الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ٱلْأَنَــــا: ظَاهِرِيَّاتُ ٱلْتَّدْلِيْلِ وَبَاطِنِيَّاتُ ٱلْتَّذْلِيْلِ (2)

غياث المرزوق
(Ghiath El Marzouk)

2021 / 7 / 31
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


حَتَّى لَوْ تَشَيَّأَتْ فِي عُقْرِ دَارِهَا ٱلْخَاصِّ
اَلْأَنَا لَيْسَتْ فِي شَيءٍ مِنَ ٱلْسَّيِّدِ ٱلْمِخْمَاصِ
زيغموند فرويد

(2)

كما سَبَقَ ذكرُهُ في القسمِ الأوَّلِ من هذا المقالِ، يتبدَّى الجهازُ النفسانيُّ مُحَدِّدًا كينونةَ الحياةِ الذهنيةِ رُمَّةً في إطارِ «بنيتِهِ الطوبوغرافيةِ الثانيةِ»، وذلك بعدَ تَبَلْوُرِهَا الحَدِّيِّ من إطارِ «بنيتِهِ الطوبوغرافيةِ الأولى»، يتبدَّى باعتبارِهِ جهازًا كَنِينًا تحدِّدُهُ مكوِّناتٌ أساسيةٌ ثلاثةٌ تمَّ تحديدُهَا بالاِصطلاحِ المُؤَاتي، بدورِهَا هي الأُخرى، من لَدُنْ ماهياتٍ، أو «نياباتٍ»، نفسانيةٍ ثلاثٍ، ألا وهي: «الأنا (الشاهدةُ)» The Ego، ذاتُ الوجودِ الوَسْطِيِّ (القائمِ على الوساطةِ)، أوَّلاً؛ و«الأنا الغائبةُ» The Id، ذاتُ الوجودِ السَّبْقِيِّ (القائمِ على الاستنتاجِ)، ثانيًا؛ و«الأنا العليا» The Super-Ego، ذاتُ الوجودِ اللحْقِيِّ (القائمِ على الاستقراءِ)، ثالثًا. وكما سَبَقَ ذكرُهُ أيضًا في معرضِ الكلامِ عن مدى التعاضُدِ «الحَرِيِّ» بينَ هذهِ الماهياتِ النفسانيةِ الثلاثِ وعن مدى إدراكِ هكذا تعاضُدٍ من منظورِ مقدارِ الوعيِ بالعَيْنِ، ثَمَّةَ صنفانِ رئيسيَّانِ متغايرانِ (متضادَّانِ) من الدوافعِ الغَرَزيةِ التي تستمدُّ طاقاتِهَا الرَّغبيةَ من العملياتِ الجسمانيةِ الأوَّليةِ (في الأنا الغائبةِ، في الأغلبِ والأعمِّ). أوَّلاً، «الدافعُ الغَرَزِيُّ الحياتيُّ» (أو إيروس)، ويشتملُ هذا الصنفُ الرئيسيُّ الأوَّلُ، بدورِهِ، على صنفَيْنِ فرعيَّيْنِ هما: «الدوافعُ الغَرَزيةُ الصَّائنةُ للجنسِ»، و«الدوافعُ الغَرَزيةُ الحافظةُ للذاتِ». ثانيًا، «الدافعُ الغَرَزِيُّ المماتيُّ» (أو ثاناتوس)، ويتضمَّنُ هذا الصنفُ الرئيسيُّ الثاني، بدورِهِ كذاك، صنفَيْنِ فرعيَّيْنِ أيضًا هما: «الدوافعُ الغَرَزيةُ الساديةُ»، و«الدوافعُ الغَرَزيةُ المازوخيةُ». وبما أنَّ الدوافعَ الغَرَزيةَ الحافظةَ للذاتِ لَدوافعُ مُخَصَّصَةٌ للأنا (الشاهدةِ)، أو مَعْزُوَّةٌ إليها تحديدًا، فإنَّ التشابهَ الجوهريَّ الحاسمَ بينَ الأنا (الشاهدةِ) والأنا الغائبةِ، إذن، لَوشيجُ الاتصالِ بأيٍّ من الأَقْسِمَاءِ اللاواعيةِ لهذهِ الدوافعِ الغَرَزيةِ بالذواتِ. وفي هذا ما يفسِّرُ الجزمَ على محتوى الأنا (الشاهدةِ)، أو على محتوى الأنا العليا، بقدرِ ما يخصُّها الأمرُ كذلك، باعتبارِهِ محتوىً لا ينتمي إلى نطاقِ نظامِ الوعيِ انتماءً قَطْعِيًّا البتَّةَ. ويدلُّ هذا الجزمُ، أيضًا، على أنَّ الشكلَ الأكثرَ بدائيةً للأنا (الشاهدةِ)، ذلك الشكلَ الذي يحرِّضُهُ بدئيًا عينُ التماهي «البدائيِّ»، كما سبقَ شرحُهُ في البدايةِ، إنَّمَا هو شكلٌ يضمُّ الأقسِمَاءَ ما قبلَ الواعيةَ لكافَّةِ الدوافعِ الغَرَزيةِ التي يتمُّ تخصيصُها للأنا الغائبةِ تخصيصًا لاواعيًا. لهذا السببِ، يميلُ فرويد إلى وصفِ الأنا (الشاهدةِ)، تارةً، وإلى وصفِ الأنا الغائبةِ، طورًا، بتعبيرٍ واحدٍ من هذا الخصوصِ، تعبيرٍ يشيرُ إلى أنَّ كلاًّ من هٰتَيْنِ الماهيَّتَيْنِ النفسانيَّتَيْنِ يمثِّلُ «الاحتياطيَّ المديدَ» لِلِّبِيدُو، تحديدًا. إذا كانَ ما يقصدُهُ فرويد من هذا التعبيرِ صحيحًا، بالفعلِ، فليستِ الأنا (الشاهدةُ) والأنا الغائبةُ، إذن، سوى نسختَيْنِ (متفرِّعتَيْنِ) من ماهيةٍ نفسانيةٍ أصليةٍ (أو بدائيةٍ) واحدةٍ، بحيثُ يمكنُ القولُ إنَّ الأنا (الشاهدةَ) ماهيةٌ نفسانيةٌ (فرعيةٌ) متحوِّلةٌ وإنَّ الأنا الغائبةَ ماهيةٌ نفسانيةٌ (فرعيةٌ) ثابتةٌ، في المسارِ الطبيعيِّ لسيرورتَيِ التطوُّرِ اللبيديِّ والتطوُّرِ الأنَوِيِّ.

