاعته فالسني سيفرض على الشيعي طاعته، وهذا مصدر فكر (السلطوية) عند السنة وإنكارهم لأي ظهور شيعي ولو بسيط يُفهَم منها تنافسا على السيادة، وقد رأيت ذلك فور ظهور قوة إيران الشيعية منذ 40 عاما بشكل يصدم الوعي السني وردود أفعاله العنيفة تجاه هذا الظهور الشيعي البسيط، فلم يكف السنة دولا قوية كباكستان والسعودية ومصر وتركيا ونمور آسيا وشمال أفريقيا كمثال، لكن رأوا هذا الظهور الشيعي كما يرى الذكوري المتسلط جماعات النسوية أو "الفيمنست" وبالتالي نفهم أن أشد الناس كراهية للمختلف هو الذي يجلس أقصى يمين ظهوره الدلالي، فالمعنى من وراء القوة الأنثوية دلالة على تهديد كينونة الرجل وتاريخه في السيادة، كذلك فالمعنى من وراء القوة الشيعية دلالة على تهديد كينونة السني وتاريخه في السيادة.

في المقابل سنرى أن الظروف تخدم أحيانا هؤلاء الضعفاء الذين استفادوا من وجود الأقوياء، فبظاهرة طبيعية وعوامل خارجة عن إرادة الشجرة القوية – كمثال – يتوقف نمو هذه الشجرة وتبدأ مرحلة الاكتفاء والتوقف عن الاستطالة حتى أن جذورها تتأثر بالمناخ والطقس الذي يهدد تمددها ورسوخها في التربة..وبسلوك البشر والحيوانات في الحفر بجوار تلك الجذور، فتنشأ الفرص للأشجار الضعيفة التي كانت تستظل بظلها وتستفيد من معادنها في منافسة تلك الشجرة القوية حتى تبدأ رحلة صعودها هي الأخرى وتتشابك فروعهما كتعبير عن صراع ثنائي على مساحة العيش

وهنا تنشأ ظاهرة فريدة في علم الاجتماع وهي أن الشجرة القوية التي اعتادت على عيشها بشكل منفرد وشعورا بالقوة والزهو تشعر بالملل والوحدة من وصولها لأعلى مستوى صارت فيه وحيدة لا يشاركها أحد، فتنظر لمن دونها كفرصة لكسر هذا الملل فتساعدها على الصعود والنمو أولا: بالصمت على اكتساب الضعفاء لقوتهم وثانيا: بالتلذذ والاستمتاع في رحاب تلك العلاقة الجديدة الضرروية للوجود، وهذا تفسير صمت الأقوياء في بعض الأحيان على صعود الضعفاء بل ومنافستهم أحيانا، فقد لا يفطن القوي مستقبل هذه العلاقة وتهديدها لزعامته لكنه ينظر لما تحت قدميه لشعوره بالوحدة القاتلة وضرورة أن يرى شركاءه في الحياة ومساعدتهم إياه على البقاء، فالإنسان من تلك الزاوية كائن اجتماعي صِرف ومن فرط التنافس بين الأقوياء يصل بعضهم لحالة اكتئاب نفسية قاتلة لوصوله أعلى مستويات الوحدة وفقدان التواصل والأحباب والأصدقاء ، فينظر للآخرين دائما موضع شك حتى يمرض بالهواجس والأوهام.

الإنسان بالعموم ينجذب للقوة والجَمال..لذا فمن يتمتع بهذه الصفات يُصنّف اجتماعيا من الصفوة، فالقوي الذي يفرض هيمنته في الحارة الشعبية أو المعروف بالفتوّة هو نفسه المرأة الجميلة التي يتهافت عليها الرجال، والثري الذي يفرض هيمنته بالمنح والهدايا والرشاوي هو نفسه الذكي الذي يتهافت على رأيه العوام، ومثلما يخضع الضعفاء للقوي أملا في نيل حمايته والتلذذ بسلطاته ونفوذه يخضع الرجال للمرأة الجميلة والتلذذ بجمالها الساحر والعيش معها في خيال منفرد، وقد يكون الجمال على أشكال متعددة منها جمال العقل والروح والشكل فالإنسان أيضا ينجذب للأذكياء والمتسامحين من تلك الناحية..فما بالك لو حصل أحدهم على صفات ( القوة والمال والذكاء والتسامح) هنا يكون من صفوة الصفوة ، وأمثالهم يلجأون إليهم في القُرى والمدن لحل المشكلات..وقديما كانت هذه الفئة تعمل في بلاط الحكام وساحات القضاء لتفردهم وقبولهم الاجتماعي الكبير.

