الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فكرة -التقدم التاريخي-؛ هل هي صحيحة تماما؟ و إلى أيّ مدى ..؟ (شذراتٌ في -فلسفة التاريخ- )

محمد عبد الشفيع عيسى

2021 / 8 / 1
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


هل صحيح أن التاريخ البشرى يسير إلى الأمام، فكرياً وعملياً ..؟ وما هو "الأمام" ..؟ هل هو الأكثر "تعقيداً"، جرياً على مفهوم " التشعيب " complexity ..؟ بالمقارنة مع "البساطة" أو "السذاجة"، أم أنه، إن شئت، الأكثر تطوراً من ناحية تكنولوجيا التركيب والأداء ..؟ أم هو لا هذا وذاك ..؟ ولكن الارتقاء على سلّم التنظيم الاجتماعي ومنظومة القيم المحدّدة للسلوك الفردي والجماعي ؟.
إن أخذنا بمعيار التعقيد أو التشعيب الاجتماعي مقابل مجرد "البساطة"، فلا شك أن المجتمع البشرى حقق تقدماً هائلاً إلى الأمام منذ بداية (التاريخ) حتى الآن... إذْ لم يعد النشاط الإنساني يتحقق بالإنسان الفرد، ولكن بالمجموعات ثم المنظومات، وأن هذه المنظومات تعتبر أكثر تشابكاً عما قبل، وتحاكيها النماذج الرياضية والقياسية و "النمذجة".
وإن أخذنا بمعيار التطور التكنولوجي للأداة و الأداء، فلا ريب أيضا أنه حدث تقدم مذهل، من زاوية السيطرة على الطبيعة، على المادة الصمّاء والأرض الجرداء، وعلى المياه والمحيطات وعلى الفضاء الحيوي بل و الفضاء الخارجي، أي على "الكون" بمعناه الضيق ممثلاً فى الكوكب الأرضى وما يتصل به، وبمعناه الواسع ممثلاً فى جزء أو أجزاء من المجال المحيط بالكوكب من عوالم الفضاء اللانهائي .
و إن أخذنا بمعيار التنظيم الاجتماعى فسوف نجد تقدماً، ولكن أقل مما نراه فى ميدان "التعقيد" وتكنولوجيا السيطرة على الطبيعة من دورة الزراعة إلى دورة الصناعة ثم ما بعد الصناعة، كما يقال كثيراً هذه الأيام. إذْ لم يحدث تغير جذري مذكور منذ نشوء الأسرة وبروز ظاهرة السلطة، عبر آلاف السنين.
أما إذا نظرنا من زاوية المقولات الفكرية الناظمة للسلوك الاجتماعي والنظم الاجتماعية، فإننا سنجد تقدماً طفيفاً جداً، هذا إن كنا نجد تقدماً ما على الإطلاق. إذ لا نستطيع التسليم بسهولة بأن الإنسان المعاصر مثلاً أصبح أكثر ميلاً لتقبل فكرة الغيْرية (الإيثار) والتساوي مع الآخرين ، والعدل فيما بينهم، وتغليب "الجماعية" على الفردية والفئوية الضيقة بمختلف صنوفها أو نطاقاتها.
كما أننا لا نستطيع التسليم بأن الإنسان - وبالتالي المجتمع – المعاصر أكثر ميلاً من الإنسان فى العصور القديمة أو الوسطى إلى تقبل نبذ التعصّب ، أو إلى التسامح سواء بمعناه الضيق tolerance ممثلا بقبول الآخر، أو بمعناه الواسع مثلاً في الغفران forgiveness .
ولا يسعنا أيضا القبول بأن الإنسان المعاصر أفضل من قرينه في العصر القديم أو الوسيط من حيث التمسك بفضيلة الحق (قيمة الصدق) إن ظهر دليل عليه، أو بالخير، إن تبينت أفضليته، مقابل التمسك بالباطل والشرّ، وبالقبح (نقيض الجمال) .
و لذا لا نستطيع التسليم أخيراً بأن الإنسان المعاصر والمجتمع، أكثر ميلْاً للاصطفاف إلى جانب من يكون معهم "الحق" بمعنى تَمثُّل الحقيقة ، لمقاومة (الباطل)، أو أن الإنسان المعاصر من ثم أكثر ميلاً إلى العدل والإنصاف فى الحكم، ولو على حساب مصلحته الذاتية الآنيّة، مهما عظمت. و الدليل على ذلك أن نظريات العلاقات الدولية، على سبيل المثال، مهما تضاربت، فإنها تصل إلى نقطة اتفاق بأن الذى يحكم العلاقات بين المجتمعات فى عالمنا المعاصر ، هى مقولة "المصلحة"، وليس المبدأ المجرد، ولذلك يقولون كما قال "مورجنثاو" إن الواقعية تتغلب على المثالية كإطار نظري مفسّر للعلاقات بين الأمم والكيانات السياسية على العموم.
بهذا المعنى لا نجد تقدماً يذكر، أو نجد تقدماً بالمنظور النسبي ليكون الحكم أقل قطعاً.
و إن أردنا دليلاً على عدم حدوث تقدم يذكر في مجال العلاقات بين المجتمعات، بل ربما ترَاجُع من المنظور القيمي ، فإن "الحرب" أصبحت أكثر تكرارية وأشدّ عنفاً مما كان عليه الحال فى عصور سابقة . وإن ما يقال عن أعمال عنف واسعة النطاق إلى حد وقوع مذابح أو (مجازر) بشرية فى عصور مضت، يناظرها ما هو أشدّ وأنكى فى العصر الحديث والأيام الراهنة .. ولا نحتاج إلى سوق أمثال كثيرة حول ذلك. كذلك الحال فى التنكّر لأبسط القيم (المثالية) المفترضة. و إنّ ما جرى للشعب العربي الفلسطيني، مثلاً، من عدوان و احتلال وتهجير و من (تطهير عرقي) واسع النطاق على مرأى ومسمع من البشرية المعاصرة، على أيدي الحركة الصهيونية المتحالفة مع بعض الدول الكبرى، خاصة بريطانيا ثم أمريكا ، لهو دليل واحد على ما جلّ ما نذهب إليه .
أما عن القيم الباطنة و الثاوية خلف النظم الاجتماعية المتعاقبة، فلا نظنّ أنه حدث تقدم جوهري، ينفي واقع (العبودية) الظاهرة أو المقنّعة، لحساب الحرية الحقيقية . فالعبودية الجزئية التى سادت فيما يسمونه (العصر العبودى) slavery ثم علاقة "شبة العبودية" أو "القنانة" serfdom خلال حقبة الإقطاع الأوروبي الوسيط، قد تقابلها، إلى حدّ ما، و بمعنى نسبيّ ما ، "عبودية العلاقة الأجرية" في النظام الرأسمالي و " شبه الرأسمالي" الحديث.
لذلك نجد أن مقولة التطور التصاعدي على سلم النظم الاجتماعية كما تبناها فريق من المفكرين؛ حتى التقدميين منهم مثل كارل ماركس (1818-1883)؛ من العبودية إلى الإقطاع فالرأسمالية ، خادعة إلى حد كبير، إذ تجعل المحدد الرئيسي للتطور هو حدث تقدم في "قوى الإنتاج" وخاصة فى الشق المتعلق بأدوات الإنتاج. وكأنهم يرون أن تنظيماً اجتماعياً يسمح بالمزيد من السيطرة البشرية على الطبيعة ، ومن ثم تخلص الإنسان من أسْر أو "رق" الطبيعة، سوف ينجم عنه ربما بصفة تلقائية، إلى حدّ بعيد، حدوث مزيد من "التحرر" و الانعتاق للإنسان من أسر أو رقّ أخيه الإنسان. وهنا يمكن أن ترِد ملاحظة منهجية تتعلق بالتسلسل المنطقي الذي لا يبرره مجرد التسليم بفكرة التغير ذي الطابع "اللولبي" أو "الحلزوني" للأنظمة الاجتماعية، ويؤكده ما جرى في الممارسة الفعلية. إذْ لم يتبع (التقدم) المادي في ميدان العلاقة بين الإنسان والطبيعة، تقدم مناظر أو مكافئ في العلاقة بين الإنسان و أخيه الإنسان، بل ربما حدث العكس إلى حد ما حيث تقنّعت علاقة القهر الاجتماعي بوسائل مستحدثة سمح بها التقدم التكنولوجي نفسه (راجع : ميشيل فوكو) .
ومثال آخر على تهافت فكرة التقدم لدى بعض المفكرين والفلاسفة المعاصرين، غير كارل ماركس، نجده عند "أوجست كومت" ( 1798- 1857) رائد "الوضعية" فى علم الاجتماع، والذى رسم ثلاث مراحل في تاريخ البشرية: من النظرة "الوثنية -التعددية"، إن صح التعبير، إلى "الميتافيزيقية" إلى "العلمية الحديثة". وتنسجم هذه النظرة الوضعية لأوجست كومت مع الخط العام لفلسفة "التنوير" الأوروبية، التى اعتبرت أن سيادة النزعة العقلانية، والنهج العلمي فى التعامل مع الطبيعة، يؤشّر إلى حدوث تقدم "إنساني" لاشك فيه . هذا ما نراه عندنا محل شكّ .. فإن التنوير بالمعنى الأوروبى – الغربى قد اقتصر إلى حد كبير على مجرد استبعاد "ما وراء الطبيعة" من حقل دراسة "الطبيعة" ، وكأن ذلك يكفى لبناء ثقافة إنسان جديد. وهذا ما لم يتحقق فى التاريخ؛ فقد ترافق عصر العقل والاستنارة مع تفاقم الظلم الطبقي والاستعمار الخارجي، ثم تقييد العقل بأغلال غير مرئية كما تبدّى في عصر نضوج الرأسمالية المعاصرة( أنظر: "هربرت ماركوز" و كتابه "الإنسان ذو البعد الواحد") . وللحديث بقية في الحلقة القادمة مباشرة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رئاسيات موريتانيا: ما هي حظوظ الرئيس في الفوز بولاية ثانية؟


.. ليبيا: خطوة إلى الوراء بعد اجتماع تونس الثلاثي المغاربي؟




.. تونس: ما دواعي قرار منع تغطية قضية أمن الدولة؟


.. بيرام الداه اعبيد: ترشّح الغزواني لرئاسيات موريتانيا -ترشّح




.. بعد هدوء استمر لأيام.. الحوثيون يعودون لاستهداف خطوط الملاحة