فمن جرَّاءِ هذا التعاضُدِ «الحَرِيِّ» بينَ الماهياتِ النفسانيةِ الثلاثِ وإدراكِهِ من منظورِ مقدارِ الوعيِ، يتبيَّنُ الرباطُ الثنائيُّ الذي ينشأُ بينَ الأنا الغائبةِ وبينَ كلٍّ من الماهيتَيْنِ النفسانيتَيْنِ الأُخريَيْنِ – الأنا (الشاهدةِ) والأنا العليا، يتبيَّنُ من مجرَّدِ تحوُّلِ اللبيدو الشيئيِّ إلى اللبيدو الأنَوِيِّ، كما أُشِيرَ إليهِ قبلاً: إذ يجري تنشيطُ اللبيدو الشيئيِّ في الأنا الغائبةِ، من ناحيةٍ أولى، ويجري تحريكُ اللبيدو الأنَوِيِّ في الأنا (الشاهدةِ) تحتَ «رقابةِ» الأنا العليا، من ناحيةٍ أُخرى. ويظهرُ أيضًا أنَّ تحوُّلَ اللبيدو الشيئيِّ إلى اللبيدو الأنَوِيِّ ذاتهِ ليلقي الضوءَ على الرباطِ الثنائيِّ الذي يحدثُ بينَ الأنا (الشاهدةِ) وبينَ كلِّ من الماهيتَيْنِ النفسانيتَيْنِ الأُخريَيْنِ – الأنا الغائبةِ والأنا العليا، لأنَّ هذا التحوُّلَ يُمَكِّنُ الأنا (الشاهدةَ) من اكتسابِ إمكانيةِ المَنَالِ الموجَّهِ من الأنا الغائبةِ والأنا العليا في آنٍ واحدٍ، فينجمُ عن ذلك توطيدٌ، أو تعميقٌ، في التجاورِ بينَ الأنا (الشاهدةِ) والأنا الغائبةِ، من زاويةٍ أولى، وينجمُ عنهُ تخفيفٌ، أو تسطيحٌ، من التنائي بينَ الأنا (الشاهدةِ) والأنا العليا، من زاويةٍ أُخرى. ووَفْقًا لذلك، فإنَّ الرباطَ الثنائيَّ الذي يتولَّدُ بينَ الأنا العليا وبينَ كلٍّ من الماهيتَيْنِ النفسانيتَيْنِ الأُخريَيْنِ – الأنا (الشاهدةِ) والأنا الغائبةِ، إنَّمَا هو رباطٌ مرهونٌ بالتوسُّعِ التدريجيِّ في وعيِ الأنا (الشاهدةِ) إلى محتواها، من طرفٍ أوَّلَ، ومتوقفٌ كذاك على الكيفيةِ التي تمثِّلُ بها هذهِ الأنا ذاتَها بإزاءِ الأنا الغائبةِ، من طرفٍ ثانٍ. فمن الجليِّ أنَّهُ، لدى التوسُّعِ التدريجيِّ في وعيِ الأنا (الشاهدةِ) إلى محتواها، ذلك الوعيِ الذي يتناسبُ طردًا معَ وعيِهَا إلى محتوى الأنا الغائبةِ، لابدَّ للأنا (الشاهدةِ) من أن تُكِنَّ الكُمُونِيَّةَ في تنسيقِ محتواها ذاتِهِ، على وجهِ التحديدِ، لكي تُعِينَهَا هذهِ الكمونيةُ في التعاملِ بانسجامٍ مع أصولِ ذلك «الشَّوَاشِ» المتأصِّلِ في محتوى الأنا الغائبةِ. ومن الجليِّ أيضًا أنَّ الأنا الغائبةَ، بمحتواها اللاواعي لاوعيًا قطعيًّا، تميلُ إلى تأديةِ دورِ الوكيلِ اللبيديِّ، أو حتى العاطفيِّ، للنزوعاتِ الرَّغبيةِ (كالرغباتِ أو الأماني) في العالَمِ الباطنيِّ بغيةَ السَّعْيِ وراءَ الإشباعِ اللاموجَّهِ، في حينِ أنَّ الأنا (الشاهدةَ)، بمحتواها الواعي وعيًا غيرَ قطعيٍّ، تميلُ إلى تأديةِ دورِ الوكيلِ التفكيريِّ، أو الإدراكيِّ، للنزوعاتِ اللارَغَبيةِ (كالصُّوَرِ أو الفِكَرِ) في العالَمِ الظاهريِّ بغيةَ السَّعْيِ وراءَ التكييفِ الموجَّهِ بدلاً من الإشباعِ اللاموجَّهِ. وهكذا، فإنَّ الأنا العليا، بوَصْفِهَا تلك الماهيةَ النفسانيةَ التي تعي إلى محتوى الأنا الغائبةِ وعيًا أكثرَ مِمَّا تعي إليهِ الأنا (الشاهدةُ)، لَتَتَّسِمُ بسمةِ القيامِ بدورِ الوكيلِ الاجتماعيِّ، أو الأخلاقيِّ، للنزوعاتِ الرَّغبيةِ في العالَمِ الباطنيِّ – أي عالَمُ الأنا الغائبةِ بالذاتِ. لهذا السببِ، كثيرًا ما يجري استخدامُ مصطلحِ «الأنا العليا» The Super-Ego (في مؤلفاتِ فرويد، على الأخصِّ) كمُرادفٍ علميٍّ لمصطلحِ «المثالِ الأنويِّ» The Ego-Ideal (في كتاباتِ لاكان، في المقابلِ)، كما سيتمُّ إيضاحُهُ فيما بعدُ في هذا القسمِ الثاني من المقالِ (انظرا، أيضًا، الحاشية: 14 أدناه). وبالتالي، يظهرُ أنَّ الأنا العليا، كما هي بدلالةِ دورِهَا بحرفيَّتِهِ، تتمثَّلُ بوصفِهَا ماهيةً نفسانيةً «مُكْتَسَبَةً» فعليًّا، ماهيةً وظيفتُهَا الرئيسيةُ، إنْ جازَ التعبيرُ هنا، هي أن تأمرَ الأنا (الشاهدةَ)، بوصفِهَا ماهيةً نفسانيةً «فطريةً- مُكْتَسَبَةً»، أمرًا «حَرِيًّا» بالسيطرةِ على كلِّ الدوافعِ الغَرَزيةِ التي يتمُّ قمعُهَا في الأنا الغائبةِ، بوصفِهَا ماهيةً نفسانيةً «فطريةً»، فتأمرُهَا (أي تأمرُ الأنا (الشاهدةَ) بالعَيْنِ)، من ثمَّةَ، بالحفاظِ على التوازنِ «المرغوبِ فيهِ» بينَ العالَمِ الباطنيِّ والعالَمِ الظاهريِّ.