منشأ الصراع هي تلك الفئة تحديدا والتي حصلت بقوتها وجمالها على القبول، فبرغم أنهم يمثلون حلا وعلاجا لمشكلات المجتمع يمثلون أيضا جزءا كبيرا من أزماته، فالحروب والصراعات كما يشعلها الحكام يشعلها أيضا تلك الصفوة إما منافسة (لصفوة أخرى منافسة) أو (خضوعا وانسحاقا لرغبة الحاكم) فالصفوة هنا لا تعني المطلق الحكيم في الزمكان بل هي صفوة نسبية مرتبطة بمجتمع صغير ترى في تنافسها مع صفوة مجتمع آخر نفس العلاقة بين الشجر المتصارع على البقاء، لذا فنصيحتي لنفسي قبل الآخرين لا تعادي قويا وثريا وجميلا وذكيا ومتسامحا من باب الذرائعية..فهؤلاء يملكون قدرا كبيرا من التأثير على أتباعك قبل خصومك، ولا أعنى بذلك الانسحاق والخضوع ولكن ألا ينشأ بينك وبينهم صراعا تافها يمكن تفاديه أو تجاوز مسبباته والحكمة في تناول أبعاده، ولا أعني بذلك أيضا ضرورة أو جواز العداء مع الضعفاء والفقراء والأغبياء ومتوسطي الجمال بل أن علاقتك بالصفوة هي من ستحمي هؤلاء من بطش الصفوة وأنانيتهم التي قد تظهر لأسباب لا تعرفها ولا يمكنك التحكم فيها.

أما الصراع بين تلك الصفوة وبعضها فهو مثير جدا وبشكل شخصي أحب متابعته من باب الفضول، فكما أن مونيكا لونيسكي أسقطت بجمالها الرئيس الأمريكي كلينتون، أسقط محمد علي بذكاءه الحاد سلطة المماليك للأبد..تلك السلطة التي عجز الفرنسيون والعثمانيون عن القضاء عليها بل استعانوا بها من باب تعاون الصفوة على الحكم والإدارة، وكذلك أسقط الخوميني بذكاءه الحاد سلطة الشاه الإيراني..ولا أعني بذلك مدحا للخوميني ومحمد علي ولا قبولي بالثورة الدينية والمجازر الجماعية، بل أعني أن خصوم هؤلاء لم يدركوا هذا الذكاء الحاد في وقته وتعاملوا معه كقوة عسكرية البقاء فيها للأكثر سلاحا ، بينما معايير المعركة والميدان كانت مختلفة تماما وتمثل صراعا خاصا بين الصفوة ربح فيه الأذكياء والحسناوات، فالرجال الذين يلهثون وراء الحسناوات تأثروا بحجج ودعايا لونيسكي قبل النظر لمشروعية فعل الرئيس بالقانون الأمريكي، وكذلك فالعوام الذين يلهثون وراء الأذكياء ويتصارعون ليبقوا بجانبهم صمتوا عن فعل الخوميني ومحمد علي، حتى صمت التاريخ كله عن أهم مجزرة جماعية في العصر الحديث وأهم ثورة دينية ناجحة ربما على الإطلاق.

وأختم بحادثة لطيفة حيث رأيت في حديقة أحد الأصدقاء شجرة جميلة وعظيمة وسط شجيرات مهملات ليسوا بتلك العَظَمة والجمال، فسألت عن سر هذه الشجرة قال الصديق ببساطة أنه يهتم بها في الري والسماد والتهذيب وخلافه ، بل أنه يرعاها كأحد أفراد العائلة، وتلك الحادثة في الواقع مكررة لتثبت جانبا آخر من القصة وهو أن الجمال والقوة قد يكونا مُكتسَبين..فمن يمد الأقوياء والحسناوات بالطاقة والجمال هو الذي يشعرهم بالدفء والوجود كحد أدنى ثم يساعدهم لبلوغ تلك المنزلة الذي قد نرى ذلك في الحياة بعض الزوجات سببا في قوة أزواجهن والعكس صحيح، وبعض الجماهير سببا في قوة زعمائهم والعكس صحيح، مما يعني وجود علاقة تبادلية في اكتساب هذا القدر من التأثير في ذاتها تعاني من لمحة صراع، وهي أنه لولا إهمال الصديق للشجيرات الأخرى ما حصر اهتمامه بتلك الشجرة العظيمة ولولا إهمال الزعماء لمصالح شعوب ومجتمعات أخرى ما حصل على زعامة مجتمعه..

فمثلما رعى هذا الصديق شجرته بالماء والجهد والمال يرعى الأزواج أنفسهم بالحب والدفء والمداعبات واللُطف حتى يتحول هذا الجمال وتلك المشاعر لقوة نفسية وأسرية هائلة تجعلهم قادرين على تحمل الصعوبات ومشقات الحياة، ومثلما أهمل شجيراته يهمل بعض الأزواج علاقتهم حتى تجف وتبرد ثم تشعل حريقا لأتفه الأسباب..ومصدر ذلك الإهمال في العادة لا يخص العلاقة الثنائية بين الأزواج بل لوجود طرف ثالث يتدخل غالبا من باب الفضول أو حُسن النوايا ، كما أن لو هذه الشجرة العظيمة دعت شجرات أخرى عظيمة مثلها للعيش في الحديقة فسوف يؤدي ذلك لاستنزاف التربة المحدودة حتى تفقد تلك الشجرة العظيمة جمالها ومقوماتها بمرور الزمن، وبعدما كانت الشجيرات الأخرى مهملة لكنها تعيش على الأقل هنا ستموت وتنتهي بفعل هذا الاستنزاف وتلك الأنانية من الشجرة العظيمة..

ويمكن فهم الصراع السني الشيعي على نفس النمط

حيث أنه وبدخول طرف ثالث في تلك العلاقة تعقدت الأزمة تماما واشتعلت بفعل استنزاف التربة الإسلامية وقابليتها على احتواء أبناء المذهبين ولو من باب (القوي والخاضع) أو (الحاكم والمحكوم) لكن الطرف الثالث بدخوله حصل على أموال وجهد وحب وحنان أحد الأطراف فشعر الآخر بالضغينة والحقد، مثلما يفرق الآباء في معاملة أبنائهم حيث وبتفضيل أحدهما على الآخر تنشأ الضغينة والأحقاد التي ظلت موروثة في نسلهم مثلما بقيت هذه الأحقاد في المجتمع العشائري ، فكلما رأينا صراعا قبليا فهمنا أن أجداد هؤلاء لم يكونوا على مستوى المسئولية في التعليم والتربية وأن قصورا خاصا شاب سلوكهم في تفضيل أبنائهم مما ورّث الأبناء هذا الحقد المتبادل ، الذي لم يتوقف على الحروب الخاصة بينهم بل رأوا في الحرب مع أصدقائهم الغرباء فرصة لرد الجميل وتعويض هذا الشعور بالنقص

مثلما يخطئ بعض العرب الآن في الحرب لصالح أمريكا مثلا أو لصالح إيران، وقديما كان الغساسنة يحاربون لصالح الروم والمناذرة لصالح الفرس ، هذا أصله جفاف المشاعر بين الأخوة للحد الذي صار فيه العداء هو الطبيعي وما دون ذلك هو عارِض، ولو طبقنا ذلك على مثال الأزواج فالبشرية تبحث عن الجنس كسلوك غريزي مملوك بالأصالة لا أحد ينازعهم فيه ، وهو يعني أن الرجل والمرأة لو لم يجدا ضالتهما الجنسية مع شريك مشروع سيجدوها بطريق غير مشروع، وعقاب المجتمع هنا لا طائل منه فهو أشبه بعقاب الطفل على بكاءه..بينما بكاء الطفل غريزي وطبيعي بينما الجنس غريزي وطبيعي، ومثلما وجد العربي ضالته قديما مع الفرس والروم كطريق يشعره بالدفء والحب والمصلحة وجد الشريك الجنسي شريكه بنفس الصورة، مما يعني أن ما يسميه البعض (خيانة وعمالة) هو سلوك طبيعي للإنسان يحدث بفقدان حاجته الطبيعية وعقاب مجتمعه على فعل منه يراه عاديا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تونس.. ا?لغاء الاحتفالات السنوية في كنيس الغريبة اليهودي بجز


.. اليهود الا?يرانيون في ا?سراي?يل.. بين الحنين والغضب




.. مزارع يتسلق سور المسجد ليتمايل مع المديح في احتفال مولد شبل


.. بين الحنين والغضب...اليهود الإيرانيون في إسرائيل يشعرون بالت




.. #shorts - Baqarah-53