الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الرواية الكاملة -خوف- خالد خضر

رائد الحواري

2021 / 8 / 3
الادب والفن


الرواية الكاملة
"خوف"
خالد خضر
هذا الشهر كنت محظوظا بما قرأت، فكل ما وقع بين يدي من نصوص كان ممتعا ومتميزا، ورواية "خوف" تأتي لتكون ختام مسك، فهي رواية حقيقية، بمعناها الأدبي وليس الحدثي، فالسارد "زياد عبد الله عيسى" يدخلنا إلى مسرح عشتار ليخرجنا من الواقع ويدخلنا إلى الماضي، الذي يستخرج منه شخصيات لعبت دورا في أحداث المنطقة، فيحدثنا عن "عشتار/أنانا"، وعن علي ومعاوية، وعن الحلاج ونهجه، وعن يزيد بن عبد الملك، عن جمال عبد الناصر، فالخيال/التخيل يعد أحد اركان الرواية الأساسية، فمنه وبه استطاع السارد أن يكشف حقيقة الواقع الآن، حيث عمل على ربط انتكاسات الحاضر بما جرى في الماضي.
من هنا سنجد بعدا فلسفيا في الرواية، بعد يتجاوز ما يطرح على السطح ويدخل إلى الجوهر، وسيكون هناك لقاء الأعداء، لقاء وحوار بين الضحية والجلاد، وسيكشف لنا الفرق بينهما، الفرق بين من يعمل لوطنه ويقيض الأجر، ومن يعمل لوطنه تطوعا، (والمشترك) بين من يُتعذب ويُجلد وبين من يُعذب ويجلد، وستكون المرأة حاضرة، المرأة الحرة، التي تمارس حياتها كما تريد، المرأة التي تكشف حقيقة الذكور الذين يدعون حبهم للحرية ويخفون مآربهم الشخصية، من هنا سيكون وقفات مع الجنس وكيف تنظر إليه "سارة"، وسيأخذا إلى شخصيات لعبت دورا بطوليا، بعيد عن الأضواء الساطعة، لكنها شخصيات منسجمة مع ذاتها وصادقة، لهذا ترك أثرا على السارد.
وبما أن "زياد" يعيش في المنطقة العربية، فسيدحثنا عن ما يشبه "شرق المتوسط" ويدخلنا إلى السياسة ومرارتها على من يمارسها في المنطقة العربية، وسيبين عقم النظام الرسمي كاشفا عيوبه ونهجه القمعي، في المقابل سيكون هناك نماذج للمقاتلين المتفانين في خدمة الوطن والدفاع عنه، مبينا كيف أن النظام الرسمي يعمل على قتل كل ما هو نقي ووطني أو قومي، ولن يكتفي بهذا بل سيدخلنا إلى نظام التعليم وكيف ان المدارس هي المحطة الأولى التي تروض الإنسان وتخضعه ليكون طيعا ومنساقا مع النظام.
وهذا ما يجعلنا نقول أننا أمام رواية كاملة، رواية حقيقية، تشبع المتلقي وتجعله يشعر بأنه أمام عمل أدبي استثنائي، وقد اشارة السارد إلى كمالية الرواية من خلال تقسيمها إلى سبعة فصول: "بدايات، عشق، موت، خوف، فوضى، أمكنة، بدايات أخرى" وكأنه يقول أنها (مقدسة) ودائمة، والتي نلاحظ فيها عدم وجود أل التعريف، وكما أنها معناها يخدم حالة الفرد والجمع، أذا ما استثنينا "بدايات، وبدايات اخرى" التي تعطي معنى الجمع.
الشخصيات
"زياد عبد الله عيسى" الشخصة الرئيسية في الرواية وهي التي تجمع بقية الشخصات حولها، يعرفنا بنفسه وبأصله: "فأنا كما قلت لك زياد عبد الله عيسى، جئت إلى هذه الأرض في أواخر الخمسينيات من هذا القرن، ولدت في عمان من أبوين أصولهما من يافا في فلسطين... أعرف من البلدان الأردن، لبنان وتونس، وأعرف من الفضاء عالم عشتار، هذا الذي سأحدثك عنه فيما بعد" ص7و8، فاتحة تشير إلى المكان محدد، وإلى فضاء مفتوح، فالسماء أوسع وأكبر من الارض، كما يحدثنا عن الأشخاص الذين أثروا عليه وتعلم منهم: "سارة علمتني عشق البحر، والراعي أدهشني بالصحراء" ص107، وهذا يأخذنا إلى عوالم واسعة، فالصحراء تكون مترامية الأطراف والبحر كذلك، كما ان لونها الأصفر والأزرق لافت ومدهش، لكن هنا اختلاف هائل بينهما، فالصحراء لا حياة ظاهرة فيها، والبحر مترع بالحياة، والصحراء ثابته والبحر متحرك، وهذا يأخذنا إلى الفضاء المفتوح وعشق السارد له.
يأخذنا إلى بداية تكوينة، إلى المدرسة والأثر الذي تركته فيه: "..فقد كان أكثر الأيام رعبا في حياتي عندما حبسني استاذ اللغة العربية وأنا في صفوفي الابتدائية الأولى فيما كنا نسميه بغرفة الفئران... بقيت طوال الوقت أبكي دون صوت حتى لا يسمعني فتخرج لي، وعندما فتح آذن المدرسة كنت ملتصقا بالمقاعد التالفة، ولم اقوى على الخروج، فحملني إلى الساحة، وبقيت وقتا لا استطيع فعل شيء سوى النظر إلى غرفة الفئران، ثم هربت نحو البيت، ركضت، ركضت دون الالتفات للوراء، ومنذ ذلك الوقت وأنا أكره معشر المعلمين في بلادنا" 147، اللافت في هذا الحدث ان السارد يتحدث عن عقاب من معلم اللغة العربية، اللغة التي كتب بها عمل روائي يعد استثنائيا في الرواية العربية والفلسطينية، وهذا يشير إلى عقم النظام التعلمي الرسمي العربي، فهل يعقل أن يكون من يكتب رواية بهذا الشكل وهذا الحجم وهذه المواصفات، أن يكون مقصرا في تعلميه، وغير قادر على القيام بواجباته!؟.
كما أن السارد بكتابته لهذا الرواية يوجه صفعة لذلك المعلم وللنظام التعلمي الرسمي، الذي عمل على قتل الابداع فيه، فهو من خلال رواية خوف" يثبت تمرده وتالقه أدبيا، متجاوزا حالة الخوف والرعب التي سببها له التعليم الرسمي.
ويؤكد على تكامل النهج الترويضي للافراد بقوله: " ...ولكنها العصى، هي ما أذكره تماما في المدرسة، وعندما أنهيت سنوات المدرسة تلقفتي عصى الأمن، حتى أنني كرهت كل أشكال العصى، بما فيها العصى التي تحمل الأعلام واليافضات.