يستتبعُ ممَّا سَبَقَ ذكرُهُ، إذن، أنَّ الاختلافَ الجوهريَّ الحاسمَ بينَ الأنا (الشاهدةِ)، باعتبارِهَا ماهيةً نفسانيةً «مُنَسَّقَةً نسبيًّا» Relatively Organized، وبينَ الأنا الغائبةِ، باعتبارِهَا ماهيةً نفسانيةً «لامُنَسَّقَةً مُطْلَقًا» Absolutely Nonorganized، لَيُمْكِنُ الآنَ إدراكُهُ بشيءٍ من اليَسَارِ، وخصوصًا فيما لَهُ مِسَاسٌ بطابعِ ونوعِ المبدأِ الذي يميلُ إلى «إرشادِ» كلٍّ من هٰتَيْنِ الماهيتَيْنِ النفسانيتَيْنِ: إذ يشيرُ هذا الاختلافُ الجوهريُّ الحاسمُ، فيما يتبدَّى، إلى الصراعِ المستديمِ بينَ العالمِ الباطنيِّ الخاصِّ بالأنا الغائبةِ وبينَ العالمِ الظاهريِّ الخاصِّ بالأنا (الشاهدةِ)، ذلك الصراعِ الذي تتوغَّلُ جُلُّ جذورِهِ توغُّلاً في التناقضِ الكاملِ بينَ «عقلانيةِ» العقلِ، أو الرُّشْدِ، من طرفٍ أوَّلَ، وبينَ «لاعقلانيةِ» العاطفةِ، أو الشهوةِ، من طرفٍ آخَرَ. وبناءً على ذلك، تسعى الأنا (الشاهدةُ) سَعْيًا، والحَالُ هُنَا، إلى تطبيقِ، أو الإفادةِ من، مَا يسمِّيهِ فرويد بـ«مبدأ الواقعِ» Reality Principle، وذلك بفضلِ تمثيلِهِ «الواقعيِّ» للعقلِ، أو الرُّشْدِ، ولكلِّ ما يتعلَّقُ بهِمَا، في حينِ أنَّ الأنا الغائبةَ، من لَدُنْهَا، ترضخُ رضوخًا من غيرِ قيدٍ أو شرطٍ لما يدعوهُ فرويد كذاك بـ«مبدأ اللذَّةِ» Pleasure Principle، في المقابلِ، وذلك حَسْبَ تجسيدِهِ «اللذِّيِّ» للعاطفةِ، أو الشهوةِ، ولكلِّ ما يتصلُ بهِمَا. ففي ظاهرِ الأمرِ من هذهِ القرينةِ، يظهرُ أنَّ مبدأَ الواقعِ مبدأٌ مُكْتَسَبٌ بطبيعتِهِ – كما هي الحَالُ في الأنا (الشاهدةِ) بوصفِهَا ماهيةً نفسانيةً «متطوِّرةً جزئيًّا» Partially Developed، بينما يظهرُ أنَّ مبدأَ اللذَّةِ، على النقيضِ من ذلك، مبدأٌ فطريٌّ بطبيعتِهِ – مثلما هي الحَالُ في الأنا الغائبةِ بوصفِهَا ماهيةً نفسانيةً «لامتطوِّرةً كليًّا» Totally Nondeveloped، أو بالكادِ[1]. واستنادًا إلى ذلك، يدلي فرويد بقولِهِ المجازيِّ الشهيرِ بأنَّ ذاتَ الأنا (الشاهدةِ)، «في إطارِ صِلَتِهَا بالأنا الغائبةِ ذاتًا، مثلُهَا كمَثَلِ من تمتطي صَهْوَةَ حِصَانٍ اِمتطاءً، فمَا عليهَا سِوَى أن تكبحَ العِنَانَ كَبْحًا لِجُمُوحِ قُوَّتِهِ الغالبةِ»[2]. ولٰكِنْ، ولٰكِنْ، إذا لم تَكُنِ الراكبةُ المعنيَّةُ ترغبُ في الانفصالِ عن ذلك الحِصَانِ، إنْ جازَ التعبيرُ هَا هُنَا، فسوفَ يكونُ لزامًا عليها، عندئذٍ، أن تقودَ الحِصَانَ ذاتَهُ «قَوْدَ النِّعَاجِ» بمقتضى طِيَّتِهِ المَرُومَةِ والمرغوبِ فيها رَغَبًا، لا بمقتضى طِيَّتِهَا هي بعَيْنِهَا. يعني ذلك أنَّ الأنا (الشاهدةَ)، والحَالُ كذلك، تُضْطَرُّ بنزوعِهَا اضطرارًا مشابهًا إلى أنْ تحوِّلَ الإرادةَ «اللاعقلانيةَ» للأنا الغائبةِ إلى نشاطٍ ذي شكلٍ متفرِّدٍ تحويلاً «عقلانيًّا»، كما لو كانَ هذا النشاطُ نشاطَهَا الخاصَّ في مكنونِهَا – مكنونِ الأنا (الشاهدةِ) بالذاتِ[3]. وهكذا، يحثُّ ذلك القولُ المجازيُّ الشهيرُ على الاقتراحِ، إذن، بأنَّ الأنا العليا، على اعتبارِهَا الماهيةَ النفسانيةَ «المُنَسِّقَةَ بالتَّمَامِ» Utterly Organizing، دونَ غيرِهَا، إنَّمَا هي ماهيةٌ نفسانيةٌ يتحكَّمُ في تفعيلِهَا ما يمكنُ أن نعرِّفَهُ الآنَ اصطلاحًا بـ«مبدأِ الخُلْقِ» Morality Principle، وذلك بداعي تجسيمِهِ «الخُلُقِيِّ» لسائرِ المطالبِ الاجتماعيةِ، أو الأخلاقيةِ، التي تنبعثُ من أحكامِ «الضرورةِ» الحاكمةِ بالتزمُّنِ (كسلطةِ العائلةِ وسلطةِ القبيلةِ وسلطةِ الدولةِ، وما شابهَ). إذ يبدو أنَّ فرويد نفسَهُ يؤيِّدُ هذا المبدأَ المُعَرَّفَ للتَّوِّ تأييدًا ضمنيًّا من خلالِ مفهومِهِ الصريح عن ذاتِ النسَبِ، أو العَزْوِ، الكمِّيِّ والكيفيِّ الذي يتمُّ تخصيصُهُ لكلٍّ من الماهياتِ النفسانيةِ الثلاثِ تلك فيما يتَّصِلُ بالتوجيهِ الأخلاقيِّ – أو بـ«التحكُّمِ الغَرَزيِّ»، على حدِّ تعبيرِهِ: فمن جَانِبٍ أوَّليٍّ، ينظرُ فرويد إلى الأنا الغائبةِ بوصفِهَا ماهيةً نفسانيةً «لاأخلاقيةً بكليَّتِهَا»؛ ومن جَانِبٍ ثانويٍّ، ينظرُ إلى الأنا العليا بصفتِهَا ماهيةً نفسانيةً «في غايةِ الأخلاقيةِ»؛ وفيما بينَ هٰذَيْنِ الجَانِبَيْنِ، ينظرُ إلى الأنا (الشاهدةِ) باعتبارِهَا ماهيةً نفسانيةً «تسعى جُهْدَ طاقتِهَا إلى أنْ تكونَ أخلاقيةً»[4]. وبالتالي، قد يَتَّسِمُ كُنْهُ الأنا العليا بسِمَتَي «الصَّرَامَةِ» و«التزمُّتِ» بقدرِ مَا يَتَّسِمُ بهِمَا كُنْهُ الأنا الغائبةِ ليسِ إلاَّ، نظرًا لِمَا تتَّخذُهُ عَيْنُ الأنا (الشاهدةِ) من موقفٍ نسبيٍّ تجاهَ نظامِ السلوكِ «الأخلاقيِّ» بالتحديدِ والتمديدِ، هذا النظامِ، أو المنظومِ، الذي تقرِّرُهُ البنيةُ الاجتماعيةُ كُلاًّ في نهايةِ المطافِ.

يتبيَّنُ ممَّا تقدَّمَ، إذن، أنَّ مَعْنِيَّ الاختلافِ الجوهريِّ الحاسمِ بينَ الأنا (الشاهدةِ) والأنا الغائبةِ لَيُمْكِنُ تفسيرُهُ الآنَ بمَعْنِيِّ التنافُرِ، أو التخاصُمِ، المستمرِّ واصِبًا، والحَالُ هُنَا، بينَ مبدأِ الواقعِ ومبدأِ اللذَّةِ، على الترتيبِ، ذلك التنافُرِ، أو التخاصُمِ، الذي يزدادُ شِدَّةً فشِدَّةً كلَّمَا اشتدَّ مِيدَاءُ الصَّرَامَةِ والتزمُّتِ اشتدادًا حَسْبَمَا يبتنيهِ مبدأُ الخُلْقِ – هذا المبدأُ المُدْرَكُ بالتعريفِ، كذاكَ، استئناسًا كمبدأٍ يديرُ، في الحَيِّزِ العَامِّ، شؤونَ الأنا العليا. وممَّا لا مِراءَ فيهِ، هَا هُنا، أنَّ ذاك التنافُرَ، أو التخاصُمَ، إنَّمَا تتجذَّرُ أُصُولُهُ في نزوعِ الجهازِ النفسانيِّ، أنَّى تفعَّلتْ إوَالِيَّاتُهُ، إلى التشبُّثِ الحَرُونِ بمَصَادرِ الإشباعِ الرَّغَبِيِّ حسيًّا، أو حتى «جنسيًّا»، في ابتغاءِ اللذَّةِ والاِلتذاذِ، من جهةٍ أولى، وتتجذَّرُ أُصُولُهُ، فضلاً عن ذاك، في مدى التعَسُّرِ الكَنُودِ الذي يُلْفِيهِ الجهازُ النفسانيُّ ذاتُهُ في الإحْجَامِ عن هذهِ المَصَادرِ والتخلِّي عنهَا، من جهةٍ أُخرى. وهكذا، ففي المَسَارِ السَّوِيِّ لسَيْرُورَتَي التطوُّرِ اللبيديِّ والتطوُّرِ الأنويِّ كلتَيْهِمَا، من ناحيةٍ أولى، يَنْحُو مبدأُ الواقعِ نَحْوَ تشطيرِ إوَالِيَّةِ التفكُّرِ إلى شطرَيْنِ، أو فصَّيْنِ، تفكُّريَّيْنِ ليسا متناظرَيْنِ، ولا متنافرَيْنِ، بالضرورةِ: إذْ لا يخضعُ واحدٌ من هٰذَيْنِ الشطرَيْنِ، أو الفصَّيْنِ، التفكُّريَّيْنِ لتلك الإوَالِيَّةِ التجريبيةِ المعروفةِ بـ«اختبارِ(يَّةِ) الواقع» Reality-Testing، فيصبحُ الشطرُ، أو الفصُّ، التفكُّريُّ المعنيُّ، لهكذا سببٍ، مقترنًا بمبدأِ اللذَّةِ، ويصبحُ من ثمَّ تابعًا لهذا المبدأِ الدَّفِينِ دونَ سواهُ. فإذا لم يطفقْ مبدأُ الخُلْقِ في سَرَيَانِ تأثيرِهِ على الحَالِ النفسانيةِ الناجمةِ، فللدوافعِ الغَرَزيةِ التي يثيرُهَا، أو يوقظُهَا، مبدأُ اللذَّةِ أن تسعى وراءَ «التحقيقِ» الإشباعيِّ-الرَّغَبِيِّ، كليًّا أو جزئيًّا، فتغدو هذهِ الدوافعُ الغَرَزيةُ، عندئذٍ، لازبةً بأشيائِهَا الحقيقيةِ كلَّ اللزُوبِ تحتَ إزارِ تبدِّيَاتِ التخيُّلِ، أو حتى الاِستيهَامِ، في مرحلةٍ جدِّ مبكرةٍ (كما هي الحالُ في اللعِبِ الطفوليِّ). ولٰكِنْ، إذا طفِقَ بالفعلِ مبدأُ الخُلْقِ في سَرَيَانِ تأثيرِهِ على الحَالِ النفسانيةِ الناجمةِ، فللدوافعِ الغَرَزيةِ التي يثيرُهَا، أو يوقظُهَا، مبدأُ اللذَّةِ أن يصيرَ بِهَا المصيرُ إلى «التكبيتِ» الإشباعيِّ-الرَّغَبِيِّ، بدلاً من التحقيقِ، فتغدو هذهِ الدوافعُ الغَرَزيةُ، عندئذٍ، نائيةً عن أشيائِهَا الحقيقيةِ كلَّ النأْيِ تحتَ لِثامِ تجلِّيَاتِ حلمِ اليقاظِ في مرحلةٍ لاحقةٍ، بحيثُ يتمثَّلُ حلمُ اليقاظِ هذا في شكلٍ من أشكالِ الخيالِ النهاريِّ، شكلٍ قد يتأوَّجُ في الكتابةِ الإبداعيةِ حتَّى، حَسْبَمَا تقتضيهِ أمداءُ الخيالِ المعنيِّ قوَّةً أو سِعَةَ أو كلتَيْهِمَا معًا. وفي المَسَارِ اللاسَّوِيِّ لسَيْرُورَتَي التطوُّرِ اللبيديِّ والتطوُّرِ الأنويِّ، من ناحيةٍ أُخرى، ليسَ في مقدورِ ذلك التنافُرِ، أو التخاصُمِ، بين مبدأِ الواقعِ ومبدأِ اللذَّةِ، كما أنفَ ذكرُهُ توًّا، أن يمارسَ تعبيراتِهِ «السويَّةَ» في تبدِّيَاتِ التخيُّلِ، أو الاِستيهَامِ، ولا في تجلِّيَاتِ حلمِ اليقاظِ، بوصفِهَا تعبيراتٍ عن «إشباعاتٍ نفسانيةٍ» للدوافعِ الغَرَزيةِ المُثارَةِ، أو المُوقَظَةِ: إذ يَوْهُنُ، في هكذا حالٍ، سَرَيَانُ تأثيرِ مبدأِ الخُلْقِ على كلِّ من المبدأَيْنِ الآخرَيْنِ. وهكذا، فلا مبدأُ الواقعِ يفضي إلى نوعٍ من التوازنِ الرَّغَبيِّ وضرورتِهِ في الإمتاعِ الذاتيِّ للأنا (الشاهدةِ)، ولا مبدأُ اللذَّةِ يخضعُ لتلك «الرقابةِ» الكمِّيةِ أو الكيفيةِ التي يفرضُهَا مبدأُ الخُلقِ في الإخناعِ اللاذاتيِّ للأنا الغائبةِ. وإنَّمَا، خلافًا لذلك، من المحتملِ جدًا أن تشيرَ أشتاتُ ذينك الاقتحامِ والتفجُّرِ اللاإراديَّيْنِ لتلك التبدِّيَاتِ وتلك التجلِّيَاتِ إلى تعبيراتٍ لاسويَّةٍ (أو مَرَضيةِ المنشأِ) عن أعراضٍ اهتلاسيةٍ (أو هَلْوَسِيَّةٍ) أو حتى عن نوباتٍ هُرَاعِيَّةٍ (أو هستيريةٍ)[5].

