الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هنا كانت قرية أجدادي هوشيلاجا

سميح مسعود

2021 / 8 / 7
الادب والفن


بعد أن هُجرت من حيفا، تُهت في منافي الشتات التي أوصلتني إلى كندا الواقعة في أقصى المعمورة، بلاد بعيدة تترامى خلف المحيطات،هي البلد الثاني عالميًا من حيث المساحة الكلية، يتسع مداها وتتعاقب أراضيها المغطاة بالثلوج بلا نهاية في رحاب فضاء يمتد شمالًا في المحيط المتجمد الشمالي عند التقاء أطراف السماء بالمحيط..
اخترت مدينة مونتريال مقرًا لي في مهجري، وعندما وصلتها أطلقت العنان لخيالي فتذكرت أبي وأمي وإخواني الذين توفوا قبل سنوات طويلة، تعالت أصواتهم مع لهيب تساؤلات كثيرة، رأيتهم في وضوح أمامي، اتسعت دائرة تخيلاتي وكدت أنهار وهم يلومونني لاختياري الهجرة إلى بلد في أقصى المعمورة، بدلًا من تمسكي بعجلة الحياة ببلدي بآلامها وويلاتها، شعرت كأنني وسط أمواج تتقاذفني في علوها وهبوطها وأن دوامة على وشك ابتلاعي، خجلت من نفسي، وأخفيت وجهي بملاءة وغصت في نوم عمي
عندما أفقت من نومي شعرت بحيرة نفسية تخيم عليّ، تهت في بحر من الحجج لاختياري الهجرة البعيدة، أخضعت حياتي بنظرة فاحصة لكلّ ما دار فيها، جُلت بحرية في ثنايا طفولتي وشبابي، تلمست كلّ الظروف التي عشتها من قبل في كنف أسرتي، وكانت النار المطمورة في داخلي تهب وتشتعل من جديد، لم أنجح في إبعاد الخوف عني من المجهول من المنافي الجديدة، شعرت في لحظة أنّ وجه والدي اختفى، وحاولت أنْ ألقي نظرة على نفسي كما لو أنني أنظر إلى شخص آخر، أردت الرجوع إلى الحقيقة والواقع، فتشت بزفرات متلاحقة عن مبرر لما أقوم به واضعًا راحتي على الجرح، شعرت في البدء بضوء خافت في نفسي يدلني على خيط رفيع من الأمل، ثم سرعان ما عدت ثانية إلى آلام كانت تتصاعد من داخلي تمزقني وتزيد من عذابي..
اتضح لي كيف يتخذ الإنسان قراراتٍ مهمةً في حياته دون تفكير واعٍ، تُفرض عليه كما يفرض الموت على كلّ البشر، وهكذا تيقظت وفهمت أن هجرتي لم أدرسها دراسة متأنية، وأنها ستفرض عليّ أن أسير في أيامي القادمة في تيار غير مألوف، على امتداد طرق تختلط بعضها ببعض في بلاد غريبة، لن أستطيع الإفلات من براثنها، ستوصلني إلى أوضاع تثير القلق الدائم في داخلي بدلالات عميقة
انتابني الضيق ممّا كان يشغل فكري، لزمت عدم التفكير بحالي بعض الوقت، ثم أسندت ذقني إلى حافة نافذة قريبة منّي، ونظرت في دهشة إلى بزوغ الفجر، كانت السماء صافية بلا غيوم تعكّرها وشعرت أنَّ الأنا القديمة انتهت وحلّت محلها الأنا المهاجرة الجديدة، وتراءى لي كيف تتصارع مع التيه والمجهول، في ممرات طويلة لم أعهدها من قبل تلتحم في تتابع بالزمن الآتي
طفت في أفكاري كأنني في حلم، وفي لحظة أفقت واستبد بي الحماس عندما رأيت عن قرب نهر سان لوران الذي يضم مدينة مونتريال من كلّ أطرافها ويجعل منها جزيرة مضفرة بأجمل الحدائق، حدقت في النهر ووجدته على درجة من الجمال أكثر مما هو عليه في الصور، هالني منظر مياهه المتدفقة في أسراب من الأمواج، وتساءلت في داخلي، هل سيعمل النهر على تهدئتي ويخفّف الضيق الذي يتزايد في نفسي؟
في غمرة الهدوء الذي انتابني أول ما خطر على بالي تذكر قريتي بُرقة و مدينتي حيفا التي ولدت فيها، أخذت أهمس في داخلي بلهفة اسم بحرها الذي يشرق ويغرب حاملًا أمواجه لها، يُداعب أقدامها صباح مساء، في وقت تحمل الرياح الطيور من أعلى الكرمل، تضمها وتتجه إلى أعلى صوب السماء.