أنه الخوف الذي هددني منذ طفولتي، لقد كنت طالبا مجتهدا، ومع ذلك عندما يسألني المعلم سؤالا ما، كنت أرتبك ولا أعرف النطق بالإجابة، فقد كنت أخاف من أن تكون إجابتي خاطئة فأعاقب" ص190و191، من خلال ما قاله "زياد عيسى" نصل إلى عددة مسائل، منها، أن النظام القمعي الرسمي يبدأ من المدرسة ويستمر حتى الممات، الأفراد فيه مبدعين ومتألقينن لكنهم لا يحسنون إخراج هذا الإبداع للحياة أو للآخرين، حيث انهم يعانون نفسيا، ثم، رغم القمع الممنهج الذي يمارسه النظام الرسمي، إلا أن الافراد يتمردون على ما هو قائم، من هنا وجدنا السارد ينتمي لحزب سياسي غير مكترث لما سيتعرض له من أذى وتعذيب وسجن ومنع من السفر ومطاردة في لقمة العيش، بمعنى أن الافراد يتجاوزون حالة قمع النظام، وهذا يؤكد على فشل وسائل القمع والنهج القمعي المستخدم، ويؤكد على قوة الأفراد وتجاوزهم لكل القيود والمعيقات التي يضعها النظام امامهم وأمام تألقهم وتمردهم.
يتناول "زياد" علاقة ب"سارة" التي تتماثل معه في التمرد على الواقع، والتي تعلم منها الكثير، يحدثنا عنها من خلال هذا المشهد: "كنت أراقبها وأغار من مداعبة الموج الصغير لصدر سارة، وأغار من انثناءات سارة وتقلبها في حضن البحر، جسد أسمر شفيف يضاجع الأزرق الممتد، فيعلو هدير الموج حيث لم أرى البحر أكثر نشوة من هذه اللحظات" ص232، المقطع يؤكد على العلاقة الوطيدة بين السارد وسارة، لهذا نجده يغار عليها من الموج، لكن اللافت في المشهد هي الاشارة ـ غير المباشرة ـ التي تبين حجم المشاعر التي يمتلكها "زيادة" فهو حساس إلى درجة الغيرة من الموج، لهذا وصفه "لم أرى البحر أكثر نشوة" وهذا يأخذنا إلى تمرد زياد على النظام ونهجه القمعي، فهو يقول من خلال هذه المشاعر: أنه ما زال إنسيانا نقيا منتميا يتأثر باي فعل/قول/حدث، ولم تستطع المدرسة ولا الأجهزة الأمنة أن تجعله بليدا/خانعا/محبطا/كسولا، لهذا هو لم يرد أن يتحدث عن نفسه بصورة مجردة، بل اراد أن يشير من خلالها إلى أنه انتصر على النظام ونهجه، من خلال حديثه عن مشاعره الإنسانية تجاه "سارة".
يحدثنا عن عمله السياسي والثمن الذي دفعه نظير انتماءه للحزب: "وتبقى سورة الفاتحة تلهج بها ألسنتنا... وكان لي أن قرأتها على قبر الدي بعد خروجي من السجن، فقد مات والدي وأنا في السجن، ولم استطع وداعه أو حضور جنازته... بعد خروجي من السجن طلبت من والدتي زيارة قبر أبي، وعندما شاهدت اسمه على شاهد القبر بكيت لأول مرة عليه، فقد احسست فقط حينها أنه مات، وكم شعرت بالرغبة لو أنه مات بيننا نحن أسرته التي بناها، فقد تفرق ابناؤه في العواصم والبلدان، وكنت أنا في السجن" ص124 و125، هذا المشهد يأخذنا إلى عدم إنسانية النظام الرسمي العربي، الذي يمنع السارد من حضور جنازة والده، بسبب انتمائه الحزبي، وليس لأي سبب آخر، كما أنه يقدم صورة ـ غير مباشرة ـ عن الأسرة الفلسطينية التي تعيش متفرقة ومشتتة.
السجن والتعذيب
يقدم لنا "زياد" أكثر من مشهد عن التعذيب وما تعرض له على يد المحقق "عبدالله عواد" منها هذا المشهد: "زياد أنت شاب مثقف وتعرف مصلحتك، ببساطة المطلوب منك هنا ان توضح علاقتك بالحزب، وتعترق بكل ما عندك، فكل شيء عندنا... علاقتك الحزبية في الجامعة، وبعد الجامعة، وفي بيروت، وفي تونس، وعليك أن تعترف عن كل من كان معك.
...لم أكن فكرت مسبقا بنوع الصراخ الذي سأصرخه، والعبارات التي سأصيح بها، ولكني صرخت بآه مخنوقة، بقيت أصرخ بها طيلة الوقت.
بدأ جسدي يغرق في العرق عندما طلب عبدالله عواد من الجنود التوقف عن ضربي، واقترب مني قائلا: ها .. هل ستعترف أن نكمل السهرة على هذا النحو ...بهذا انتهت الجولة الأولى بيني وبين عبدالله عواد بالتعادل، ففي مثل هذه المباريات لا تملك أن تفوز أو تنتصر، بل ما عليك هو ان لا تجعل الآخر يفوز أو ينتصر" ص288، المشهد مؤلم وقاسي، وكان لا بد من إيجاد (مخفف/مهدئ) لما تعرض له زياد، وما سببه مشهد التعذيب من ألم للمتلقي، من هنا يأخذنا مباشرة إلى تكملته: "وصلت زنزانتي، وأخذني الشيخ مازن، ابتسم الشيخ وهو ينظر إلي قائلا: لا أعرف كيف تتحملون هذا يا معشر اليساريين دون انتظار الثواب، ودون أن تفكروا في الجنة" ثم دفع الوسادة تحت رأسي، وقال: ستكون ليلة مؤلمة، ولكن تذكر أن الألم يذهب مع الوقت" ص288و289، فالشيخ مازن هنا لم يخفف على "زيادة" فقط، بل ايضا ساهم في اعطاء جرعة أمل للقارئ، مبشرا بأن "زياد" لن ينهار أو يسقط رغم ما يتعرض له، وما قوله "أن الألم سيزول مع الوقت"، إلا تأكيدا على صمود "زيادة" وثباته.
أثناء التعذيب يتألم "زياد" ويصرخ من شدة التعذيب والألم الذي يسببه له، يقدم لنا هذا الصراخ بطريقة نبيلة، تؤكد على أنه رجل قوي متفاني في خدمة قضيته، وخدمه الحزب، وخدمة رفاقه: "...فكرت تلك الليلة بالراعي ومحمود حسان، وهل سمعا صراخي وعرفاه، في المرة القادمة لن أصرخ، أو سأحاول أن لا أصرخ" ص289، بهذا النبل والشهامة كان "زياد"، يكتم وجعه لكي لا يؤذي رفاقه، وهذا النبل يخفف على القارئ أيضا.