يُمكنُ، من هذا التفصيلِ النسبيِّ لسائر المبادئِ والمَنَاهِي التي تشكِّلُ الأسُسَ التفعيليةَ والتحريكيةَ لأعمالِ الماهياتِ النفسانيةِ الثلاثِ، يمكنُ الآنَ تكوينُ صورةٍ أكثرَ شمولاً حولَ المناحي التطوُّريةِ للأنا (الشاهدةِ)، وذلك استنادًا إلى علائقِ التناقضِ والتصارُعِ بينَ ظاهرتَي التماهِي وعقدةِ أوديبَ، على الأخصِّ، كما تمَّ نقاشُها في مستهلِّ القسم الأول من هذا المقالِ[6]. من هنا، قد يساعدُ الترسيخُ الأبكرُ للتماهِي «البدائيِّ» على إحداثِ الترهُّصِ الأبكرِ للأنا (الشاهدةِ) «البدائيةِ»، بحيثُ يتعذَّرُ تمييزُ الأنا (الشاهدةِ) عن الأنا الغائبةِ، فيجوزُ النظرُ إلى هٰتَيْنِ الماهيتَيْنِ النفسانيتَيْنِ كلتَيْهِمَا، إلى هكذا حدٍّ، على اعتبارهما نسختَيْنِ متفرِّعتَيْنِ من ماهيةٍ نفسانيةٍ أصليةٍ، أو «بدائيةٍ» واحدةٍ ليس إلاَّ، ماهيةٍ نفسانيةٍ ذاتِ طبيعةٍ فطريةٍ محضًا. وفي المسارِ اللاحقِ لسَيْرُورَتَي التطوُّرِ اللبيديِّ والتطوُّرِ الأنويِّ، تبقى الأنا الغائبةُ ماهيةً نفسانيةً ثابتةً – فتستبقي، من ثمَّ، فطريَّتَهَا، بينما تصبحُ الأنا (الشاهدةُ)، بدورِهَا، ماهيةً نفسانيةً متحوِّلةً – فتشرعُ، من ثمَّ، في تأسيس اكتسابيَّتِهَا: يعني ذلك أنَّ الأنا (الشاهدةَ) عينَهَا تتجلَّى كماهيةٍ نفسانيةٍ ذاتِ طبيعةٍ فطريةٍ ومكتسبةٍ على حدٍّ سواءٍ في الحضورِ الاستهلاليِّ للأنا العليا، هذهِ الماهيةِ النفسانيةِ التي تتصفُ بطبيعةٍ مكتسبةٍ صرفًا، في المقابل. ويعني ذلك، بكلامٍ آخرَ، أيضًا أنَّ الأنا الغائبةَ، بطبيعتِهَا الفطريةِ، قد تُؤوي في البدءِ رواسبَ عددٍ لامتناهٍ من «الأنواتِ (الشاهداتِ)» – جمعًا لغويًّا نفسيًّا إجرائيَّا لها، في حينِ أنَّ عَيْنَ الأنا (الشاهدةِ)، بطبيعتِهَا الفطريةِ-المكتسبةِ، من خلالِ تأسيسِهَا عَيْنَ الأنا العليا، بطبيعتِهِا المكتسبةِ، على أساسِ عَيْنِ الأنا الغائبةِ، بطبيعتِهَا الفطريةِ، قد تُحْيِي تمثُّلاتٍ من رواسبِ هذه «الأنواتِ (الشاهداتِ)» وتعيدُ بناءَهَا من غيرِ انقطاعٍ[7]. وفضلاً عن ذلك، فإنَّ هذه الصورةَ المكوَّنةَ من جديدٍ، حولَ المناحي التطوُّريةِ للأنا (الشاهدةِ)، لَقَابِلَةٌ للإدراكِ بعكسيَّتِهَا على النحوِ التالي: قد تتضمَّنُ الأنا (الشاهدةُ) في الأصلِ كلَّ ما ينتمي إلى «الحالةِ القبْليةِ» للنفسِ، حتى كلَّ ما يقبعُ في «دُكْنَةِ» الأنا الغائبةِ، تلك الماهيةِ النفسانيةِ التي لا تتضمَّنُ كلَّ ما ينتمي إلى «الحالةِ البَعْديةِ» للنفسِ، بل تشتملُ على المادَّةِ الأوَّليةِ، أو المادَّةِ الخامِ، التي تحتاج إليها الأنا (الشاهدةُ) من أجلِ تشكيلِ الأنا العليا. فحينما تبدأُ الطبيعةُ الفطريةُ للأنا (الشاهدةِ) بفصْلِ ذاتِهَا عن العالمِ الظاهريِّ – ذلك العالمِ الذي تتحقُّقُ مواجهتُهُ، أو ملاقاتُهُ، بدئيًّا في ثديِ الأمِّ، يبدأُ القسِيمُ من طبيعتِهَا المكتسبةِ باتخاذِ مجراهُ الطبيعيِّ في سَيْرُورَتَي التطوُّرِ اللبيديِّ والتطوُّرِ الأنويِّ، وذلك من جرَّاءِ تجاوزِ تلك المواجهةِ، أو الملاقاةِ، البدئيةِ، ومن جرَّاءِ التوسُّع من ثمَّ في مجالِ التحقُّق المنشودِ – أي تحقُّقِ العالَمِ الظاهريِّ. يدلُّ ذلك على أنَّ الحالةَ الراهنةَ للأنا (الشاهدةِ)، أو حتى حالتَهَا اللاحقةَ، بقدرِ ما يخصُّهَا الأمرُ كذلك، إن هي إلاَّ نسخةٌ مُصَغَّرةٌ عن حالتِهَا السابقةِ بالذاتِ، بحيثُ أنَّ الحالةَ السابقةَ هذهِ تدنو من العالَمِ الظاهريِّ أكثرَ فأكثرَ، وأنَّ الحالةَ الراهنةَ، أو اللاحقةَ، تلك تنأى عن العالَمِ الظاهريِّ ذاتِهِ أكثرَ فأكثرَ، في المقابلِ[8]. ففي حالةٍ من التبدُّلِ والتغيُّرِ المتواصلَيْنِ، إذن، تستمدُّ الأنا (الشاهدةُ)، عن طريقِ كمونيَّتِهَا المعرفيةِ الكنينةِ، وَعْيًا متزايدًا إلى مكنوناتِ محتواهَا من «الحالةِ البَعْديةِ» للنفسِ، مكنوناتٍ تأخذُ في التناقصِ شيئًا فشيئًا، بدورِهَا هي الأُخرى – ممَّا يفسِّرُ كيفَ أنَّ قدرةَ الأنا (الشاهدةِ) على تنظيمِ مكنوناتِ محتواهَا هذهِ إنَّمَا تميِّزُهَا عن «دُكْنَةِ» الأنا الغائبةِ تمييزًا أشدَّ جلاءً، نظرًا لافتقارِ الماهيةِ النفسانيةِ الأخيرةِ (أي الأنا الغائبةُ ذاتًا) إلى القدرةِ على تنظيمِ مكنوناتِ محتواهَا افتقارًا حتميًّا.

والآنَ، إذا كانتِ الأنا الغائبةُ تلك الماهيةَ النفسانيةَ ذاتَ المحتوى اللاواعي لاوَعْيًا قطعيًّا (حيثُ تستمدُّ الدوافعُ الغَرَزيةُ طاقاتِهَا الرَّغبيةَ سعيًا وراءَ الإشباعِ اللاموجَّهِ)، وإذا كانتِ الأنا (الشاهدةُ) تلك الماهيةَ النفسانيةَ ذاتَ المحتوى الواعي وَعْيًا غيرَ قطعيٍّ (حيثُ تستمدُّ الإوَالِيَّاتُ التفكُّريةُ قواها اللارَغبيةَ سعيًا وراءَ التكييفِ الموجَّهِ)، فإنَّ المهمَّةَ الرئيسيةَ الملقاةَ على عاتقِ الأنا (الشاهدةِ)، عندئذٍ، هي أن تُجْرِيَ توسُّطًا (أو، بالأحرى، تفاوضًا) بينَ العالَمِ الباطنيِّ – عالَمِ الأنا الغائبةِ، من جانبٍ أوَّلَ، وبينَ العالَمِ الظاهريِّ – عالَمِ الأنا (الشاهدةِ)، من جانبٍ آخَرَ. وبما أنَّ التكييفَ الموجَّهَ هذا يتمُّ إنجازُهُ من حيثيَّةِ الواقعِ الفعليِّ، على وجهِ التحديدِ، وأنَّ لـ«وَضَحِ» هذا الواقعِ أنْ يُجابِهَ «دُكْنَةَ» الأنا الغائبةِ بكلِّ العواملِ التزمُّنيةِ الممكنةِ – إذْ تتبدَّى في حالةِ خصامٍ ونزاعٍ دائمَيْنِ مع هذهِ الأنا الغائبةِ بالذاتِ، فلا بدَّ للأنا (الشاهدةِ)، إذن، من أن تلجأَ لجوءًا إرغاميًا إلى إجراءاتٍ مُلتبسةٍ وتدابيرَ وهميَّةٍ، فيما يبدو، لكيما تنزعَ بهذهِ الإجراءاتِ والتدابيرِ إلى تشويهِ، أو إلى تعتيمِ، «وَضَحِ» الواقعِ في حدِّ ذاتِهِ. وفي هذا الصددِ، يدلي فرويد، من خلالِ محاولتِهِ البرهانَ على تلك النظريةِ القائلةِ بأنَّ المعرفةَ سيرورةٌ معرفيةٌ تتأصَّلُ أصُولُهَا في الإدراكِ الحسِّيِّ الخارجيِّ، يدلي بقولِهِ نقلاً عن رأيِ غروديك (الآنفِ الذكرِ) بأنَّ «الأنا (الشاهدةَ) المكنونةَ فينا إنَّمَا تسلكُ بصورةٍ جوهريةٍ سلوكًا سلبيًّا [استسلاميًا] في الحياةِ» وأنَّ ثمَّةَ «قوًى مجهولةً شديدةَ المراسِ تسكنُ فينا»[9]. لهذا السببِ، فإنَّ الأنا (الشاهدةَ)، بوصفِهَا وسيطًا (أو مفاوضًا)، ليسَ لها إلاَّ أن «تستسلمَ إلى الغوايةِ، فتصيرَ [جدَّ] متملِّقةٍ ومُرائيةٍ، [جدَّ] انتهازيةٍ وكاذبةٍ، مَثَلُهَا كمَثَلِ السياسيِّ الذي يرى الحقيقةً واضحةً، ولٰكِنَّهُ يريدُ أن يُبْقِيَ منزلَتَهُ في حُظوةٍ شعبيةٍ»[10]. ويظهرُ أنَّ السلوكَ الأنويَّ (الشاهديَّ) السلبيَّ والنفاقيَّ هذا، بجليَّتِهِ، لهو الباعثُ الرئيسيُّ، ولا ريبَ فيهِ، على ذاك الرأيِ الذي ارتآهُ فرويد فيما بعدُ من هذا الخصُوصِ، ذلك الرأيِ القائلِ بأنَّ «الأنا (الشاهدةَ)، [والحَالُ هُنَا]، إنَّمَا تمثِّلُ المَقَرَّ النفسيَّ الحقيقيَّ للحُصَارِ»، على خلافِ الرأيِ القائلِ بأنَّ الحُصَارَ عينَهُ إنَّمَا يمثِّلُ شكلاً من أشكالِ اللبيدو المُحَوَّلِ[11]. ويظهرُ أيضًا أنَّ السلوكَ الأنويَّ (الشاهديَّ) السلبيَّ والنفاقيَّ ذاتَهُ، تحديدًا، ليمكنُ عَزْوُهُ، حَسْبَ مفهومِ لاكان، إلى «رفضِ الأنا (الشاهدةِ) الاعترافَ بـصحَّةِ الواقعِ رفضًا نظاميًا [أو مبرمجًا]»: إذ يتجلَّى هذا الرفضُ في تجلٍّ أنويٍّ (شاهديٍّ) لما يسمِّيهِ لاكان اصطلاحًا فرنسيًّا بـ«سوءِ الإدراكِ»، أو بـ«سوءِ التبيُّنِ» Méconnaissance، تجلٍّ أنويٍّ (شاهديٍّ) مُضَلِّلٍ تضليلاً نظاميًا، أو مبرمجًا، إنْ هو إلا اندماجٌ أو «تمَلغُمٌ» تضادِّيٌّ-تناقضيٌّ من كلٍّ من «نوايا صالحةٍ ونوايا طالحةٍ»[12]. وللسببِ نفسِهِ، بالتحديدِ أيضًا، يوردُ لاكان قولَتَهُ الشهيرةَ، في هذا الصددِ، تلك القولةَ القائلةَ بأنَّ «الأنا (الشاهدةَ)، [والحَالُ هَا هُنَا]، إنَّمَا تمثِّلُ المَقَرَّ النفسيَّ [الحقيقيَّ] للأوهام»، وذلك بالقياسِ الجليِّ إلى الرأي الذي ارتآهُ فرويد فيما بعدُ، كما ذُكرَ توًّا[13]. وتبعًا لذلك، ففي «التجلِّي الأنويِّ (الشاهديِّ)» المعنيِّ ما يفسِّرُ تفسيرًا سديدًا حشدَ المُمْرِضَاتِ النفسانيةِ لأعراضِ «الذُّهانِ» Psychosis، في الحالاتِ الجدِّ خطيرةٍ، فيما يتبدَّى: إذ أنَّ في هكذا «تجلٍّ أنويٍّ (شاهديٍّ)»، كذاك، ما أُثبتَ قبلاً لدى تعليلِ حشدِ المُمْرِضَاتِ النفسانيةِ لأعراضِ «الوُهَامِ» Paranoia، في الحالاتِ الأقلِّ خطورةً من سابقاتِهَا – كما هي الحَالُ في عَرَضِ وُهَامِ الاضطهادِ الذي تتماثلُ، أو تتطابقُ، فيهِ كلٌّ من صورةِ المضطهِد بكليتها وصورةِ «المثالِ الأنويِّ» المكنونةِ في المضطهَد، أي الوُهَاميُّ ذاتهُ، علمًا بأن مصطلحَ «المثال الأنوي» هذا يجري استخدامه كمُرادف لمصطلح «الأنا العليا» في كثير من الأحيان، كما سبق ذكره[14]. وهكذا، فإن الأنا (الشاهدة)، من جرَّاء لجوئها الإرغامي إلى الإجراءات المُلتبسة والتدابير الوهميّة، تميل إلى إطلاق أحكام خاطئة إطلاقًا واعيًا لكي تخفيَ (أو، بالحَريّ، تموِّهَ) الحضورَ الفعليَّ للصراعات والتناقضات غير المرغوب فيها، وعلى الأخصِّ تلك الصراعات والتناقضات التي تنبعث من أحكام «الضرورة» المحكومةِ بالتزمُّن الموازي (كنوبات الغضب وفورات التمرُّد وانفجارات الثورة، وما أشبه). يدلّ ذلك على أن الأنا الغائبة، على العكس من ذلك، ملزومة بالإفادة من إجراءات غير مُلتبسة وتدابيرَ) لاوهميَّة من خلال سعيها إلى إطلاق أحكام صحيحة إطلاقًا لاواعيًا، كبدائل، بحيث تنقادُ هذه الماهية النفسانية صاغرة للنزوعات الرَّغَبية المُثارة في عالمها الخاصِّ، فتكون في حالة وئام ووفاق تامَّين وأمينين مع هكذا نزوعات رَّغَبية. وبالتالي، كلما اتسعت هوَّة التنافر المقيت بين النزوعات الرَّغَبية والمطالب الاجتماعية، لجأت الأنا (الشاهدة) إلى إطلاق أحكام خاطئة إطلاقًا «واعيًا»، وأصبح العَرَضُ الناشئ عَرَضًا لاسويًّا (أو مَرَضيَّ المنشأ).

ولإيضاح هذا التناقض الكامل بين الأحكام الصحيحة والأحكام الخاطئة على سبيل التمثيل، فإن الجزءَ الأوّل الذي يحدّد بواكير سيرة المريض الملقب بـ«أبي الجُرَذ» Rat Man (ذلك المريض الذي خضع لتحليل فرويد) لجزءٌ يشير إلى حالة وثيقة الصلة بالتناقض الكامل المعنيّ: إذ يجري النظر إلى السيرة هذه باعتبارها الدراسة التحليلية-النفسية الأكثر أهمية من بين الدراسات الميدانية لأعراض العُصاب الهُجاسي. يتعلق ذلك الجزء الأوّل من السيرة هذه بالمدّة الزمنية التي تنتهي بالمُمْرض النفسي (رقم: 12)، على وجه التحديد، لأنه يستدعي الحدوث الأوّلي للهاجس الذي استحوذ على المريض (هاجس موت أبيه بالذات). ولكن الجزء الأوّل من السيرة يمكن أن يمتدّ إلى المُمْرض النفسي (رقم: 20)، أيضًا، لأنه يستدعي حدوث الهاجس المستحوِذ نفسه مرة أخرى، كما يتبيّن ذلك من المعطيات التسلسلية-الزمنية (الكرونولوجية) التي أوردها محرّرو أعمال فرويد[15]. من المعروف أن دافعًا غَرَزيًا (أو عددًا من الدوافع الغَرَزية) كان يهيمن على هذا المريض (ذي الجنس الذكري) في طفولته المبكرة على نحو لحوح، دافعًا غَرَزيًا مشحونًا بالإثارة الجنسية بشكل أو بآخر جرت العادة على تسميته بـ«الكلف بالنظر» Scopophilia (أي رغبة الذكر الجَمُوح في رؤية أشخاص من الجنس الأنثوي في عُرْي تامّ، والعكس بالعكس (قا: «اختلاس النظر» Voyeurism). من هنا، يتبيّن بجلاء كيف أن الدافع الغَرَزي (أو عدد الدوافع الغَرَزية) للرغبة الجَمُوح هذه، يتبيّن كيف أنه، في حدّ ذاته، يستجيب مذعنًا لـ«الأحكام الصحيحة» التي تطلقها الأنا الغائبة إطلاقًا لاواعيًا، وذلك لمجرّد أن الأنا (الشاهدة) «الواعية»، من طرفها، تفتقر إلى وجود الوساطة اللحظية (أو التفاوض اللحظي) بين التحقيق الإشباعي المُرادِ (أو المرغوب فيه) لتلك الرغبة الجَمُوح، من جهة أولى، وبين العواقب «الوخيمة» واللامُرادةِ (أو المرغوب عنها) للرغبة الجَمُوح ذاتها فيما يتعلق بالواقع، من جهة أخرى. ومن المعلوم، أيضًا، أن الرغبة الجَمُوح نفسها لتأخذ في التوازي، أو التصاحب، مع الهاجس المستحوذ الآنف الذكر فيما بعد، وإلا فإن غياب كيفية الهاجس المستحوِذ عن الرغبة الجَمُوح سيقتضي ضمنًا غيابَ تعارضها التامِّ مع العالم الظاهري وغرابتها المُطلقة عن المطالب الاجتماعية التي يفرضها هذا العالم. لهذا السبب، يظهر أن نوعًا من الصراع الوهمي كان يجري في ذهن الطفل منذ البداية، صراع بين الرغبة الجَمُوح عينها وبين خوف هاجسيّ مستحوِذ كان يقترن بها اقترانًا صميميًّا (أي مخافة الطفل من أنّ أباه الذي مات أصلاً سوف يتحتم عليه أنْ يموت)[16]. وبالتالي، تتقيّد الأوهامُ النفسانية لهذا الخوف الهاجسيّ المستحوِذ، على خلاف الدافع الغَرَزي (أو الدوافع الغَرَزية) للرغبة الجَمُوح، تتقيّد بشروط «الأحكام الخاطئة» التي تطلقها الأنا (الشاهدة) إطلاقًا واعيًا نتيجة لجوئها إلى الوساطة اللحظية (أو التفاوض اللحظي) بين التحقيق الإشباعي والمروم (أو المرغوب فيه) لتلك الرغبة الجَمُوح، من ناحية أولى، وبين العواقب «الوخيمة» واللامرومة (أو المرغوب عنها) للرغبة الجَمُوح ذاتها فيما يخصّ الواقع، من ناحية أخرى.

يدعو ذلك على الاقتراح، إذن، بأن التناقضَ الكامل والصريح بين الأحكام الخاطئة (التي تطلقها الأنا، من طرفها، إطلاقًا واعيًا) وبين الأحكام الصحيحة (التي تطلقها الأنا الغائبة، من طرفها، إطلاقًا لاواعيًا) لتناقضٌ يتوافق إلى حدّ بعيد، على ما يظهر، مع تضادّ مُطلق وضمني بين قسِيمَيْن نفسانيين للماهية النفسانية الأولى، أي الأنا (الشاهدة) على وجه التخصيص: أولاً، القسِيم الموضوعي للأنا الواعية (في حالة الأحكام الخاطئة)؛ وثانيًا، القسِيم الذاتي للأنا اللاواعية (في حالة الأحكام الصحيحة)، بحيث أن القسِيم الذاتي هذا لوشيجُ الاتصال بالتشابه الجوهري الحاسم بين الأنا (الشاهدة) والأنا الغائبة، كما تمّت الإشارة إليه آنفًا. وبما أن ظاهرة التماهي التي تمّت مناقشتها في مقال سابق، كذاك، لظاهرةٌ يمكن لها أن تفضيَ إلى الارتقاء النفساني أو الارتداد النفساني لهوية المتماهِي[17]، وأن كلاً من هذين التحوّلين النفسانيين يتوقف على التكوين النفساني لهوية المتماهى فيه في الأغلب والأعم، فإن القسِيمَ الذاتي للأنا (اللاواعية)، فيما يبدو عند الوهلة الأولى، لقسِيمٌ قد يرادف بمعناه المعنى المُدْرَكَ لتلك الهوية، قسِيمٌ ذاتي يميل إلى عرْض تنفيذه (أو تطبيقة) الموضوعي في أدبيات التحليل النفسي. والآن، إذا كان التحليلُ النفسي (سواءً من حيث جانبه النظري أم من حيث جانبه العملي) فرعًا من فروع الدراسة معنيًّا في نهاية المطاف بشخص مُفرَد ومحدّد، فإن المعنى المُدْرَكَ للهوية المُنوَّه عنها، عندئذ، لمعنىً يرادف، بدوره، معنى ذلك الشخص المُفرَد والمحدّد بوصفه تعميمًا أو تجريدًا يُشار إليه في التنظير اللاكاني، على الإجمال، بالمُسْند إليه The Subject.

وجملة القول، إن الأنا (الشاهدة) ماهيةٌ، أو نيابة، نفسانية تتضمّن ماهيتين، أو نيابتين، نفسانيتين أخريين، هما: الأنا الغائبة في المستوى الأدنى والأنا العليا في المستوى الأعلى، فتعكس تمثيلاً ثلاثي الأبعاد للنفس، تمثيلاً ينبني، في الأصل، على أساس أنظمة ثلاثة، ألا وهي: نظام اللاوعي ونظام ما قبل الوعي ونظام الوعي. ففي حين أن الأنا الغائبةَ (بوجودها السَّبْقي) ماهيةٌ نفسانية لاواعية لاوعيًا قطعيًا، على ما يظهر، يتبيّن أن لا الأنا (الشاهدة) (بوجودها الوَسْطي) ولا الأنا العليا (بوجودها اللحْقي) ماهية نفسانية واعية وعيًا قطعيًا، يعني ذلك أن ثمّة علاقةً (لاواعيةً) تنشأ بالفعل بين الأنا الغائبة وبين كلّ من الماهيتين النفسانيتين الأخريين. فأما الأنا الغائبة، من قبلها، فماهيةٌ تتولى أمورَ العاطفة أو الشهوة (ضمن طاقاتها الرَّغَبية)؛ وأما الأنا(الشاهدة)، من لدنها، فماهيةٌ تعمل على إدارة شؤون العقل أو الرشد (ضمن قواها اللارَغَبية)؛ وأما الأنا العليا، من طرفها، فماهيةٌ تعمد إلى إقرار سلطة الرقابة (ضمن مطالبها الاجتماعية). وبما أن الترسيخَ الأكثر بُكورًا للتماهي «البدائي» ليشير، بالتأكيد، إلى التجلي الأكثر بُكورًا للأنا (الشاهدة) «البدائية»، فإن علاقة التصارع بين ظاهرة التماهي وعقدة أوديب تسلط الضوء، بدورها، على المناحي التطورية للأنا (الشاهدة)، مناحٍ يتبدّى من خلالها ابتداء التوازي المحتمل بين التطور الأنوي والتطور اللبيدي على نحو اطرادي. إذ ليست الأنا (الشاهدة) والأنا الغائبة، على ضوء هذا التوازي، سوى نسختين (متفرّعتين) من ماهية نفسانية أصلية (أو «بدائية») واحدة، بحيث يمكن القول بأنّ الأنا الغائبةَ ماهيةٌ (فرعية) ثابتة بطبيعتها الفطرية وأن الأنا (الشاهدة) ماهيةٌ (فرعية) متحوّلة بطبيعتها الفطرية-المكتسبة تحت ظلّ الأنا العليا بطبيعتها المكتسبة. ويمكن، أيضًا، تفسير هذا التعاضد «القمين» بين الماهيات النفسانية الثلاث بدالَّتي بديلين (مفهوميين) قابلين للإدراك على النحو التالي: أولاً، تحتوي الأنا الغائبة، في البدء، على رواسبِ عددٍ لامتناهٍ من «الأنوات (الشاهدات)» (رواسبَ تهدف الأنا (الشاهدة) إلى إحيائها وإلى إعادة بنائها من غير انقطاع)؛ وثانيًا، تشتمل الأنا (الشاهدة)، في الأصل، على كلِّ ما ينتمي إلى «الحالة القبْلية» للنفس (أي ما يقبع في «دُكنة» الأنا الغائبة). ففي كلّ من هذين البديلين (المفهوميين)، إذن، تأخذ الأنا (الشاهدة)، فيما بعد، في التوسيع من مكنونات محتواها لكي تبلغ «الحالة البَعْدية» للنفس ولكي تكتسب (ومن ثمّ توثقَ) المادّة َ الأوّلية (أو الخام) التي تحتاج إليها، بالضرورة، من أجل تكوين الأنا العليا. وهكذا، فإن الصراعَ الدائم بين الأنا (الشاهدة) والأنا الغائبة في الحضور (الناشئ) للأنا العليا لصراعٌ يمكن عزوُه، بالفعل، إلى ذلك التنافر (أو التخاصم) المستمرّ بين مبدأ الواقع (بكونه المبدأ الذي ينظم عمل الأنا (الشاهدة)) وبين مبدأ اللذة (بوصفه المبدأ الذي يتحكم في عمل الأنا الغائبة)، حتى لدى التنفيذ أو التطبيق (اللاحق) لمبدأ الخُلق (باعتباره المبدأ الذي يهيمن على عمل الأنا العليا). و بالتالي، ينتج عن هذا التصارع الدائم (أو التنافر المستمرّ) أن الأنا (الشاهدة)، من خلال قيامها بدور الوسيط (أو المفاوض بالحري)، تميل إلى إطلاق أحكام خاطئة إطلاقًا واعيًا (تلك الأحكام التي تعكس تجَليات أنوية (شاهدية) لـ«سوء الإدراك» أو «سوء التبيُّن») بغية الفوز بالتكييف الموجّه، في حين أن الأنا الغائبة تنزع إلى إطلاق أحكام صحيحة إطلاقًا لاواعيًا بغية الإحراز على الإشباع اللاموجّه بدلاً من التكييف الموجّه. أخيرًا، يلقي هذا التناقض الكامل بين الأحكام الخاطئة والأحكام الصحيحة، بدوره، الضوءَ على التضادّ (المُطلق) بين القسِيمَيْن النفسانيين للأنا (الشاهدة)، على الترتيب: القسِيم الموضوعي للأنا في إطار تمثيلها الواعي، من جهة أولى، والقسِيم الذاتي للأنا في إطار تمثيلها اللاواعي، من جهة أخرى، بحيث إن معنى هذا القسِيم النفساني الأخير للأنا (اللاواعية) يرادف معنى ما يُسمّى بـ«المُسْند إليه» بوصفه تعميمًا أو تجريدًا.
_________

المراجع

Edwards, Paul (1972): The Encyclopedia of Philosophy. Ed. Paul Edwards. Macmillan, vol. 3.
Erikson, Erik (1950): Childhood and Society. Norton (1963).
Freud, Sigmund (1900): The Interpretation of Dreams. Penguin Freud Library, vol. 4.
Freud, Sigmund (1908a): Hysterical Phantasies and Their Relation to Bisexuality. Penguin Freud Library, vol. 10.
Freud, Sigmund (1908b): Creative Writers and Day-Dreaming. Penguin Freud Library, vol. 14.
Freud, Sigmund (1909): Notes Upon a Case of Obsessional Neurosis. Penguin Freud Library, vol. 9.
Freud, Sigmund (1911): Formulations on the Two Principles of Mental -function-ing. Penguin Freud Library, vol. 11.
Freud, Sigmund (1914): On Narcissism: An Introduction. Penguin Freud Library, vol. 11.
Freud, Sigmund (1915): The Unconscious. Penguin Freud Library, vol. 11.
Freud, Sigmund (1920): Beyond the Pleasure Principle. Penguin Freud Library, vol. 11.
Freud, Sigmund (1923): The Ego and the Id. Penguin Freud Library, vol. 11.
Freud, Sigmund (1924a): The Dissolution of the Oedipus Complex. Penguin Freud Library, vol. 7.
Freud, Sigmund (1924b): The Economic Problem of Masochism. Penguin Freud Library, vol. 11.
Freud, Sigmund (1926): Inhibitions, Symptoms and Anxiety. Penguin Freud Library, vol. 10.
Freud, Sigmund (1930): Civilization and its Discontents. Penguin Freud Library, vol. 12.
Freud, Sigmund (1933): New Introductory Lectures on Psychoanalysis. Penguin Freud Library, vol. 2.
Freud, Sigmund (1938): An Outline of Psychoanalysis. Penguin Freud Library, vol. 15.
Groddeck, Georg (1923): Das Buch vom Es. Vienna. [The Book of the It. New York (1950)].
Lacan, Jacques (1938): Les Complexes Familiaux dans la Formation de l’Individu. Paris: Navarin.
Lacan, Jacques (1953): Some Reflections on the Ego. International Journal of Psychoanalysis, 34:11-17.
Lacan, Jacques (1953-4): The Seminar. Book I. Freud’s Papers on Technique. Trans. John Forrester. Cambridge: Cambridge University Pesss (1988).
Lacan, Jacques (1960-1): Le Séminaire. Livre VIII. Le Transfert. Paris: Seuil.
Lacan, Jacques (1966a): Écrits: A Selection. Trans. Alan Sheridan. Routledge (1997).
Lacan, Jacques (1966b): Écrits. Trans. Bruce Fink. Norton (2006).
El-Marzouk, Ghiath (2007): Identification. Damascus: Maaber.