وبينما كنت على هذا الحال غارقًا في لجة من التأملات، قررت الخروج للتعرف على نهر سان لوران، وبعد فترة من الوقت وصلته ووجدته تحفة طبيعية يتجول الناس حوله، أجلتُ البصر حولي وأخذت أتجول معهم، وبعد فترة من الوقت، جلست على مقعد خشبي على طرف النهر، نظرت حولي ولاحظت أنني على مقربة من ميناء يفيض بشريط طويل من القوارب والسفن الصغيرة والكبيرة، أغرتني قرقرة الأمواج في مجراها السريع عند خروجها من الميناء وهي متجهة إلى وسط النهر، ترسم خطوطًا منبسطة على وجه الماء، وهي تترنح بخفة تحت نسيج حريري شفاف.
قبل منتصف الليل بقليل عدت أدراجي إلى شقتي، كان القمر يرسل ضوءه الحريري الرقراق فوق المدينة، وكانت رائحة الحياة تأتيني من أزقة قريبة، تطغى عليها حركات فتية وفتيات تعلو وتهبط على إيقاع ضحك وهمس وأغانٍ جميلة أيقظت في نفسي رغبة اللحاق بهم، لكنّني لا أنكر أنّني كلّما كنت أقترب من تحقيق تلك الرغبة، كنت أجد مبررًا للابتعاد عنها أكثر فأكثر، استجابة لصوت كان ينطلق من داخلي يقول لي صارخًا:
"لأي شيطان تريد أن تسلم نفسك"
لاحقًا أويت إلى فراشي وأغلقت جفوني بعد منتصف الليل.
في يومٍ تالٍ أفقت مُبكرًا قبل انقشاع الظلام، جلست في شرفة شقتي وأخذت بمتابعة قراءة كتاب عن المشكلة الزمنية، توقفت مطولًا عند الخروج من الواقعية المحسوسة في الزمن المعيش، نحو الزمن الماضي بأحداثه اليومية المتعاقبة، وجدت أنَّ الخيال الجامح وحده القادر على إلغاء عتمة الراهن، وفي الحال نحيت كتابي جانبًا، وشهدت انبلاج وهج متخيل يحيط بي، يجلي أنسجة الأمكنة، ثم اتجهت إلى ممر طويل لم أعهده من قبل، حثثت الخطى فيه دون توقف، وجرى بي الوقت مجتازًا ضفاف المألوف، ثم أخيرًا وجدت نفسي في وسط قرية من قرى الهنود الحمر سكان كندا الأصليين.
وقفت في طرف القرية، لزمت الصمت وانفجرت أساريري عندما رأيت جمعًا غفيرًا من الناس أمامي لاحظت زعيم القرية يجلس على مرتفعٍ عالٍ، يرتدي لباسه التقليدي، وغطاء شعر طويل بريش ملون، وحوله سكان القرية يصطفون بحلقات حوله على الأرض في الهواء الطلق، ينحنون له إجلالًا وتبجيلًا، اتسع مضمون الصورة أمامي ووجدت أنَّ النساء بأنوثتهن الزاخرة يجلسن بالصفوف الأولى، ثم يأتي خلفهن الرجال ومن ثم الأطفال..