يحدث نفسه عما يمكن أن يقوله "لعبدالله عواد" عن الحزب ورفاقه، مؤكدا على ثقته وإيمانه المطلق بهما: "ماذا سأقول له عن الحزب؟ إنه مجموعة من الناس الطيبين يكرهون الاستعمار والمستعمرين؟، لا يحبون الاستغلال والمسيتغلين؟، إنه فقط مجموعة من الناس الطيبين، يحبون بلادهم وشعوبهم ويدافعون عنها وعنهم، وأحيانا يحلمون بالوحدة العربية، وأحيانا بالاشتراكية، هذا هو الحزب باستثناء بعض القياديين الذين لو اعتقلوا لكان الحزب حقا مجموعة من الناس الطيبين" ص290، من خلال تكراره ل"الطيبين" يمكننا ان نصل غلى صورة الحزب المثلى، فهو يراه حزبا نقيا وافرادا أنقياء، لو خلى من بعض الشوائب التي تشوهه، والتي تحدث عنها في نهاية المقطع، هكذا يرى "زياد الحزب".
من خلال "الشيخ مازن" رفيقه في الزنزانة، يقدم مشاهد يخفف من فسوة التعذيب منها: "قضيت شهرين مع الشيخ مازن في الزنزانة، فمرة يكون علي أن أجلب وعاء الماء الساخن والملح، وأدلك له قدميه، ومره هو يفعلها، ...وبعد مرور بعض الوقت عاد الشيخ مازن والدم ينزف من قدميه، وجلس بجانبي ووضع قدميه في نفس الوعاء، قلت له حينها إننا بحاجة لثالث لعملية التدليك، ضحكنا والماء يزداد تلوثا بدمائنا، ملأنا الفضاء بصوت ضحكنا الذي نفذ من بين القضبان، إلى أن جاء صوت الحارس يصرخ بنا قائلا: "إستح يا حيوان"
توقفنا عن الضحك للحظة، ثم قال الشيخ مازن مشيرا بيده إلى أقدامنا في الوعاء، هذه هي الاشتراكية التي حدثتنا هنا... هي أن يقتسم الناس وعاء الماء الساخن لأقدامنا، عدنا للضحك، ولم نتمكن من مسك أنفسنا عن الضحك، كانت ليلة جد مختلفة عشناها في ذلك المكان" ص291، اللافت في هذا المقطع ان "زياد" ينتصر هنا على "عبدالله عواد" ولا يتعادل معه، فمن خلال الضحك، ومن خلال قبول الشيخ مازن بفكرة الاشتراكية التي يتبناها مازن وحزبه، فقد استطاع أن يتجاوز حال الالم والوجع، إلى حالة الضحك، وتحول من حالة التقوقع على الفكر الاشتراكي إلى (نشره).
رغم هذا الحماس والحمية تجاه الحزب، إلا أن "زياد" لم يتردد في تبيان عيوب الحزب، التي جاءت على لسان "الشيخ مازن": "وبدأ يداعبني بمقوله إذا أمطرت في موسكو رفع الرفاق في عمان المظلات. وأخذ يذلني باعتراف الاتحاد السوفييتي بإسرائيل" ص 291، هذا النقد الذي جاء من شخص غير حزبي، والنقد الذي جاء على لسان زياد، والمتعلق ببعض القياديات في الحزب، يشير إلى حالة الديمقراطية والحرية التي يمنحها زياد والحزب للآخرين، فزياد والحزب لا يتعاملون مع النقد كما يتعامل النظام، بل يتقبلوه بروح ديمقراطية، وهم مهتمين فيه ليصلحوا ويطوروا نهج الحزب، ويزيلوا ما علق به من أخطاء وثغرات.
السجن احدى محطات ترويض الأفراد، ويمكن ان تكون هي المحطة الأكثر رعبا ورهبة، لهذا نجدها تترك أثرها على من يدخلها، يحدثنا "زياد" عنها من خلال هذا المشهد: "...إلا يشعرك وجودي بشيء؟... أقصد أنا وأنت رجل وامرأة في بيت مغلق؟
فهمت قصدها، ولكني خجلت إضافة إلى انني قد نسيت حتى كيف يُفعل هذا الشيء، فقد مرت سنوات السجن، والسنوات التي تلتها، وأنا بعيد عن هذا الشيء، لاحظ يا بحري الصغير أنني أسميه الشيء، هكذا تسميه أمي أيضا، ولكن خجلي وتلعثمي لم يمنعا حنان سلمان من الاقتراب مني وضمي، وكان ذاك الشيء بيننا ساخنا كسخونة الظهيرة في مدينة العقبة، خاصة بعد الكؤوس الثلاث التي كنا قد شربناها لتونا" ص247، إذا ما توقفنا عند ما جاء في المشهد، سنجد وجود حالة خوف، وعدم معرفة، وعدم قدرة جسدية ونفسية للمارسة "الشيء" فقد كان للسجن أثرا كبيرا على "زياد" ومع هذا استطاع أن يقوم به وباحتراف، لهذا وصفه ب"ساخنا"، ولم يكتفي بتجاوز حالة العجز وعدم القدرة على ممارسة "الشيء" بل تعداه إلى تمرد آخر، يتمثل بشرب "الكؤوس الثلاث"، وهذه اشارة أخرى إلى تمرده على ما هو سائد، وتجاوزه للعوائق والحواجز التي وضعها النظام والمجتمع.
فالجنس في هذا المشهد جاء كحالة تمرد وفعل ثوري، يحقق الذات التي تعرضت للتعذيب وللسجن وأبت الترويض، فرغم كل ما مرت به نجدها تقوم بما هو (محرم) بطريقة استثنائية، وهذا ما يجعل للقمع ردة فعل تتوزاى مع شدته وقوته، وحتى يمكن أن تتجاوزها وتتقدم عليها، وهذا بمثابة دعوة ـ غير مباشرة ـ إلى ضرورة وجود الحرية بكل ما تحمله من معنى، حرية سياسية، اجتماعية، اقتصادية، فكرية.