***

الحواشي

[1] من القمين بالذكر، هنا، أن «مبدأ اللذّة» Pleasure Principle (كمصطلح) ظهر لأوّل مرّة في كتابات فرويد، على ما يبدو، وذلك من جرّاء إعادة صياغته النظرية لمبدأ (نقيض) كان يسمّيه سابقًا بـ«مبدأ اللالذّة» Unpleasure Principle (قا: فرويد، 1900، ص 759 ؛ فرويد، 1911، ص 36). إذ ليس مبدأ اللذّة هذا، في حقيقة الأمر، سوى مصطلح موسّع فيه (نفسيًا) تمّ اشتقاقه في الأصل من الفكرة الكلاسيكية لـِ«مذهب المتعة» Hedonism، تلك الفكرة المألوفة في تاريخ الفكر الإنساني مدى ألفيّتين ونصف على أقلّ تقدير. فقد سبق للفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز (1588-1679) أن استخدم الفكرة ذاتها في سياق تنظيره حول أعمال العقل، فحاول أن يضع مبدأين (أو هدفين) فرعيين: أحدهما «السعي وراء اللذّة» (وهذا ما يوحي إلى النواحي الإيجابية لمبدأ اللذّة – عند فرويد) والآخر «التحاشي من الألم» (وهذا ما يشير إلى النواحي السلبية للمبدأ نفسه – عند فرويد أيضًا). وفضلاً عن ذلك، يعود تاريخ الفكرة المعنية حتى إلى مصادر (أكثر إيغالاً في القدم)، منها الفيلسوف اليوناني أبيقور (341-270 ق. م.) الذي كتب عنه الكاتب ليرتيوس في القرن الثالث للميلاد قائلاً: «فمن خلال برهانه [أي أبيقور] على أنّ المتعة هي الغاية [الأسمى]، يُدلي بحقيقة مُفادها أن الكائنات الحيّة [بشرًا أو حيوانات]، حالما تولد، لَتشعر بالرضى التامّ تجاه المتعة وبالعداوة نحو الألم» (مقتبسٌ في: إدواردز، 1972، ص 433). وهكذا، يمكن إدراك الطبيعة الفطرية لمذهب المتعة (عند أبيقور) أو مبدأ اللذّة (عند فرويد) إدراكًا جليًّا من العبارة «حالما تولد» في كلام ليرتيوس.

[2] قا: فرويد، 1923، ص 364.

[3] قا: فرويد، 1933، ص 109 ومايتبعها.

[4] قا: فرويد، 1923، ص 395.

[5] قا: فرويد، 1908 آ، ص 87 ومايتبعها؛ فرويد، 1908 ب، ص 129؛ فرويد، 1911، ص 39.

[6] را: أيضًا المرزوق، 2007.

[7] قا: فرويد، 1923، ص 378.

[8] قا: فرويد، 1930، ص 255.

[9] قا: فرويد، 1915، ص 180 وما يتبعها؛ فرويد، 1923، ص 361 وما يتبعها.

[10] قا: فرويد، 1923، ص 398.

[11] قا: فرويد، 1926، ص 244.

[12] قا: لاكان، 1953، ص 12 وما يتبعها.

[13] قا: لاكان، 4-1953، ص 62.

[14] كما تمّت مناقشته في بداية الشرح، فإن العَكْس الفعلي لعقدة أوديب يضع التوكيد على التمييز بين الإضفاء المثالي (أي إضفاء المتماهي صفة مثالية على المتماهى فيه) وبين التشْييء اللبيدي (أي اتخاذ المتماهي المتماهى فيه شيئًا لبيديًا)، ذلك التمييز الذي يناظر التمييزَ بين النزوع التكوني (أي كون المتماهي مثلَ كينونة المتماهى فيه) وبين النزوع التملكي (أي مِلك المتماهي كينونة المتماهى فيه بدلاً من كونه مثلها)، على الترتيب (انظر أيضًا: المرزوق، 2007، الحاشية: 13). أما التحطيم الحتمي للعقدة ذاتها فيضع التشديد على إشراب السلطة (التحريمية) للمتماهى فيه في الأنا (الشاهدة) المكنونة في المتماهي (ذات الوجود الوَسْطي)، فيشكل، بعدئذٍ، هذا الإشرابُ في نفس المتماهي النواة لتطور الأنا العليا (ذات الوجود اللَّحقي). فإذا لم يزل الإشرابُ المعنيّ «يتماهى» في الإضفاء المثالي (أو النزوع التكوني)، إن صحّ القول، فإن مصطلحَي «الأنا العليا» The Super-Ego و«المثال الأنَوي» The Ego-Ideal لَمصطلحان مترادفان بمعنيَيْهما، على الرغم من أن «طباقًا ناقصًا» يجري وضعه في بعض الأحايين بين معنى «الشعور بالذنب» وبين معنى «الشعور بالخزي»، على الترتيب. وينحو لاكان، من هذا الخصوص، فيما يبدو، نحوَ التوسّع في (أو الزيادة من) شدّة هذا الطباق الناقص إلى مدىً أبعد ليجعله «طباقًا تامًّا»: ففي حين تجسّدُ الأنا العليا الكبتَ اللاواعي لأشكال تركيز الطاقة النفسية على الشخص/الشيء، يجسّمُ المثالُ الأنوي الانتقاضَ الجنسي الواعي لأشكال تركيز الطاقة النفسية هذه، فيجسّمُ، من ثمّ، مُساماتها (العاطفية) الواعية (قا: لاكان، 1938، ص 59 وما يتبعها). وفضلاً عن ذلك أيضًا، حتى من خلال تنظيره (أي لاكان) حول ما يسمّيه بـ«الأنموذج البصري» (ذلك الأنموذج الذي تمّ اشتقاقه، في الأصل، من استخدام فرويد المجازي للمِقراب (التيليسكوب) (قا: فرويد، 1900، ص 685 ومايتبعها))، يمضي لاكان إلى حدّ أكثر بعدًا ليضع تمييزًا بين المثال الأنَوي بوصفه ماهية نفسانية تشير إلى «الإشراب الرمزي»، من طرف، وبين ما يدعوه بـ «الأنا المثالية» The Ideal Ego باعتبارها ماهية نفسانية توحي إلى «الإسقاط الخيالي»، من طرف آخر (قا: لاكان،1- 1960، ص 414). وهكذا، كما هي الحال في الفارق التطوري بين التماهي الرمزي والتماهي الخيالي، ذلك الفارق الذي تمّت الإشارة إليه في المقال السابق (انظر أيضًا: المرزوق، 2007، الحاشية: 19)، فإن المثال الأنَوي (الذي يقوم بمهمة الدالّ المثالي) لَماهية نفسانية أكثر تطورًا من الأنا المثالية (تلك الماهية النفسانية التي تؤدي دور الصورة المثالية (أي الصورة المقدّسة للذات في طور المرآة)).

[15] قا: فرويد، 1909، ص 35.

[16] قا: فرويد، 1909، ص 44.

[17] را: المرزوق، 2007.

*** *** ***

دبلن، لندن








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احمد النشيط يصرح عن ا?ول راتب حصل عليه ????


.. تطور لافت.. الجيش الأوكراني يعلن إسقاط قاذفة استراتيجية روسي




.. أهم ردود الفعل الدولية حول -الرد الإسرائيلي- على الهجوم الإي


.. -حسبنا الله في كل من خذلنا-.. نازح فلسطين يقول إن الاحتلال ت




.. بالخريطة التفاعلية.. كل ما تريد معرفته عن قصف أصفهان وما حدث