في لحظة وقف زعيم القرية بقامته الفارعة، وردّد كلمات معدودة، كما ردّد سكان قريته بضع كلمات بعده ببهجة واضحة، ودون فهم منّي لكلماتهم شعرت أنهم بانتظار حدث ما، وبعد مضي بضع لحظات ظهر فارس يشق الطريق في حماس فوق حصانه، وخلفه مجموعة من الفرسان يحثّ كلّ منهم حصانه على المضي بسرعة، وقد اختلطت أصواتهم العالية بأصوات الخيول وهي تدكّ الأرض في قوة، وبينما أنا غارق في تأملاتي إذ بي أراهم يقفون أمام زعيم القرية ويضعون تحت أقدامه مئات الحيوانات البرية التي اصطادوها، وقف لتحيتهم، وعلا صوت الناس ومن ثم صدحت الموسيقى بإيقاع يعلو على وتائر متعددة، وتعلقت النساء بأعناق الفرسان تشبعهم تقبيلًا
شعرت بوقع أقدامهم وهم يرقصون في دورات متتابعة تتردّد في مخيلتي وتؤكِّد لي أنّ التأمل بعمق قادر على تبديل الموازين الزمنية في قالب ملموس، ولهذا أعبر عن نفسي الآن بأنني منهم ألحظهم كلّهم أرى قسمات وجوههم في لوحة غائرة في عمق ذاكرتي، وأسمع صدى أصواتهم الغنائية ورنين ضحكهم يعلو في خط تصاعدي بين الحين والحين.
بقيت على هذا الحال فترة من الوقت، ثم عدت إلى واقعي في الزمن الراهن، توقفت عن التأمل ثم قفزت على قدمي بسرعة، جهزت نفسي للخروج وسرعان ما وصلت نهر سان لوران لأستعيد ذكرى أهله القدماء.
قضيت وقتًا طويلًا من أيامي الأولى في مونتريال، وأنا أزور النهر، أسير على جانبه، وأستعيد ذكرى الهنود الحمر مرات إثر مرات، كان السكون يعمّ المكان، ولا أسمع سوى وقع خطواتي، وعندما يحين وقت الراحة كنت أجلس على مقعد خشبي على طرف النهر، بقرب جسر طويل يمتد فوق أمواجه.
ذات يوم بينما كنت أجلس على نفس المقعد الخشبي، جاء أحدهم وجلس بجانبي، لم أعره انتباهًا، شغلت نفسي بالنظر إلى غمامة كانت تمرّ فوق الجسر المعلق أمامي، تستند تارة على بعض أطرافه ثم تبتعد عنه في سرعة فائقة، وتعود إليه ثانية كأنها تداعبه وترتخي لرغباته
أخذ الشخص الجالس بجانبي يغني بكلمات لم أفهمها، وفي لحظة توقف عن الغناء ثم أخبرني أنه يغني بلغة أجداده من شعب الموهاك أصحاب النهر القدماء، عندما تم اكتشافهم أطلقوا عليهم اسم "الهنود الحمر" بمدلولات دونية واضحة، وبعد أن أباد المكتشف الأوروبي أجدادنا واحتل أرضنا أطلق على من بقي منّا اسم "السكان الأصليين" ... حشرونا في محميات، لا نملك فيها سوى مساحة ضيقة من الأرض، وما زلنا نتخبط فيها في خضم حياتنا المغلقة
بعدها قدم نفسه لي باسم مارفن جونر، قدّمت له اسمي ولمحات موجزة عن مأساة بلدي، التمعت عيناه قائلًا: "مأساتنا واحدة، ثمة ترابط وثيق ما بين الذي عاشه أجدادي في الماضي قبل إبادتهم، وما تعيشونه في الزمن الراهن من أيام عصيبة يسببها المحتل البغيض في فلسطين، ويدرك كلّ الذين تبقوا من شعبي حقيقة أيامكم المخضبة بالدماء."
تكررت لقاءاتي بمارفن وسرعان ما أصبحنا أصدقاء، عرفني على أماكن كثيرة في مونتريال، صعدت معه إلى قمة الجبل الملكي، كان يذكرني دومًا أنَّ كلَّ ذرة تراب في مونتريال من أملاكهم، وحتى الطيور التي كنا نسمعها وهي تزقزق فوق الأشجار من أملاكهم، وفي ليلة مقمرة كنّا نسير فيها في المدينة القديمة بيّن لي أن لمعان ضوء القمر وانعكاساته على اتساع المكان من أملاك أجداده، أفكاره هذه تعكس صلته الدائمة بمأساة شعبه، وتترك أثر ألم في أعماقه غير قابل للشفاء.