شرق المتوسط/السقوط
ليس كل المناضلين يصمدون أمام التعذيب، فبعضهم ينهار لسبب أو لآخر، "محمود حسان" ينهار ويسقط في التحقيق، ويعترف على "زياد والرعي، يقدم لنا "زياد" صورته بعد أن أدلى باعترافاته في المحكمة: "فبعد خروجنا أنا والراعي من السجن كان آخر منظر شاهدناه لمحمود حسان هو شهادته علينا في المحكمة العسكرية وخروجه منها باكيا. وقد طلبت منا ناديا زيارتهم، حيث زارتني بعد خروجي من السجن دون محمود حسان، وشرحت لي عن ظروفه النفسية السيئة التي لاافقت سجننا" ص235، هكذا هو المناضل المبدئي، حتى لو انهار واعترف يبقى ضميره حي، لهذا يتألم نفسيا ويتعذب لعدم قدرته على الصمود كباقي رفاقه، وعندما قام الراعي وزياد بزيارته: "كان اللقاؤنا متوترا جدا، حيث بقينا نهرب من إلتقاء هيوننا، وبعد كل الأسئلة عن أخبارنا وأخباره قال لنا: "أرجوكم أن لا تزوروني ثانية، فأنا أشعر بالقرف من وضعي هذا... لن تصدقوني إذا قلت لكم أن المعتقل كان صعبا علي، فحياة الطفلين اللذين انجبتهما سمنتني طيلة فترة الاعتقال، ولم أقدر على الصمود دونهما، ودون حماية حياتهما، ...ولم يكن اعترافي وشهادتي لتضيف شيئا إلى ملف التحقيق ضدكما، فقررت الهروب وحدي، ولكني هربت من السجن إلى جهنم.
وأخذ يومها محمود حسان بالبكاء" ص236، صورة تتماثل تماما مع صورة "رجب إسماعيل" الذي ما أن انهار حتى أخذه ضميره يعذبه، بعذاب اشد من العذاب الذي تلاقاه في المعتقل، لهذا عاد ليلاقي حتفه كبطل صلب وليس كمنهوم، وهذا ما حصل مع "محمود حسان"، حيث ما بدأت حرب الخليج حتى عاد يشارك رفاقه في المظاهرات ضد العدوان على العراق.
وهذا ما يحسب للسارد الذي لم يقدم شخصيات الرواية ضمن مستوى واحد، بل جعل هناك تفاوت وتباين بينها، فكان احياء شخصية "رجب إسماعيل" من خلال "محمود حسان" يخدم فكرة الصمود والثبات، لأنها قدمت مرة أخرى حالة المهزوم والعذاب الذي يتعرض له، وكأن السارد يقول للقارئ لا تكن مثل "محمود حسان" لكي لا تتعذب عذابه، وكن مثل "زياد" الذي كان يضحك حتى بعد حفلة التعذيب، بينما كان "محمود" يتألم ويبكي دون تعذيب.
لقاء الضحية والجلاد
لم أقرأ في أي عمل روائي لقاء تم بين الضحية والجلاد ـ خارج غرفة التحقيق ـ لكن في رواية "خوف" يتم اللقاء بين "زياد عبدالله عيسى" وبين الجلاد "عبدالله عواد" على شاطئ العقبة، فكان هناك بينهما لقاء وحوار من الضروي التوقف عند ما جاء فيه: "عبدالله عواد على شاطئ العقبة، لم يكن كله بلباس السباحة هو ذاته في غرفة التحقيق، ...كان يجلس ممسكا زجاجة البيرة بين يديه، وعيناه تتابع موج البحر الخفيف على الشاطئ، اقتربت منه حينها ولا أدري لماذا، لكني فعلت، قالت له: مرحبا، فرد علي بصوته ذاته ولطن بعبارة لأول مرة أسمعها منه فقد قال: "أهلا أهلا وسهلا تفضل".
ثمانية اشهر في مبنى المخابرات ولم يكن بين مكتبه وزنزانتي سوى بضعة أمتار، ولأول مرة اسمع منه عبارة عادية دون شتيمة لكنها بنفس الصوت.

اقتربت منه وقت هل تذكرني يا سيد عبدالله عواد؟. نظر إلي وأعاد عينيه إلى البحر ثانية، ثم قال لا عفوا، لكن تفضل، تستطيع الجلوس، تفضل..
ـ أنا زياد عبدالله عيسى، هل تذكرتني؟
ـ آه زياد، من زياد؟!
...حاول عبدالله عواد النهوض وقال: إنني مضطر للخروج، ولابما نلتقي فيما بعد، فإجازتي طويلة في العقبة، وما أن أتم جملته حتى عاد إلى مقعده، فقد كان ثملا إلى الدرجة التي لن يستطيع بها المشي أمام الناس، وتحديدا أمامي، فماذا لو وقع وحاول أحد أن يساعده في الوصول إلى غرفته وهو في هذه الحالة، فليس عبدالله عواد من يسمح بأن يراه أحد وهو ضعيف....
ما رأيك بهذه الصدفة التي جمعتنا أنا وأنت وعلى بعد أكثر من 350 كيلو كترا عن غرفة التحقيق، ودون لباسك الداكن، ودون لباس السجن الذي كنت أرتديه، ولم يرفع عينيه عن البحر وهو يقول: "تلك الأيام مرت/ وكان لا بد لنا أن نعيشها، علينا أن ننسى الآن كل شيء، فقد تغير كل شيء، وعمت الفوضى..
ـ ماذا كنت تشعر أثناء التحقيق معنا، وهل حقا كنت تعتقد بأننا خطر على أمن البلد واستقراره.
... سأقول لك بصراحة يا أخ زياد، أنا وأنت ضحايا المعارك وهمية، كنتم دائما تقولون عنا بأننا لسنا بشرا، وأننا طغاة قساة، وكنا نراكم بنفس الصورة التي تروننا بها، ربما كان دورنا أقسى قليلا، ولكنه دورنا الذي كنا نلعبه في المسرحية،... كنتم تدافعون عن الوطن، وكنا نعتقد بأننا أيضا ندافع عن الوطن، كنتم ترون التغيير سيكون ايجابيا للوطن، وكنا نراه زعزعة لأمن واستقرار الوطن، الفرق بيننا وبينكم أننا كنا نفعل ذلك ضمن وظائفنا وامتيازاتنا، وأنتم كنتم تفعلون ذلك مجانا.. فالعالم الثالث بكامله لا يتحرك من داخله وإن كنا نختلف في الداخل عمن يحركه منه....كان سؤالك عن سبب اختياري للمهنة، وسأجيبكعن هذا السؤال بصراحة، فأنا ابن لضابط كبير خدم طيلة حياته في أجهزة الأمن، وكنت أرى والدي نموذجا رائعا، كما يراه الناس أيضا، فقد كانوا يسمونه الباشا، وجميعهم يتزاحمون عليه، ..غالبا ما كانت تكفي ورقة بتوقيعه لتلبية طلباتهم الصغيرة، ...كنت في قريتي شاعرا شابا يكتب عن الوطن، وعن آمال أمته، وعن حبيبته والعشق، وبعد رحيلي عن القرية تركت شاعرا هناك كنته في فترة ما، وذبت أنا في ضجيج العاصمة...كنت اعتقد بأن الوطن يشهد مؤامرات عديدة، لهدمه، وانكم أدوات هذه المؤامرات، وفجأة اكتشفت أنكم لستم كذلك، بل أنتم أضعف من ذلك أيضا، كان دورا يكلفني الكثير، فأنت لا تعرف يا زياد كيف كانت أصواتكم تلاحقني إلى تفاصيل حياتي اليومية، فقد كنت أسمعها وتعيش معي تقضي مضجعي وتقطع عني لذة النوم مع زوجتي ومداعبة اطفالي، لاكنه دور، أنه دوري في المسرحية، هو دور ثقيل جدا، وكان يحتاج إلى إتقان باهر، فقد تركت كتابة الشعر، وأعدت ترتيب قسمات وجهي، ونبرات صوتي، وحركات يدي، هكذا قمت بتمثيل الدور دون أن أعرف عن نهاية للمسرحية، ودون أن أعرف ابطالها ومخرجيها" ص91-97، رغم ان الاقتباس طويل، إلا أنه مهم، فهذه المرة الأولى التي نسمع فيها من الجلاد كيف يتصرف وكيف يفكر وماذا يريد وكيف يقوم بدوره، وأنه (صاحب ضمير)، وكيف يعترف بأنه يقوم بدور وظيفي يتقاضي عليه أجرا لحماية الوطن، لكن اللافت في هذا الاعتراف أنه يساوي بين الضحية والجلاد، فهو يعتبر تعذيب الآخرين كان حماية للوطن، رغم انهم أبناء جلدته، وأنه تساوى مع ضحاياه في خدمة الوطن، رغم انهم يتعرضون للتعذيب والحرمان من عائلاتهم وأسرهم ويحاربون بلقمة عيشهم، وهو الذي يتلقى راتبا عاليا ويحصل على امتيازات كثيرة اقتصادية وتنفيذة.
اعتقد أن هذا اللقاء يدين الجلاد ويعريه كما يدين ويعري النظام، الذي مارس التنكيل بكل من حاول الخروج من القطيع، أو رفض الترويض الذي مُورس عليه وعلى المواطنين، فكل ما جاء على لسان "عبدالله عواد" يحسب عليه وعلى النظام الذي شوه صورة المناضلين، ولم يتوانى عن إلحاق أشد الأذى بهم وبأسرهم وعائلاتهم، من هنا كان من الضروري أن نسمع صوت الجلاد وكيف يبرر لنفسه ما قام به.
النظام الأردني
السارد يتحدث عن ممارسات النظام الأردني السلبية، مبينا أن هناك نهج يحول دون تنمية البلاد بشكل صحيح، وأنه هناك أخطاء تمارس بحق المواطنين، تحول دون تحقيق العدالة والمساواة بين أفراد الوطن الواحد، يحدثنا "أبو منصور" عن سياسة التعين في وزارة التربية والتعليم: "قضى أكثر من عشرين عاما في التدريس في الأردن، وخمسة عشر عاما في التدريس في الكويت، ويقول عن سبب رحيله عن الأردن بأن زملاءه في نفس الفوج أصبحوا مدراء تربية ورؤساء أقسام واستلموا المناصب، وأنه حورب حتى لا يصبح من المسؤولين.
وعندما سألته عن سبب ذلك، نهض من وراء مكتبه، وأغلق الباب، وهمس لي: لأنه من المعارضة... قال لي بأن الفلسطيني في البلد مشكلة، ومهما حاول فلن يصل" ص31و33، اعتراف بأحد أشكال الفساد التي حولت البلد إلى شركة خاصة لفئة محددة، وجعلته مقسوما بين طرفين، طرف يعتبر نفسه صاحب البلد ومن حقه فقط الحصول على الوظائف، وطرف يعتبر نفسه محروم من أن يكون في الموقع المناسب، لأنه مواطن غير أصيل.
وأذا أخذنا حركة أبو منصور وكيف أغلق الباب، قبل أن يقول "الفلسطيني مشكلة" يمكننا الاستنتاج انها كلمة لا يسمح بقولها في الأردن، لأنها تعد اعتراف بأن هناك تفرقة في الوظائف بين ابناء الوطن، وهذا يهدد السلم الاجتماعي والوطني.
يؤكد "زياد" ما قاله "أبو منصور"، وأنه منع من العمل في الوظائف الحكومية: "...فقد عد لعملي أكتب للصحافة وأتقاضي أجري عن هذه الكتابة، حيث كنت ممنوعا من العمل في المؤسسات الحكومية" ص119.
ويحدثنا عن التغييرات التي حدثت بعد هبة نيسان بقوله: "...وإعادة الحياة البرلمانية والحريات السياسية، ... وعادت جوازات السفر المحجوزة، وخرج المعتقلون السياسيون الذن كان من بينهم الراعي" ص20، وهذا التغييرات تشير بطريقة غير مباشرة إلى أنه لم يكن هناك برلمان في البلاد، وأن هناك مواطنين منعوا من السفر، وأن هناك معتقلين سياسيين.
أما عن احوال الأردن بعد اتفاقية وادي عربة: يتحدث "أبو العبد" عن التغييرات التي تجري في البلاد بقوله: "إكسل الوقت على الشاطئ، فبعد فترة لن تستطيع الجلوس عليه.. يُقال أنهم سيسرقون الشاطئ... الأجانب واليهود، ويقال إنهم سيبنون على الشاطئ الفنادق، ولا يسمح سوى للنزلاء في دخوله، تماما مثل فندق العقبة والأكوامارينا وفنادق الشاطئ الآن" ص166، وهذا يتطابق مع ما جرى في البلاد، بعد أن بيعت غالبية المؤسسات العامة في البلاد لشركلت أجنبية، من هنا يمكننا القول أن الرواية تتحدث عن حقائق تجري، أفقدت البلد كل مقوماته الاقتصادية والسيادية، بحيث أمسى فارغا من عناصر القوة الاقتصادية والسياسية.
المجتمع الذكوري
قضية المرأة وتحررها تعد إحدى أهم المعضلات في المنطقة العربية، حيث يُنظر للمرأة بصورة دونية، وأن عليها الخضوع الكلي للرجل، يقدم لنا السارد مشهد يؤكد على تفاهة وسخف وتخلف هذا المجتمع من خلال حور مجموعة من الأفراد حول قضايا المرأة: "...سعيد مع تحرير المرأة والمساوة، وضحك الجميع، وقال حينها أحد الجالسين وصوته يترنح سكرا، أنت تعارض في نظرتك هذه قول الله خالق هذا الكون عندما قال: الرجال قوامون على النساء، واستشهد آخر بآية أن الرجل عليهن درجة، وظل حوار السكارى حول أهمية أن للمرأة دورا واحدا، وهو إسعاد الرجل، وتربية الأطفال، وجميعهم كانوا يستشهدون بالآيات والأحاديث والأمثال والقصص والعادات، ولم يتذكروا للحظةآيات تحريم الخمر والدعارة والكذب والسرقة وكل ما يفعله هؤلاء الرجال الساقطون" ص139و140، هذه أحدى صورة سفاهة المجتمع، وتناقضه بين ما يقول ما يمارسه على أرض الواقع.
تحدثنا "غصون" زوجة "رياض الفالح" عن حياتي الزوجية بقولها: "لقد كانت الحياة مع رياض الفالح شاقة ومتعبة وجافة، لا يميزها سوى الضرب والألفاظ البذيئة ورائحة سكره ودقائقه الثلاث المقرفة، وكنت أحيا إلى جانب هذه الحياة حياة أخرى مع سعيد، دافئة ورقيقة وحالمة، .. فما أن بدأت الحديث عن الطلاق حتى إنهال رياض الفالح علي بالضرب والشتائم، ولم أنتبه لنفسي عندما صرخت في وجهه وبصقت، وعندما قلت له إني حامل وساعيش مع طفلي وأترك قذارته، استمر في ضربي، ومسك عنقي بيديه الثقيلتين وظل يردد جملة واحدة، طفل من أيتها العاهرة، وكنت أسمي له عاهراته عاهرة عاهرة، وبين كل نفس كنت أستطيع تنفسه كنت أبصق في وجهه إلى أن تعب روحي وجسدي وصرت في غيبوبة" ص141و142، اعتقد أن هذا المشهد كاف لإيصال ما تعانيه المرأة في المجتمع الذي يبرر ويتساهل مع عهر الرجل ولا يتوقف عنده، بينما يريد من المرأة أن تبقى محافظة ومخلصة، رغم أنه يعاملها كالجارية، ودون أن يعطيها أيا من حقوقها، حتى حققها في الجنس لا تأخذه، وهذا ما يجعل تصرف "غصون" مبررا، وتصرف "رياض المفلح" مدانا.
وإذا ما توقفنا عند المشهد، سنجده جاء على لسان المرأة "غصون"، وهذا يعطي دلالة إلى تعاطف السارد معها وإنحيازه، وعلى المظلومية التي تقع عليها، من ها وجدناها تتحدث عن معاناتها في المجتمع الذكوري.
المواقف السياسية
بما أن الرواية تتحدث عن الاعتقال السياسي وما يتعرض له المعارضين من اعتقال وقمع ومضايقات اقتصادية، فكان لا بد من الاشارة إلى بعض المواقف الساسية وما يجري في الأدرن والمنطقة العربي، ينقل لنا السارد موقف "أبو العبد": "...ويقول إن اليهود والإنجليز لا يوجد مصيبة في العالم إلا هم وراءها" ص39.
ويتحدث عن "حمدان الحمد" بقوله: "...حدثنا عن أيام العثمانيين وكان يصفهم بالاستعمار الأفضل، حيث أن كلا الطرفين دون عقل، العرب والأتراك، وكلاهما في الجهل سواء، فكان من السهل علينا التعامل معهم، ولهذا لم ننتبه أنهم استعمرونا أكثر من خمسمائة سنة، وذلك نتيجة لغياب عقولنا وعقولهم... فقد كنت اعرف أن معاركهم لا تخصني، وليست بها معركتي، فقد كنت رحالا بين بلاد الشام، ولم يكن يهمني حروبهم مع الانجليز والفرنسيين وغيرهم" ص 108و109.
ويتحدث الراعي عن الوضع العربي: "إن الشعوب العربية قد اعتادت الهزيمة، وأصبحت الهزيمة جينا وراثيا تتوارثه الأجيال، وغذته بالخوف يوميا إلى أن أصبح جبنا سائدا، فثوراتنا في الوطن العربي كانت تفرز قهرا وخوفا وفمعا، وتصنع كل ثورة مشنقتها وسجنها لحماية أهداف الثورة، فتنبت ثورة أخرى إلى أن أنهكت الثورات الشعوب، واعتادت هزائمها" ص163.
ويتحدث "زياد؟ عن مشاكله مع الواقع الرسمي العربي بقوله: " ماذا لو خلقت في فرنسا مثلا، هل سأكون بما أنا عليه من قلق وتعب؟، ... ولكن فرنسا ستوفر عني خمس سنوات قضيتها في السجن، فلو كنت هناك لما سجنت هذه المدة أصلا، ربما ستوفر علي معركة الحرية والديمقراطية" ص169.
الطرح الفكري والفلسفة
يتناول السارد مجموعة أفكار ورؤى تتعلق بالسلوك والتفكير، وهي افكار مثيرة وتعتمد على منطق جديد، وتدفع القارئ للتوقف عندها والتأمل فيها: منها ما جاء عن "سارة" حبيبة وعشيقة "زياد": " هكذا هي سارة لا تعرف الأسرار، وتقول إنها تستطيع دفع الثمن لما تريد أن تفعله، وهذا ما حدث في التحقيق، فقد أجابت المحقق بأن هذه الأسئلة التي وجهها لها يمكن أن تجيبها، ولكنها لا تريد الإجابة عنها معه، فهو حسب تعبيرها ليس مؤهلا كي يسنعها، وأنها تتحدث وقتما تريد، وليس بطلب من أحد، ...دفعت ثمن ذلك موقفا لن أنساه، ففي اليوم التالي وضحت سارة لصديقي ضرورة تغيير السرير الخاص به، لما نخلفه الزنبركات من أصوات مزعجة أثناء المضاجعة" ص207، فكرة أن يكون فعل الإنسان معروف للآخرين ومكشوف، يحاجة إلى وقفة وتامل، وهذا يستدعي إعادة النظر في مفاهيمنا عن الحياة وحكمنا على سلوك الأخرين، فهل من الصواب ان نعرف ما قامت به سارة وزياد، أم من الأفضل أن يبقى عملهما طي الكتمان؟، وهل معرفتنا بالفعل من خلالهما، وإتخاذنا موقفا سلبيا منهما صائب، أم يحتاج إلى إعادة نظر في طريقة تفكيرنا والمعايير التي نحكم بها على الفعل ومن قام به؟.
ويحدثنا عن الرقص وكيف تجده "سارة": "...أخذتني سارة من يدي إلى الرقص، وقالت: بعد خهمس أعوام من السجن عليك أن تقوم بالتدريب لجسدك وروحك، وهذا أفضل مكان لفعل ذلك،... عليك فقط أن تسمع الموسيقى وتتحرك، وقتها ستجد نفسك راقصا، فالموسيقى إذا أعطيتها حواسك ستمتلك، ويتفعل بك ما تشاؤه فيك" ص185.
