الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جانب من فلسفة الخلق وعلاقته بفيضان النيل فى الديانة المصرية القديمة

داليا سعدالدين
باحثة فى التاريخ

(Dahlia M. Saad El-din)

2021 / 7 / 31
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


دراسة الفولكلور أو التراث الشفاهى لشعب من الشعوب، فرع هام من فروع الحضارة الإنسانية منوط بدراسة مظاهر الحضارة لهذا الشعب، وميادين دراسته عديدة أهمها العادات والمعتقدات والمعارف والفنون الشعبية فضلاً عن الثقافة المادية، وقد ظهر كدراسة علمية في أوروبا خلال منتصف القرن التاسع عشر الميلادى، كما أن الضمير الجمعى أو الوعى الجمعى - تلك النظرية التى أسس لها عالم الاجتماع الفرنسى إميل دوركايم - يعد عامل أساسى من عوامل انتقال المعرفة الإنسانية عبر الأجيال، فالأب يعلم ابنه، وكذا الابن يعلم الحفيد، ... إلخ، لتصل وتنتقل المعرفة والثقافة لشعب ما، لأجيال عبر أجيال، وقد يشوب تلك المعرفة جانب من الأسطورة التى تعبر عن قدرة الكائن البشرى على مزج الواقع بخيال مؤلف.
وتشكل مسألة خلق البشرية وبداية نشأتها، وما حيك حولها من أساطير جانب هام جدا فى الميراث الشفاهى لكل شعوب العالم، وتلك المسألة ارتبطت بشكل أساسى بالعقائد الدينية عند شعوب العالم القديم، وقد ورثها عالمنا المعاصر، بطريقة أو بأخرى. وكما كان للقارة الأفريقية الفضل فى تعليم شعوب العالم مبادىء العلم من خلال الحضارة المصرية القديمة، كان لنفس تلك الحضارة القديمة ميزة التفلسف وسرد قصة خلق البشر؛ كونها ارتبطت بفلسفة الديانة مصر القديمة.
ذلك أن الأصل فى فلسفة الديانة المصرية القديمة أن الإله الخالق "أتوم" خلق الشعب المصرى من دمعة عينه وعلى شاكلة الألهة، إلا أن ذلك الإنسان قد حكم عليه بعدم الأبدية والموت بسبب سقوط تلك الدمعة على الأرض، فى حين أنه خلق بقية البشر من خلال نثر ضيائه أو وميض نوره، لهذا كان المصريين يشعرون طوال عصور قديمة بميزة تفوقهم على سائر البشر، خاصة وأن "أتوم" قد أولاهم برعايته وحباهم بعلمه، ليتفوقوا بنعمتى الخلق الأول والعلم، ولا شك أن كثيرا من المصريين حتى يومنا هذا يشعرون بشكل لا واعى بميزة محاباة الرب لهم، حتى أنهم فى قصصهم الشعبية يروون لأبنائهم وأحفادهم قصة "سفينة نوح/ الأرك" التى كانت تعبر على كل بقاع الأرض وتحميها الملائكة، وما إن وصلت لشواطىء مصر طارت الملائكة وقالوا لنوح إن هذه الأرض يحميها الله بذاته.
وتختلف قصة الخلق فى فلسفة الديانة المصرية - نوعا ما - عما تذكره ديانات أخرى أحدث تاريخيا. فأغلب ديانات المنطقة المحيطة بمصر تتفق فى أن موقع الآلهة ونشأتهم يكون فى السماء. إلا أننا نجد المذاهب الفلسفية للديانة المصرية تتفق على أن الآلهة فى الأصل كان موقعها فى الأرض، ولكن ما حدث من خطيئة البشر نحو الآلهة، هى ما دفعت الآلهة إلى ترك الأرض والاستقرار فى السماء. ومن ناحية أخرى، فرغم اتفاق تلك المذاهب الفلسفية حول أساس نشأة الكون والكيانات المقدسة، وأيضا أنصاف المقدسين، أو ما اصطلح عليه بأنصاف الآلهة – التى كانت تسكن الأرض؛ إلا أن تفاصيل القصة المصرية نفسها تختلف بحسب المذاهب الفلسفية المتزامنة أو المتعاقبة، ويكمن هذا الاختلاف فى إبدال اسم "النثر/ المقدس" باسم "نثر/ مقدس" أخر حسب مرتبة تقديسه فى إقليم منشأ المذهب الفلسفى، وعلى حسب التغييرات السياسية خلال مراحل التاريخ. إذ كانت المتغيرات السياسية وتأثيراتها من أهم اسباب تحديد مصير كيان مقدس بعينه، إما بالاختفاء لبعض الوقت أو الاختفاء التام، أو بالارتقاء إلى مرتبة أعلى على مسرح الحياة الدينية.
ففى حين تتفق جميع تلك المذاهب الفلسفية فى كيان المحيط الأزلى الأول "نون"، والذى يمكن ترجمته إلى اللغة العربية بمعنى "الأزلى ذاته"؛ حيث يتكون من أربعة أزواج، مكونين من أربع كيانات ذكرية يرمز لكل كيان منهم "بضفدع" فى حين يرمز لكل كيان من الكيانات الأنثوية الأربع الأخرى "بالأفعى"؛ وهم على الترتيب:
- نون ونونت: أى "المياه".
- حوح وحوحت: أى "الأزلية أو الأبدية".
- كوك وكوكت: أى "الظلام أو العتمة المطلقة"
- آمين وآمينت: أى "الخفاء"، ولابد من الإشارة إلى أن آمين هو الذى أطلق عليه علماء الغرب اسم آمون.
ولا شك فى أن التفسير الميتافيزيقى السابق قد ارتبط بظاهرة الفيضان التى تجتاح وادى النيل كله؛ إذ تغمر المياه الأرض وتجرف فى وجهها كل ما يعترض مسارها؛ لذا أعتقد أن اختيار رمزية كلا من الضفادع والأفاعى ترجع فى أساسها لكونهما كائنات تظهر عادة فى الأراضى الطينية والمياه الضحلة التى تحدث بعد انحسار الفيضان. كما تجدر الإشارة إلى أن لكل من الضفدع والأفعى دلالات رمزية أخرى، حيث كان اختيار الضدع يكمن فى قدرته الهائلة فى التناسل؛ إذ تتزايد أعداد الضفادع خلال فترة انحسار الفيضان، وهو ما يمثل دلالة على عودة الحياة، لذا كان يرمز بالضفدع إلى العدد 100 ألف الذى ينطق "حفن" فى اللغة المصرية القديمة، والتى مازالت دارجة فى اللسان المصرى حتى الآن حيث يقال "حفنة" وقصد بها جمع كثيرٌ من شىء يملأ الكفين معا، أو أحدهما. أما الأفعى أو الكوبرا التى كانت منتشرة فى بقاع مصر، فقد كانت ترمز لكونها "الحامية" وأيضا "نار الشمس الحارقة"، خاصة وأن ثامون الأشمونين الذى يعتقد أنه أقدم تصور فلسفى لنظرية الكون فى مصر القديمة، كان يصور "جزيرة اللهب" التى يعلوها الـ "تاتين" أو "التل الأزلى" تقبع وسط مياه "نون"، ومن ثم فإن الأفعى أو الكوبرا وهى "ﭽت" التى اندمجت بعد ذلك مع النثر"واﭽت" حامية تاج الشمال ، كانت للتعبير عن حماية أرض مصر العليا والسفلى معا.
كما تجدر الاشارة إلى أن قدماء المصريين قد رأوا العالم من خلال منظور فلسفى ثنائى متكامل؛ كل منها يكمل الأخر، فالحياة لابد وأن تكون ناجمة عن عنصريين متناقضين ومتكاملين فى ذات الوقت، كالذكر والأنثى، والأرض والسماء، والليل والنهار،... إلخ، وبالتالى فعنصرى الخير والشر متكاملان أيضا، فليس هنالك خير مطلق أو شر مطلق، كما لا يوجد ليل أبدى أو نهار سرمدى، فكلا المتناقضين يكمل الأخر، بل ويكتسب جزءا منه فى إطار تكوينه، فعلى سبيل المثال احتل النثر "ست"، والمعروف بكونه ممثل الشر، فى بعض فترات التاريخ المصرى القديم مرتبة الحامى للملك وأرض مصر بجانب منافسه التقليدى النثر "حورس"؛ إذ نرى مثلا صورة فى معبد أبوسمبل ترجع لعهد الملك المصرى "رمسيس الثانى"، يظهر فيها أن كلا من "حورس وست" يتوليان تتويجه، وكلاهما يقبع على يمينه ويساره على التوالى.
وبالعودة إلى الفلسفة الدينية القديمة، فمن المعتقد أن كهنة الأشمونين من أوائل الذين صاغوا فلسفة قصة الخلق المصرية بشكل أدبى رائع، والأشمونين فى اللغة المصرية القديمة كانت تعرف باسم "خمنو" التى تعنى الرقم "8"، نسبة إلى فلسفة الثامون المقدس للمدينة التى تقع شمال غرب ملوى فى محافظة المنيا حاليا، وخلال التطور اللغوى من اللغة الفصحى القديمة، مرورا بمرحلة تطور جديد خلال فترة الإضمحلال الثانى واحتلال الهكسوس، ثم بدايات استقرار اللغة فى نسختها القبطية أواخر الدولة الحديثة، ثم خلال الاحتلال اليونانى؛ تحولت كلمة "خمنو" إلى "شمون"، وهى التى حرفت من الرقم "شمين أى 8" فى القبطية القديمة، ومنها كان النطق القبطى الحالى للكلمة، وهو "الأشمونين". ووفقا لفلسفة هذا الثامون لم يكن فى بدء الخليقة سوى "اللاوجود" حيث المحيط الأزلى "نون"،
وخلال مرحلة مبكرة من تاريخ توحيد قطرى مصر سياسيا، اندمجت فلسفة الأشمونين مع فلسفة التاسوع المقدس - مذهب مدينة "أون" أو هليوبوليس/ عين شمس– حيث صاحب العرش الأعظم الإله "إتوم" المكون بذاته لكل الكيانات النورانية المقدسة بالمحيط الأزلى "نون". والإله "إتوم" يعنى فى اللغة المصرية "المطلق أو الأزل"، حيث أنه هو الذى أوجد ذاته بذاته، كما أوجد الـ "تاتين" أو الـ "بنبن" وهو التل الأزلى الذى يقبع عليه العرش بعد انحسار المياه الأزلية – أى الفيضان - على عرش الآلهة، وبذلك يكون هو سيدهم.
وأما قصة خلق البشر فى الفلسفة المصرية فترتبط بقضية مساعدة أو خدمة الآلهة؛ إذ تم خلق المصريين لزراعة الأرض وتحضير الوجبات والمشروبات للآلهة، وقد خلقهم الإله الأول الأزلى على نفس شكل الآلهة. وقصة ذلك الخلق تتجلى فى نصين، الأول يقول أنه خلال دمعة ذرفها "أتوم" من عينه خلق الـ "رمث"، والأخر يرى أن إحدى عينى النثر "رع" تاهت عنه وبعد عودتها ذرفت دمعة بعد رؤيتها أن "رع" قد استبدلها بأخرى؛ ومن هذه الدمعة أيضا تم خلق شعب الـ "رمث" أى المصريين على ضفاف نفس النهر المقدس وفى نفس الأرض المقدسة التى كان يعيش عليها الآلهة. أما بقية البشر فقد خلقهم النثر "أتوم" من نثر ضياءه. والنصان أيضا يتفقان فى مسألة خلق عموم البشر، والذين هم الـ "حعو نب"فى اللغة المصرية القديمة.
إلا أن كل تلك المخلوقات الجديدة قد حكم عليها بالفناء وعدم الأزلية، فبالنسبة لشعب الـ "رمث" أى المصريين فعليهم القيام برحلة الانتقال عبر الضفة الغربية للنهر حيث يرقد الأموات؛ لأن دمعة عين النثر "أتوم" نفسه، أو دمعة العين العائدة للنثر "رع"، قد سقطت على الأرض، لذلك كان لزاما على المصريين "التنيح" أى الارتياح من مشقة الحياة وتعبها بالراحة النسبية والعمل الخفيف فى الحياة الأزلية الأخرى التى ينتقلون إليها بعد رحلة الموت التى يعقبها مراحل الحساب أمام القضاة.
بهذا التفسير الميتافيزيقى لنشأة الكون وخلق البشر، فسر قدماء المصريين نشأتهم واستقرارهم على ضفتى نهر النيل، كما فلسفوا قضية الفيضان وفكرة إعادة الحياة مرة أخرى بعد ضغيان مياه النيل على كل شبر فى الوادى. وقد أطلق قدماء المصريين على أرضهم التى يسكنوها اسم "كمت" أى "الكاملة"؛ ذلك أن فى أرض مصر كل ما يحتاجونه من مياه وأرض خصبة وشمس ساطعة، وجو معتدل.

ــــــــــــــــــــــــ
- المقال تفصيلة من محور فى بحث "التراث الشفاهى وعقيدة الشعب المختار: دراسة على مصر وإثيوبيا"، الذى تم طرحه فى المؤتمر الدولى الثالث للثقافات الأفريقية، أسوان، مصر: 25 إلى 28 سبتمبر 2017.
- بعض المراجع يمكن الاستفادة منها للمزيد:
الديانة المصرية القديمة، ياروسلاف تشرنى، ترجمة، أحمد قدرى (دكتور)، القاهرة: دار الشروق، 1996.
عبد العزيز صالح (دكتور): الشرق الأدنى القديم – مصر والعراق، القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 2012.
Breasted , J. Henry (1912) “Development of Religion and Thought in Ancient Egypt”, Lectures delivered on the Morse Foundation at -union- Theological Seminary, New York: Charles Scribner s Sons








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما الهدف وراء الضربة الإسرائيلية المحدودة في إيران؟|#عاجل


.. مصادر: إسرائيل أخطرت أميركا بالرد على إيران قبلها بثلاثة أيا




.. قبيل الضربة على إيران إسرائيل تستهدف كتيبة الرادارات بجنوب س


.. لماذا أعلنت قطر إعادة -تقييم- وساطتها بين إسرائيل وحماس؟




.. هل وصلت رسالة إسرائيل بأنها قادرة على استهداف الداخل الإيران