كنت أتقن السماع إليه، لأنَّني أحسّ بمأساته وأشعر بنفس شعوره اتجاه بلدي المحتل، المغموس بالآلام منذ سنوات طويلة، جاءه أناس غرباء من أمكنة كثيرة، حكّامهم يتقنون زراعة الموت في عجلة دائمة الدوران، يختالون في تغييرهم مسار كلّ شيء، ويضبطون وقتهم على سرقة الأرض والماء والسماء والهواء والشجر.
شدة انفعالي لأحوال بلدي تخنقني، وقلت مرارًا لصديقي مارفن: "مصائبنا واحدة." كنا نواصل الحديث دوما عن مصائبنا التي تتشابك خيوطها في مجالات كثيرة وتعبر في جوهرها عن ظلم الإنسان للإنسان. كان يقول لي في جلساتنا: "أخشى أن يلقى شعبك في زماننا الراهن نفس مصير شعبي الذي لقيه في الزمن الماضي"
كنت أشعر دوما بأنه ينكأ جراحًا كثيرة في داخلي بمقارنته أحوال شعبينا، في دوامة الحياة القلقة التي نعيشها، وأنا أعيها وأتحدث عنها على الدوام ولا أحاول إخفاءها.
توالت اللقاءات مع مارفن وتوالت من خلاله الفرص التي أتاحت لي التعرف على أيام أجداده القديمة، وذات صباح يوم صيفي من أيام تموز، صعدت معه إلى أعلى الجبل الملكي، ثم هبطنا منه إلى سفحه الأيسر، وبعد فترة وجيزة توقفنا وقال لي رفيقي: "هنا كانت قرية أجدادي، هوشيلاجا" التي دمرها المحتل وأقام محلها مدينة مونتريال الحالية
وضع أصابع يده اليمنى على جبهته كأنه استذكر أمرًا مهمًا، ثم طاف في مدارات من الحديث بيَّن فيها بأن أهلها كانوا يعيشون حياة قبلية جماعية تختفي فيها النزعة الفردية، يمارسون معًا أعمال الصيد وزراعة الذرة الصفراء وغيرها من المزروعات، وقطع الأخشاب وتجميع النسغ السكري من جذوع شجر القيقب، أي أنهم مارسوا نفس الأعمال التي مارسها أجداده في القرى الأخرى التي تناثرت عبر الزمن الماضي على امتداد نهر سان لورا
عرفني مارفن على عدد من رفاقه، التقيت بهم كثيرًا ودخلت معهم في أحاديث طويلة حول مواضيع كثيرة، تدور حول المنافي والشتات والاقتلاع من الأرض والحرمان من الوطن، كما تجولت معهم على متن قارب في نهر سان لوران من نبعه حتى مصبه في المحيط الأطلسي، وبينوا لي أن أمواجه تحمل ظواهر بصمات أجدادهم، وسرّ حياتهم على امتداد عشرات الآلاف من السنين قبل مجيء المكتشف الأوروبي.
عرفوني على ألف جزيرة صغيرة متناثرة في النهر على مقربة من البحيرات الكبرى، التي سحرت المكتشف الفرنسي الأول "جاك كارتيه" الذي أحب أجدادهم وتعلم لغتهم وارتبط بزعيمهم "دوناكونا" برباط صداقة قوية، لأنه لم تكن لديه طموحات احتلالية، وكل ما كان يهمه اكتشاف أجزاء من العالم الجديد لم يصله أوروبي قبله.
بعدها عرفوني على أهلهم في محمية "كانيساتاكي" القريبة من مونتريال، استضافوني في بيوتهم، نمت معهم وأكلت من أكلهم وعرفوني على طقوسهم وعاداتهم، وشعرت كأنني أعرفهم منذ أيام طويلة وتقديرًا لعلاقتي معهم ألفت رواية بعنوان "هوشيلاجا" صدرت في عمّان عن دار الآن ناشرون وموزعون، أهديتها لهم لأن أشرعتهم ترفرف فوق كل حرف من حروفي على امتداد سطور الرواية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا