الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


(دعِ النّارَ) نص الشاعر أمير الحلاج.. والنتيجة الابيقورية

داود السلمان

2021 / 8 / 2
الادب والفن


ثمة نصّ يُقرأ، وآخر لا يُقرأ. فالذي يقُرأ بالفعل، هو الناجح، والذي يعنينا هنا، هو الذي يظهر للوهلة الاولى، من خلال "المقدمة" مقدمة النص (سواء كان النص قصيدة شعرية، رواية، قصة طويلة أو قصة قصيرة، او حتى اذا كان النص بحث فكري، فلسفي، موضوعي). إذن، المقدمة لها مساس فلسفي بواقع النص، هو بمثابة معيار، أو ميزان نزن به النص، ومن خلال هذا المعيار او الميزان، سنحدد نجاح أو فشل النص، لأن المقدمة ستكشف لنا عن ذلك (الكتاب يبان من عنوانه). بصرف النظر عن كون المقدمة قصرُت أم طالت، ولنا مثالاً بمقدمة ابن خلدون الشهيرة، فأبن خلدون عندما رام أن يكتب التاريخ، كتب مقدمة طويلة اظهر فيها فلسفة التاريخ، ومن خلالها ظهر لنا علم جديد، سميّ هذا العلم بـ "علم الاجتماع".
وبعد هذه المقدمة (التي نعدها ناجحة كون من يقرئُها سيستمر في القراءة حتى النهاية) سنفلسف ما طرحناه في بواطن هذه المقدمة، وسنلبس هذا النص الذي بين ايدينا رداءً. وبالتالي، سنحكم على النص حكمًا مسبقًا، خاليًا من الجدل، الجدل الفلسفي، والنص هذا بعنوان "دعِ النارَ" للشاعر أمير الحلاج.
إذ يقول الشاعر في مقدمة النص:
"دعِ النّارَ تنفذُ فيكَ
ولا تدعِ الأذْنَ تسمعُ ردًّا لفعلٍ
ستبقى تصيحُ
كموجةِ بحرٍ
تبدِّدُ أنفاسَها الرّيحُ"
فالنار هي رمز للقوة، وخاصيتها عملية "الاحتراق" والانسان، قبل آلاف السنين، عندما اكتشف النار اصبحت ثمة تطورات كبيرة في حياته، ونقلات نوعية، اذ حقق نجاحًا في التطوّر والتقدم هائلين، بالنسبة له، آنذاك. والخطاب العام للنص، هو خاص بالإنسان المخلوق – العاقل، لأنه منطقيًا لا يجوز أن يوجه الخطاب للحيوان الاعجم، او للجماد او النبات. "ولا تدعِ الأذْنَ تسمعُ ردًّا لفعلٍ"، فالأذن، كما قال الشاعر العربي "تعشق قبل العين احيانا" وشاعرنا حذرنا من أن نسمع ردًا لفعل، لأن في ذلك مغبة ومحاذير، لعل اهونها هو تبدُد أنفاس الريح، وصاحب النص، هنا قال "الريح" ولم يقُل "الرياح" وثمة فارق بيّن هنا في المفهومين؛ فالريح احيانا تأتي بعواصف وامطار وزوابع فتخلف دمار وخسائر كبيرة للإنسان. فالرياح – إذن - هي بعكس الريح تمامًا، فمجيئها قد يكون فيه فوائد للأرض وللإنسان معًا.
يقول الطوسي في التبيان: "وفي الرحمة تجمع الرياح؛ لأنها جمع الجنوب والشمال والصبا. وفي العذاب (ريح)؛ لأنّها هي الدّبور وحدها وهي عقيم، ‌لا تلقح، فكل الرياح لواقح غيرها".( الطوسي، محمد بن الحسن، التبيان في تفسير القرآن، تحقيق وتصحيح أحمد حبيب قصير العاملي، بيروت، دار إحياء التراث العربي)
"فاصْرخْ
عسى من يمدّ يدًا
أو يعين انطفاءً بروحِكَ يحيا
كزيتٍ تروّي الذّبالةُ منه بها
في تلافيفِها
حفَّزَ اللّيلَ يرخيَ أظفارَه
خارجًا من رؤاه"
فأصرخ، (فعل أمر من الصراخ) هو دليل على أن هناك مخاطر يتعرّض لها الانسان مخُاطب بهذا النص. فبالصراح قد يكون انقاذ الانسان من تلك المخاطر التي تحف به. والصراخ يأتي لطلب النجدة، فالذي يتعرض منزله للحرق مثلا، فهو يصرح لينبه الناس على المصيبة التي حلت ببيته، كي ينقذوه وينتشلوه (بيته) من البقية الباقية من ممتلكاته؛ كذلك الذي يتعرّض للغرق، فهو يصرخ قبل أن تغطيه المياه في قعر البحر وتلتهمه الامواج، يصرخ بهدف نجدته واسعافه.
فالنص يتحدّث عن قصة حدث أو احداث اتسمت بمخاطر، وهذه الاحداث تتعلق بإنسان ما، ودونها لنا الشاعر أمير الحلاج على شكل نصّ شعري، النصّ يتمتع بحس فني ممتاز، وصور جسدت تلك الوقائع- الاحداث، وحثت القارئ على تعاطي قراءتها، والتمتع بذلك الجمال الفني، حتى وأن كان هذا النص فيه نوع من الشجن والحزن يدعوان القارئ الى وعكة نفسية، لأن النص يتحدث عن نكبة طبيعية حلت بمكان ما، في وقت ما، حتى وأنْ لم يحدد لها الشاعر الزمكان.
ثم يشرح لنا الشاعر تلك الاحداث، ويصفها لنا بدقة، ما يجعلنا نتابعها حتى النهاية، فهي رغم مأساتها، لكن فيها تشويق لمعرفة تلك الاحداث، كأن الشاعر يريد أن يؤرّخ فلسفة من فلسفة التاريخ، ومنه الى فلسفة الجدل، كالجدل الذي نظرّ له الفيلسوف الالماني هيغل؛ الا أن الشاعر يتبع طريقة النص الشعري لا الجدل الفلسفي، لأنه بالشعر تكون الوقعة على القارئ اكثر انسانية، واوقع تأثرًا بالحدث واعظم من سواه.
هذا "ويسير الجدل مع الأحداث ويسبقها ويتقدم عليها. ولذلك فالجدل ليس منهجًا للتصور، وإنما هو منهج للتقدم، ومن ثم يتعلق تعلقًا أصيلًا بالكل الذي لم يتحقق أو لم ينتج بعدُ، أو بالكلية التامة التي ينتظر أن تظهر في آخر الزمان. ويحلل بلوخ تاريخ الفلسفة كله على أساس الفصل بين الذات والموضوع، فتارة يتم التركيز على الذات فتكون الفلسفات المثالية الوجودية، وتارة يحدث تركيز على الموضوع فتكون الفلسفات المادية والآلية الفجة التي هاجمها هجومًا شديدًا. لذلك يحاول في كل كتاباته أن يوحد بين الذات والموضوع وبين الوجود والماهية اللذين لم يتحدا بعدُ - في رأي الفيلسوف إرنست بلوخ - وحدةً حقيقية، لأن تحقيقها مرهون بالوعي والإرادة البشرية، والنزوع الموضوعي والاتجاهات المستقبلية نحو هذه الوحدة". (عطيات أبو السعود، الأمل واليوتوبيا في فلسفة إرنست بلوخ، ص 194، منشورات مؤسسة هنداوي لسنة 2017)
والنتيجة التي يتوقعها الشاعر، أو فعلن توقعت، كون الشاعر شعر بوقوعها مسبقا، حتى وأن كانت لم تقع بعدُ، والا لماذا سميّ الشاعر بشاعر؟. النتيجة هي:
"لتضحكَ صَنّارةٌ جرَّتِ الشَّمْسَ من نأيِها
فلعلَّ فعلًا
عسىً يستفيقُ
لعلَّ
لعلَّ
فهل تتمعَّنُ في المشهدِ المتفتِّحِ
تأخذُ من عِبْرَةٍ
عِبرَةً"
وكل هذه تساؤلات فلسفية ديالكتيكية (عسى، لعلَّ، فهل) و المشهد المتفتِّحِ، ما عبّر عنه الشاعر في مقدمة النصّ، لأن الشاعر قد رسم لنا سيناريو واضح المعالم لهذا النصّ، وبدأه بمقدمة وصفناها بـ "ناجحة" لاعتبارات ذكرناها آنفا.
وسنجد قريب من هذا المعنى لدى شوبنهاور الفيلسوف الالماني الذي وُصف بالمتشائم. "ويتحدَّث شوبنهاور، الكاره بشدة للبشر، ببُغض نادرًا ما يَكبِته تجاه «هذا العالم المكوَّن من مخلوقات دائمة الاحتياج، والتي لا تستمر لبعض الوقت إلا بالْتهام بعضها بعضًا، وتُورِّث وجودها في قلق وعَوَز، وغالبًا ما تمرُّ بمِحَن مريعة حتى تسقط في النهاية في براثن الموت. إنها رؤية تَختلِف تمامًا عن «الود» عند هتشسون أو مملكة كانط المسالمة. فالعاطفية قصيرة النظر، عند شوبنهاور، هي وَحْدَها القادرة على تصور أن الملذَّات الزهيدة للوجود الإنساني - تلك المحاكاة الهزلية التي ينقصها حتى «وقار» التراجيديا - يمكنها أن تعوِّض بؤسه غير المنتهي". (راجع: تيري إيجلتون، مشكلات مع الغرباء: دراسة في فلسفة الأخلاق، ترجمة عبد الرحمن مجدي ومصطفى محمد فؤاد مراجعة مصطفى محمد فؤاد، منشورات مؤسسة هنداوي- بمصر لسنة 2019)
واذا قلنا للشاعر هل لك أن توصف لنا باختصار، تلك الحادثة المأساوية؟ فيقول:
"مثل عودِ الثّقابِ
يُقّصِّرُ قامتَه لتطولَ الظّلالُ
وينسى اختتامًا
لصفحَتِه الطّيَّ يشهرُ"
يقول: لأن عود الثقاب يقصّر قامته، وهدفه أن ينير دروب الآخرين من بني البشر، ليقطعوا صتهم بالظلام، وذلك بالنار التي تحدث الامر من خلال عملية الاحتراق التي تخرج بالنتيجة، وهي تحصيل حاصل، وكأن الشاعر عاد بنا الى مركز الانطلاقة الاولى للنصّ لغرض تذكيرنا، او لاكمال السيناريو .
لنصل، أخيرًا، بذلك الى ختام النصّ، لنرى كيف انتهت الحال، وهل أنهى الشاعر نصه هذا بخاتمة ناجحة؟، بحيث تكتمل لدينا الصورة، وندرك المعنى الذي من اجله كتب الشاعر هذا النص، مع صراعات نفسية زامنته اثناء الكتابة، وهو يخوض مخاضًا عسيرًا لولادة نص يعج بالمعنى؟.
"يا أيّها المتوقِّفُ وَسْطَ اختلالِ المسارِ
دعِ النّارَ تعملُ
إنَّ التّطهُّرَ لا يتحقَّقُ بالرّغباتِ".
فالذين يريدون التشكك في بعض القضايا الكلامية، والقضايا المعرفية، وربما حتى العلمية منها، يقول الشاعر: "دعِ النّارَ تعملُ" على اعتبار الناس كحقيقة لا جدال فيها، لأنها تتولد عن شيء ملموس، نراه بالعين المجرّدة، شيء يحوّل لنا القضايا المادية الى صورة أخرى، كأن مثل ذلك حينما تنضج هذه الناس المأكل النيء الى مأكل ناضج تستسيغه النفس. وبهذا يحيلنا الشاعر امير الحلاج الى الفلسفة الابيقورية، والتي يبناها، فيما بعد، ككارل ماركس نبي الماركسية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس


.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني




.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/