كما تحدثنا "سماء" عن مسألة الخلق وكيف تفسرها بقولها: "اعتقد أن الله خلق في البداية الروح الأنثى، وهي الأم التي تلد ابناءها دائما في كل عصر وخلق الروح الذكر كي يقوم باستخدام الجسد للإخصاب، فهو لا يعدو عن كونه ماء لزرع هيأته الروح الأنثى في رحك جسدها، ...أن عالم الارواح قد خلق قبل عالم الأجساد، وعندما خلق الله البشر كان لا بد من رحم كرحم الأرض يعيد دورة الحياة لخلقها، ,,,فالحياة ليست التقاء الماء بالبذرة، بل التقاؤها في الرحم الخاص للحياة طيلة دورتها" ص154و155.
وهناك مشاهد تاريخية قدمت بصورة فلسفية، المشهد الذي يتحدث عن حبابة ويزيد بن عبد الملك: "... انتمك من جعلني جارية، وبنو أمية جعلوا من يزيد أميرا وأنتم وافقتم على ذلك، والله لم أكن راغبة بدور الجارية، ولم يكن زيد يرغب في الخلافة، ... ولكن حينمت كنا نجتمع في فراشنا حيث نكون عراة من الخلافة ومن العبودية، وكنا في فراشنا نستبدل الأدوار، فاصير أميرة المؤمنين، ويصر مولى لدي، وقد كنت أولي رجال أمصار الدولة وأعزل رجالا" ص84.
أما فلسفة المناضل وكيف يفكر ويفسر الوقائع، وكيف يعمل، تقول سارة: "...لسيت المشكلة أن تعرف ما تريد، فالأهم هو قدرتك على فعل ما تريد، وقدرتك على دفع الثمن لذلك، والأخطر من هذا كله، هو أن تكتشف بأن هذا الذي فعلته لم يكن بالضبط هو ما تؤيده" ص76.

وتدخل إلى ما وراء الفعل، ليكون فعل النضال أحد اشكال الهروب من الواقع، وأحد أشكال للخوف: "سارة ترى بي رجلا جبانا وكسولا، هكذا كانت تقول، وكنت ارد عليها بأن الجبان لا يمكن أن يكون في صفوف المقاومة، ولكنها كانت ترد علي بأني أهرب من جبني بهذا النضال، وهو سبب يجعلني أبدو متماسكا" ص188.
وهذا الامر ينطبق عليها أيضا، تتحدث عن سبب مشاركتها في المظاهرات قائلة: "...هو لا يعرف اني كنت أتزعم المظاهرة فقط لرغبتي بالصراخ في فضاء الجامعة" ص73.
أما عن رؤيتها للمكان، فقد جاءت على لسان والدها: "الأوطان سواسة ما لم تكن القدس" ص68.
ويتحدث "زياد" عن عمان التي عشقها وكره القمع فيها: "فعمان المدينة الأجمل، كنت أراها امرأة تنام على سرير الارض في النهار وتشرع سيقانها للريح، كنت العواصف تضاجع جسدا من الثلج يتلوى وأسمع من عمان أنينها، أرى دمها يتقطر في شوارع الجلزون وأرصفة الدوار، عمان الجميلة توزع التعب واللهاث على الناس والاشياء، ...أن اموت يهاب اقتراب هواء عمان، فإذا بعمان ترحل صامتة كما تغادر الشمس مرافئ النهار، دون الأسئلة ودون الذكريات" ص87-89.
أما بيروت فيراها بمنظور آخر: "...فبيروت في ذاكرتي مختصر للحرب، ومختصر للحب، ومختصر للغربة، وهي مختصر لهذا الوطن العربي الكبير في كافة تلاوينه وأطيافه السياسية والاجتماعية، كذلك هي مختصر للقتل والدمار، ومختصر للخوف، ومختصر للفرح، ومختصر للموسيقى والشعر" ص268.

يتحدث "أشرف زيدان" عن الحرية والحياة بطريق لافتة: "أن الحر لا يقبل الظلم، والحياغة هي الوقت الذي تقضيه حرا، سواء كان ذلك في الزنزانة، أو في البيت، أو الشارع، أو أي مكان" ص301.
أما عبد الناصر فيرى الحرية بمنظور آخر: يقول عنها: " أن الفرد لا يمكن له مهما كان صادقا أن يكون روحا الامة، فالأمة روحها التي لا تموت، ولا تفى، ولا تغيب، فالحرية فقط يمكن لها أن تقول إنها روح الأمة" ص313.




المقاتل
"زياد" لم يكن حزبيا فقط، بل مقاتلا ايضا، فعندما اجتاحت قوات الاحتلال لبنان كان من المقاومين الذي تصدوا بالسلاح للعدو، وهذا الأمر ينطبق على رفاقه: "أبو أيمن رجل في نهاية الأربعينيات، أشيب الرأس تماما، كنا قد التقيناه أول مرة من خلال الدورة العسكرية....تلك الليلة انضم لنا بعد أن وزع علينا مواقعنا، وتعمدت أن أسأله عمن سيفوز في هذه الحرب التي انطلقت لتوها، وما هي توقعاته، رشف حينها رشفة كبيرة من الشاي، وقال بعد أن أركى ظهره للمقعد المقابل لي: إسرائيل ..إسرائيل ستفوز في هذه الحرب، وأمام دهشتنا لإجابته تابع قوله: لماذا تستغربون، فالمعركة لا تحتاج إلى الحق فقط كي يُنتصر فيها، إنهم يملكون كل مقومات النصر، يملكون الأسلحة التي تدمر لبنان عن بكرة أبيه، ويملكون صمتا عربيا، ويمتلكون أمريكيا، ولكننا ببساطة علينا خوض الحرب، بل علينا أن نغني كل ما نحفظ من أغاني العودة....ليس لدينا خيار سوى الصمود، فاللعنة الفلسطينية تلاحقنا دائما، وستلاحق العالم دائما، وليس مهما في هذه الفترة الوصول إلى نتيجة أكبر من الصمود...فلا بد أنكم تعرفون قصة سيزيف، ولعله من أصول فلسطينية، فليس مهما في هذه أن تقنع بأنك ستفعل شيئا في النهاية، بل المهم هو استمرارك في فعل الشيء ذاته انتظارا لمرحلة أخرى، أو معجزة أخرى، أو أي شيء آخر، ولكنها اللعنة الفلسطينية...ذهبت وسارة إلى المستشفى، ورأينا أقسى نهار عشناه يحمل بين ثنايا ضوئه جثة أبي أيمن، وجثة سمير جبران المضرجتين بالدماء، والراعي يقف أمامهما مخطوف الوجه والصوت، ..لقد حاربا بشكل غريب وسط الغارة، ولم يختبئا في الخنادق، وراهنا على إسقاط الطائرة بأسلحتهما، وكأنهما يلعبان يجربان الكلاشينكوف، ثم الآر بي جي ومع ابتسامتهما الأخيرة، أشتعل المعسكر بالقذائف، وسقطا ولم تسقط الطائرة" ص173-177، المقاتل المثقف، الواثق بنفسه والمؤمن بقضيته، يواجهة الموت كما يواجه أي شيء عادي، فهو ذاهب إلى مصيره مستسلما كما ذهب المسيح للصلب، ونلاحظ تركيز على الابتسامة، التي تعطي دلالة على الفرح، هكذا قاتل الفلسطيني والعربي في لبنان، لم يرهبه الموت، وقبل أن يكون وحيدا في مواجهة أعتى قوة في المنطقة، بينما الجيوش الرسمية العربية عاكفة على مراسم الاحتفلات بعيد الاستقلال وحفلات التخرج.
وهذا يأخذنا إلى بداية حديث "زياد" عن المدرسة والضرب وغرفة الفئران، وكيف أن كل هذا لم يحل دون انتمائه للحزب، ولم يحل دون أن يكون متمردا وثائرا على الواقع، لهذا نجده يخوض المعركة مع رفاقه نيابه عن الأمة، هكذا انتصر "زياد وأبو أيمن وسمير جبران والراعي" وبقية الرفاق على واقعهم.
الخيال
ما يميز الرواية استخدام السارد لمسرح عشتار ليكون المعبر نحو الماضي، فبه استطاع أن يدخلنا إلى مجموعة أزمنة، ويعرفنا على مجموعة شخصيات ما كان له أن يحدثها مباشر دون وجود هذا المسرح، فيحدثنا في صفحة من 14 إلى 21 عن عشتار/أنانا ونزولها إلى العالم السفلي، عالم أرشيكجال، وكيف كلما عبرت بوابة أخذ منها الحراس شيئا مما تضعه على جسدها وتحمله، حتى ما أن دخلت الباب السابع حتى كانت عارية تماما امام اختها "أرشيكجال"، ألى أن يتدخل الإله إنكي ويتوسط عند الإلهة ليعدها إلى الحياة، وفلا تم ذلك.
السارد يربط قصة موت عشتار وعودتها للحياة بالفكر السائد في المنطقة بقوله: "فإنانا حلم يحلم به الشرق دائما، وأهل الشرق ينتظرونه دوما كي يخلصهم، فالشرق هو الذي نبتت فيه إنانا أو عشتار أو النعمان أو المسيح أو المهدي كلها أسماء لمخلص واحد ينتظرونه منذ زمن بعيد" ص21، وهذا يعود إلى علاقة سكان المنطقة بالارض، فتعاقب الفصول جعل السكان يحملون فكرة الموت والخصب على أنها حالة طبيعية، وعندما انتظروا البعل/عشتار كانوا ينتظرون الربيع القادم، وهذا ترسخ في الثقافة والعقيدة القديمة حتى اصبح أحد المكونات الثقافية للسكان، من هنا تجدنا في الشرق نعظم الابطال وحتى نقدسهم، ونجعلهم بمقام الإله، ودائما تجدنا نعتمد على المخلص الخارجين من هنا وجدنا العرب يستعينون بالغرب الاستعماري ليخصلهم من ظلم الأتراك.
ويعرفنا على الحلاج وفكره ورؤيته للخالق: "سبحانك يا الله ما أجملك وما أرق خليقتك، كيف لهؤلاء البشر الأغبياء أن لا يروك في جمال ما صنعت، ويروك بين جنة لا يعرفونها ونار يخافونها، مذا لو أنهم دققوا النظر في جوهر ما خلقت، لعبدوك ليس خوفا من نارك، ولا طمعا في جنتك، ولرأوك كما رأتك العدوية، وأحبوك كما أحبك الحلاج، يا الله ما اجملك، هو عالم شفيف كالسحر، فإن أمعن الناس النظر سيرونه ألقا كما أراه الآن"ص51.
ويحدثنا عن تناسخ بطريق عقلية: "..سألت سماء عما تعني في مكاتن الموت العادي، وما هي الأمكنة الأخرى، فقالت لي سماء إن عشتار هو مكان للأرواح التي لم تستكمل بعد حياتها، فالإنسان يعيش مجموعة من الحيوات لا يعرف مقدارها، ربما تكون لآلاف السنين، ولكنه في كل حياة على الأرض يقدم بشخصية ما، ثم يعود حين يموت الجسد إلى عشتار، وبعد ذلك تعود الروح لتنبعث الحياة في جسد آخر ممن يولدون حديثا، أنتم تسمونها في الارض تناسخ الاروح، ونسميها هنا بالحياة الواحدة للروح المتعددة للجسد" ص60.
السارد (يتحايل) على القارئ، مؤكدا هذا التناسخ في المنطقة العربية، خاص وأننا نعيش حالة قمع وتخلف وجهل منذ مئات السنين، تقول سماء: "إنه الحاج، هو الوحيد الذي يستطيع عرض قصته متى وصل، حيث إنه ما يلبث أن يعود إلى الأرض، فهو لا يبقى وقتا طويلا في فضاء عشتار لكثرة أدواره على الأرض|" ص340.
ويتحدث "جمال عبد الناصر" عن مصر والثورة التيؤقام بها بتفاصيلها، حيث يتحدث من صفحة 307 إلى صفحة313، ونجده ينتقد أسلوب القمع الذي انتهجه بحق المعارضين للثورة، ومبينا أنه أخطا في سلوكه معها: "...فالحرية فقط يمكن لها أن تقول إنها روح الأمة، فحتى هذه اللحظة لم أغفر لنفسي اعتقال المعارضة يسارها ويمينها" ص313.
بهذا تكون رواية "خوف" قد عبر بنا إلى ماضينا منذر أن كنا على هذه الأرض، منذ أن تبنى أسلافنا عقيدة الخلود والتقمص "أنانا وتموزي/عشتار وبعل، مرورا بالخلاف بين علي ومعاوية، إلى عبد الناصر وثورته، إلى أن خرج "زياد" ورفاقة من بيروت ووصلوا عمان وتم اعتقالهم وتنكيل بهم.
فنحن امام رواية عابرة للزمان وللمكان، جامعة للفكر في عددة أزمنة وأمكنة، وملخصه لنا خلاصة التجربة التي مر بها ى أسلافنا إلى أن وصلنا إلى ما نحن فيه.
الرواية من منشورات دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة، الطبعة الأولى 1998.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الممثلة رولا حمادة تتأثر بعد حديثها عن رحيل الممثل فادي ابرا


.. جيران الفنان صلاح السعدنى : مش هيتعوض تانى راجل متواضع كان ب




.. ربنا يرحمك يا أرابيسك .. لقطات خاصة للفنان صلاح السعدنى قبل


.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف




.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي