الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ووش - قصة قصيرة للكاتب الأمريكي ويليام فوكنر

رقية كنعان
شاعرة وكاتبة

(Ruqaia Kanaan)

2021 / 8 / 7
الادب والفن


ترجمة: رقية كنعان

وقف ستبن بجانب فراش القش الذي استلقت عليه الأم وطفلها، ومن بين الألواح الخشبية للجدار سقطت أشعة الشمس الباكرة كضربات قلم رصاص طويلة لتستقر بين قدميه المتباعدتين وعلى سوط الركوب في يده مرورا بخيال الأم الساكن التي أخذت تنظر إليه بعينين حزينتين غامضتين، الطفل إلى جانبها كان ملفوفا بقطعة قماش مهترئة ولكن نظيفة، و خلفهم كانت عجوز زنجية تجلس القرفصاء بقرب الموقد حيث نار ضئيلة لا زالت مشتعلة فيه.
"حسنا، ميلي"، قال ستبن، "من السيئ أنك لست فرساً، وإلا كنت سأعطيك مربطاً معتبراً في الإسطبل".
سكنت الفتاة على فراش القش دون حراك، استمرت بالنظر إليه فحسب دون أي تعبير بوجه شاب حزين وغامض لا زال شاحباً من أثر المخاض، ستبن تحرك ليظهر خلال خطوط الشمس المتشظية وجه رجل ستيني، قال بهدوء للزنجية المقرفصة: "جريزلدا ولدت هذا الصباح".
سألت الزنجية :"حصانا أم فرس؟"
"حصان ، مهر جيد لعين ... ما هذه؟"، وأشار إلى القشّ باليد التي حمل بها السوط.
"هذه فرس، أخمن ذلك"
"هاه"، قال ستبن،"مهر جميل لعين، سيكون بصقة وصورة من روب روي عندما ركبته وانطلقت شمالاً في 61 ، هل تذكرين؟"
"أجل، سيدي"
ألقى نظرة خاطفة تجاه القشّ، ولا يمكن لأحد التحديد إن كانت الفتاة لا زالت تنظر إليه أم لا، مرة أخرى أشار بسوطه إلى سرير القشّ."افعلي كل ما يحتاجانه بكل ما يتطلب ذلك منك"، خرج مارّاً خلال ممر الباب المتصدع ومشى بين صفوف الحشائش(التي انحنت على طول الرواق قبالة المنجل الصدئ الذي استعاره ووش منه قبل ثلاثة أشهر لقصّها) حيث كان حصانه ينتظر و ووش يمسك له العنان.
عندما ركب الكولونيل ستبن لمحاربة اليانكي*، لم يذهب ووش. وكان يقول لكل من يسأل وبعض من لا يسألون أيضا:"إنّي أعتني بأملاك السيد وزنوجه"، كان يبدو كالحاً، مصاباً بالملاريا بعينين شاحبتين متسائلتين، يبدو في الخامسة والثلاثين، رغم أنه كان معروفاً أن لديه ليس ابنة فقط وإنما حفيدة عمرها ثماني سنوات أيضاً. هذه كانت كذبة، غالبيتهم - أي الرجال البقية القلائل بين الثامنة عشرة والخمسين والذين أخبرهم بذلك- عرفوا ذلك رغم أن بعضهم اعتقد أنه ذاته يصدّقها. وحتى أولئك اعتقدوا أن عليه أن يتعقّل قبل أن يوضع في اختبار أمام السيدة ستبن أو عبيد آل ستبن.
يعرفون أكثر أو كانوا أكسل وأقل حيلة من اختبار ذلك، كانوا يقولون أن الرابطة الوحيدة له مع مزرعة ستبن كانت هي أن الكولونيل ستبن سمح له ولعدة سنوات بأن يقيم في كوخ متصدع على منحدر في أسفل النهر على أرض ستبن والذي كان قد بناه كمستجمّ للصيد أيام عزوبيّته قبل أن يؤول إلى خراب من قلة الاستخدام ويبدو الآن مثل وحش برّي مريض أو هرم يزحف ليشرب ويموت.
عبيد آل ستبن ذاتهم سمعوا قوله، وضحكوا، لم تكن المرّة الأولى التي يضحكون بها عليه منادينه بالقمامة البيضاء من وراء ظهره. بدأوا يسألونه و أنفسهم في مجاميع عندما يلاقونه في الطريق التي تنطلق من كوخ الصيد القديم :"لم لست في الحرب أيّها الرجل الأبيض؟"
كان يتوقف، ينظر إلى حلقات الوجوه السوداء والعيون البيضاء والأسنان التي تكمن خلفها السخرية، ويجيب: "لأن لدي ابنة وعائلة أرعاها، ابتعدوا عن طريقي أيها الزنوج".
-"زنوج؟"، وكرروا ضاحكين،"زنوج، انظروا إليه ينادينا بالزّنوج؟"
- "نعم، ولا زنوج لديّ ليرعوا أقاربي لو أني كنت ذهبت"
- "ولا شيء آخر عدا ذلك الكوخ المتهدم في الأسفل والذي لن يدع الكولونيل أيّا منّا يقيم فيه"
عندها كان يلعنهم وأحيانا كان يهرول خلفهم بعد أن ينتزع عصا من الأرض فيما يهربون أمامه، ومع ذلك كانوا يطاردونه بالضحك الأسود الساخر المراوغ، غير ممكن التخلّص منهم ويتركونه لاهثاً عاجزاً وهائجاً.
مرة حصل ذلك في الساحة الخلفية للمنزل الكبير نفسه، كان هذا بعد أخبار مريرة جاءت من جبال تينيسي ومن فيسكبيرج ، شيرمان عبر المزرعة ومعظم الزنوج تبعوه، كل شيء آخر تقريبا ذهب مع القوات الفيدرالية والسيدة ستبن أرسلت لووش بأنه يستطيع جني العنب الأمريكي الناضج في العرائش. هذه المرة كانت خادمة منزل زنجية من القلائل الذين بقوا، استدارت على درج المطبخ قائلة:" توقّف الآن يا عزيزي الرجل الأبيض، قف حيث أنت، لم تعبر أبدا تلك الدرجات عندما كان الكولونيل هنا ولن تعبرها الآن!"
ذاك كان صحيحا، ولكن كان هناك هذا النوع من الكبرياء: لم يسبق له أن حاول دخول المنزل الكبير رغم اعتقاده بأنه إذا ما فعل فإن ستبن سيستقبله ويأذن له،"ولكني لن أعطي الفرصة لأي زنجي أسود أن يقول لي أني لا استطيع الذهاب إلى أي مكان"، قال ذلك في نفسه ،"ولن أعطي الكولونيل فرصة لعن زنجي على حسابي".
ذلك رغم أنه وستبن أمضيا أكثر من أمسية معاً في أيام أحد نادرة عندما لم يكن هناك ضيوف في البيت. ربما ذهنه أدرك أن ذلك كان لأن ستبن لم يكن لديه شيء آخر وبحاجة لرفقة، ولكن ظلت حقيقة أن كلاهما أمضيا الوقت كله في تعريشة العنب، ستبن في الأرجوحة و ووش يقرفص إلى العمود وبينهما دلو من ماء، آخذين رشفة وراء رشفة من الزجاجة ذاتها. في الأثناء و في أيام الأسبوع كان يرى خيال الرجل من بعيد- كلاهما كان في العمر ذاته رغم أن أيّا منهما لم يظنّ ذلك ربما لان ووش لديه حفيدة بينما ابن ستبن كان صغيرا في المدرسة - يتجوّل على حصانه في المزرعة.
لأجل هذه اللحظة فإن قلبه هادئ وفخور، بدا له أن العالم فيه زنوج، والذين أخبره الإنجيل عنهم أن الله خلقهم ولعنهم ليكونوا متوّحشين وتابعين لذوي البشرة البيضاء، يحيون أحسن منه من حيث السكن والملابس. العالم الذي وعاه كان حوله دائما يقلد أصداء ضحكات سوداء ولكنه كان حلماً ووهماً، والعالم الحقيقي له كان شعوره بتمجيد التجوّل على الحصان الأسود، وكان يفكّر أيضاً كيف أن الكتاب المقدس قال أن كلّ البشر قد خلقوا على صورة الله وهكذا فان كل البشر لهم نفس الصورة في عيني الله على الأقل، ولهذا يمكن القول أن رجلا فخورا سيحادث نفسه هكذا:" لو نزل الله بنفسه وعاش على الأرض فإن هذا ما سيهدف لأن يكون عليه"
ستبن عاد في عام 1865 على حصانه الفحل الأسود، كان قد بدا وكأنه كبر عشرة أعوام، ابنه قتل في نفس الخريف الذي ماتت فيه زوجته. عاد بوسام للبسالة تقلده من يد الجنرال لي إلى مزرعة خربة، حيث منذ عام تعيش ابنته على هبة ضئيلة من الرجل الذي سمح له قبل خمسة عشر عاما بالسكن في كوخ الصيد الذي نسي وجوده مع الزمن. ووش كان هناك لملاقاته، دون أن يتغيّر، لا زال كالحاً غير محدّد العمر بنظراته الشاحبة المتسائلة، جوه مختلف، متذلّل ومألوف، "حسناً سيّدي لقد قتلونا ولكنهم لم يهزمونا، أليس كذلك؟".
هذا كان فحوى حواراتهما للخمسة أعوام اللاحقة. إنه ويسكي رديء النوع ما يشربانه الآن معاً من إبريق خزفي ولم يكن ذلك في معرّشات العنب بل في خلفية المحل الصغير الذي تمكن ستبن من إنشائه على الطريق السريع وهو عبارة عن غرفة خشبية برفوف، حيث أصبح يوزّع الكيروسين وطعام الإسطبلات والحلويات الشعبيّة وكذلك الخرز الرخيص والأشرطة للزنوج والبيض الفقراء أمثال ووش ،الذي عمل معه كحمّال وكاتب، كان هؤلاء يأتون على أقدامهم أو على بغل وضيع ليساوموا بطريقة مضجرة من أجل عشرة سنتات أو ربع دولار رجلاً بإمكانه التجوّل راكباً حصانه - الفحل الأسود كان لا يزال حيّاً والإسطبل الذي عاش فيه كان في وضع أفضل من منزل السيد ذاته- على بعد عشرة أميال في أرضه الخصبة وحيث قاد الجنود بشجاعة في المعارك؛ إلى أن يقرر ستبن أن يفرغ المحل بنزق، ويقفل الأبواب من الداخل ويرجع هو و ووش إلى الخلف بمعيّة إبريق الشراب.
ولكن الحديث لن يكون هادئاً كما كان حين كان ستبن يستلقي في الأرجوحة يغني مونولوجاً متعجرفاً بينما ووش يقرفص الى العمود وهو يقهقه. يجلسان معا الآن رغم أن ستبن يستخدم المقعد فيما ووش يستخدم أي صندوق أو برميل في متناول اليد، ولكن ذلك لفترة قليلة لأن ستبن سريعاً كان يصل مرحلة الهياج فينهض يترنّح ويندفع ويصرّح ثانية أنه سيأخذ مسدسه والفحل الأسود ويركب بيد واحدة تجاه واشنطن ويقتل لنكولن الذي كان ميتاً الآن، و الجنرال شيرمان، الذي هو الآن مواطن بدون مهامّ رسميّة.
" اقتلهم وأطلق الرصاص عليهم كالكلاب التي هم مثلها". "نعم أيها الكولونيل"، كان يقول وهو يمسك ستبن حالما يقع مترنّحاً ثم يوقف أول عربة مارة، و إن لم تتوفر يمشي ميلاً إلى أقرب جار ليستعير واحدة و يعود ليحمل ستبن إلى منزله. لقد دخل المنزل الآن كما صار يفعل منذ مدة طويلة ليأخذ ستبن إلى المنزل في أي عربة مستأجرة، يداعبه بهمهمات متزلّفة كما لون كان حصاناً أو الحصان الفحل ذاته. تستقبلهم الابنة وتفتح الباب دون أدنى كلمة، يحمل عبئه خلال المدخل الأبيض الرسمي المتوج بنافذة نصف دائرية تم استيرادها قطعة قطعة من أوروبا مع لوح ثبّت فوق جزء ناقص، عبر سجادة مخمليّة تآكل وبرها وأعلى درج رسمي تحوّل إلى ألواح مكشوفة بين شريطين من الدهان المتلاشي إلى داخل غرفة النوم، ستكون معتمة الآن وسيدع حمله يتمدد على السرير ويخلع عنه ملابسه ثم يجلس بهدوء في كرسي مجاور. بعد فترة تأتي الابنة إلى الباب.

- "نحن بخير الآن، لا تقلقي أبداً آنسة جوديث"، عندما يحلّ الظلام يستلقي على الأرض بجانب السرير ولكن ليس للنوم لأنه بعد بعض الوقت وأحياناً قبل منتصف الليل فإن الرجل النائم على السرير يتقلّب ويتأوّه ثم يتحدّث: "ووش؟"
- "ها أنا هنا سيّدي، عد للنوم، لم يهزمونا، أليس كذلك؟ أنا وأنت نستطيع ذلك"
كان ووش قد رأى الشريط على خصر حفيدته، عمرها خمسة عشر عاماً، ناضجة كأسلافها من بنات جنسها، وعرف من أين أتى الشريط الذي كان يراه ونوعيّته يوميّاً لمدة ثلاث سنوات، حتى لو كذبت بشأن الحصول عليه وهو ما لم تفعله، كانت خائفة متجهمة وصريحة، "قولي الآن، لو أعطاك إيّاه السيد آمل أن تكوني تذكّرتِ أن تشكريه".
ظلّ قلبه هادئاً حتى عندما رأى الفستان، راقب وجهها المتحدّي المرعوب وهي تقول له أن الآنسة جوديث ساعدتها على صنعه. كان رزيناً وهو يقترب من ستبن بعد أن أغلقا المحل في ذلك المساء يتبع واحدهما الآخر إلى الخلف.
- "أحضر الإبريق"، قال ستبن موجّهاً
رد ووش: "انتظر ، ليس الآن لمدة دقيقة"
ولم ينكر ستبن الفستان وسأل ماذا عنه. ولكن ووش قابل نظرته المتعجرفة وتكلّم بهدوء "لقد عرفتك لعشرين عاماً ولم أرفض عمل أي شيء طلبته مني، إنّي رجل ستينيّ وهي ليست إلا فتاة ذات خمسة عشر ربيعاً".
-"هل تعني أني قد أؤذي فتاة؟ إني رجل مسنّ بعمرك!"
-"لو كنت أي رجل آخر، كنت سأقول أنّك عجوز مثلي. وسواء كنت عجوزاً أم لا، ما كنت لأدعها تحتفظ بالثوب أو أي شيء آخر يأتي من يدك ولكن أنت مختلف"
- "أيّ اختلاف؟"، ولكن ووش نظر إليه بوجهه الشاحب وعينيه المتسائلتين.
- "ولهذا أنت خائف مني؟"
نظرات ووش لم تعد متسائلة، كانت هادئة صافية:"لست خائفاً لأنك شجاع، ليس لأنك كنت شجاعاً في دقيقة أو يوم من عمرك أو لأنك تملك ورقة من الجنرال لي تعرضها ولكنك شجاع كما أنك حيّ وتتنفس وهنا يكمن الاختلاف، و لا أحتاج تذكرة من أحد ليخبرني ذلك أو أن أعرف أنه مهما توليّت من أمر سواء كان مجموعة رجال أو فتاة مهملة أو حتى كلب صيد فإنك ستفعل ذلك جيّداً ويكون كل شيء على ما يرام".
والآن كان ستبن هو من ينظر بعيداً واستدار فجأة بفظاظة وقال بحدّة "أحضر الإبريق"
-"نعم سيّدي ".
بعد عامين من هذا الأحد، كان يراقب القابلة الزنجية والتي مشى ثلاثة أميال ليحضرها ودخل من الباب المتصدع والذي تستلقي حفيدته خلفه وهي تنتحب، قلبه كان لا زال هادئاً وإنمّا متأثراً. علم بما كان يقوله – الزنوج في الكبائن حول الأرض، والرّجال البيض الذين يتبطلّون اليوم بأكمله جوار المحل مراقبينهم هم الثلاثة ستبن وهو وحفيدته التي كانت أقل تحدّ ذاك أن حالتها كانت كل يوم تزداد وضوحاً، كثلاثة ممثلين جاءوا وذهبوا على المسرح. فكّر:"أعرف ماذا يقولون لبعضهم البعض، وأستطيع تقريباً سماعه: ووش جونز ثبّت ستبن أخيراً، أخذ ذلك منه عشرين عاماً ولكنه فعلها أخيراً".
سيطلع الفجر بعد قليل ولكنه لم يحن بعد، من المنزل -حيث أضاء المصباح خافتاً خلف الباب - جاء صوت حفيدته رتيباً كما لو أنها مسيّرة بواسطة ساعة، ذهب وهو يفكر ببطء وصفاء ذهن بصوت حوافر حصان يعدو إلى أن ظهر فجأة شكل الرجل المتباهي على الفحل الجميل الفخور متجولاً. ثم تلعثم تفكيره وأفلس بشكل واضح ليس في التبرير أو حتى الشرح، ولكنه المثل الأعلى الوحيد غير القابل للتفسير، تأليه بشيء من اللّمسة الإنسانية.
-" إنه أكبر منهم جميعاً، اليانكي الذين قتلوا ابنه وزوجته وأخذوا عبيده ودمّروا أرضه، وأكبر من هذه البلاد التي أنكرته إلى محلّ ريفيّ صغير، أكبر من النكران الذي حمله إلى شفاهه مثل الكوب المرّ في الكتاب المقدس، كيف عشت معه عشرين عاما بدون أن أتعلم منه وأتغير من قبله! ربما لست عظيماً مثله وربما أنني لم أقم بأيّ فروسيّة ولكني على الأقل اكتفيت من ذلك، وأنا وهو نستطيع القيام بالتجوّل، وفي هذه الحالة سيريني ما يريدني أن أفعل"
ثم حلّ الفجر، فجأة استطاع رؤية المنزل والزنجية العجوز في الباب تنظر إليه وأدرك أن أنين حفيدته توقّف.
-" إنّها بنت"، قالت الزنجيّة، "تستطيع أن تخبره إن كنت تريد ذلك" ثم عادت ودخلت المنزل.
- "بنت"، و كرّرها في ذهول وهو يستمع لصوت الحوافر ويرى الخيال الفخور يبرز ثانية. بدا وكأنه يراقب مروره وتجسّده الذي راكمته السنوات والزمن في ذورة أنه حارب تحت سيف وراية مزّقها الرصاص المندفع تحت السماء كالفسفور، مفكّراً بذهول للمرّة الأولى في حياته هو، "ربما ستبن رجل عجوز مثلي" .. " بنت" ثم فكر بمفاجأة الطفل السارة، "نعم سيّدي، لقد عشت لأكون جداً عظيماً أخيراً"
دخل المنزل ، تحرّك بغرابة على أصابع القدمين كما وأنّه لم يعد يسكن هنا، وكما لو كان الطفل الذي شهق نفسه الأوّل وبكى في الليل طرده وإن كان من فصيلة دمه. ولكن حتى فوق سرير القشّ لم يستطع أن يرى سوى ضبابيّة وجه حفيدته المنهك، تكلّمت الزنجية المقرفصة على الأرض: "الأفضل أن تذهب لتخبره إن كنت تريد ذلك، طلع النهار".
ولكن ذلك لم يكن ضرورياً. لم يحتج سوى أن يستدير تجاه الزاوية حيث المنجل الذي استعاره من ستبن قبل ثلاثة شهور ليقصّ الحشائش، ليظهر ستبن بنفسه راكباً حصانه الفحل الأسود. لم يعجب كيف أن ستبن عرف واعتقد على وجه اليقين أن هذا ما أتى به في هذه الساعة من صباح الأحد ووقف بينما كان ستبن يترجّل وأخذ اللجام من يده، تعبير أبله ارتسم على وجهه النحيل بالنصر وهو يعلن: "إنها بنت ، سيّدي! وأنت في مثل عمري"، إلى أن تجاوزه ستبن ودخل المنزل، وقف مكانه واللّجام بيده وسمع ستبن يجتاز الأرضية إلى سرير القشّ، لقد سمع ما قاله ستبن وبدا وكأن شيئا مات في داخله قبل أن يتابع.
الشمس كانت الآن عالية، شمس منطقة الميسيسيبي الناعمة، بدا له أنه يقف تحت سماء غريبة في مشهد غريب، مألوف فقط كما تبدو الأمور مألوفة في الأحلام، كحلم السقوط لمن لم يسبق له التسلّق،" لا بدّ أنّي لم أسمع ما ظننت أنّي سمعته"، فكّر بهدوء ، "أعرف ذلك!" رغم أنّ الصوت- الصوت المألوف الذي قال الكلمات لا زال يتحدّث إلى الزنجيّة عن مهر ولد هذا الصباح ،"ربما لذلك هو مستيقظ باكراً" ، وفكّر :"هذا هو، ليس أنا وما يخصّني ما أخذه خارج السرير".
ظهر ستبن، انحدر خلال الأعشاب منتقلاً بتأنّ راسخ ربما كان سيكون أكثر عجلة لو أنه كان أكثر شباباً، لم يكن قد نظر إلى ووش نظرة كاملة، قال له:" ديسي ستبقى وتتولى أمرها، الأفضل ..." ثم بدا له أن ووش يواجهه وتوقف سائلا:"ماذا؟".
"أنت قلت"، وبدا لأذنيه صوت ووش منبسطاً كصوت البطة، كرجل أصمّ، "أنت قلت أنها لو كانت فرساً كنت ستعطيها مربطاً جيداً في الإسطبل؟".
استفهم ستبن :"حسناً؟"، واتّسعت عيناه ثم ضاقتا كما تنقبض وتنثني قبضة اليد عندما بدأ ووش بالتقدم نحوه مهاجماً. الذهول التّام جعل ستبن ساكناً للحظة يراقب الذي عرفه خلال عشرين لا يتحرّك إلا بأمر- يعدو إلى أن أمسك الحصان الذي يركبه. عيناه ضاقتا ثم اتسعتا وبدون أن يتحرك زأر فجأة بصوت عال: "ارجع مكانك"، ثم قال فجأة وبحدّة "إيّاك أن تلمسني!"
"بل سأفعل يا سيّدي، قال ووش بصوته الهادئ الناعم وهو يتقدّم. رفع ستبن يده التي تمسك بالسوط؛ الزنجية العجوز حدّقت حول الباب المصدع بوجهها البشع كخرافة بالية، "قف راجعاً يا ووش"، قال ستبن ثم اضطرب. هربت العجوز عبر الأعشاب برشاقة عنزة، ستبن جرح ووش في وجهه ثانية بالسوط وكوّمه على ركبتيه. عندما نهض ووش وتقدّم مرّة أخرى كان يحمل في يده المنجل الذي استعاره من ستبن منذ ثلاثة شهور والذي لن يحتاجه ستبن ثانية.
عندما عاد ودخل المنزل كانت حفيدته تتقلب على سرير القش وتنادي اسمه باضطراب، "ماذا كان ذلك"، سألت، "ماذا كان ذلك يا حبيبي، هذه الضجّة في الخارج؟"
- "لا شيء "، قال بلطف وانحنى يلمس جبهتها كيفما اتفق: "هل تريدين أي شيء؟"
-"رشفة ماء"، قالت متبرّمة "كنت استلقي هنا أنتظر رشفة ماء لفترة طويلة ولكن ما من أحد أعارني اهتماماً ".
- "الآن حالا"، حاول تهدئتها، نهض وأحضر لها مغرفة الماء ورفع رأسها لتشرب وأراحه ثانية وراقبها وهي تستدير تجاه الطفلة بوجه جامد ولكنه بعد لحظة رأى أنها كانت تبكي بهدوء.
- "الآن ، ما كنت لأفعل ذلك، ديسى العجوز تقول أنها بنت معافاة جميلة وكل شيء على ما يرام، انتهى كل شيء وما من مبرّر للبكاء"
ولكنّها استمرت بالبكاء بهدوء وبحزن، نهض ثانية ووقف ممتعضاً عند سرير القشّ لبعض الوقت مفكّراً كما فعل عندما ولدت زوجته ثم ابنته، "النّساء، إنهنّ أمر غامض بالنسبة لي، يبدون راغبات بهم وعندما يحصلن عليهم يبدأن بالبكاء لذلك، إنه شيء غامض لي ولأيّ رجل"، ثم نهض بعيداً وسحب كرسيّاً إلى النافذة وجلس.
خلال هذا الوقت، كان النهار مشرقاً ومشمساً وهو جالس إلى النافذة ينتظر، كل حين وآخر كان ينهض على أطراف أصابعه إلى سرير القشّ ولكن حفيدته نامت الآن، وجهها منهك هادئ وتعب، الرضيعة في ثنية ذراعها، ثم عاد إلى الكرسي وجلس ثانية ينتظر ويعجب لم أخذ ذلك منهم كل هذا الوقت إلى أن تذكّر أنه يوم أحد، كان جالساً هناك في الظهيرة عندما جاء صبي أبيض اللون قرب زاوية المنزل عند الجثّة وأطلق صرخة مخنوقة ونظر وحدّق للحظة طويلة في ووش الجالس عند النافذة قبل أن يستدير وينطلق، عندها قام ووش على أطراف أصابعه ثانية إلى السرير.
كانت الحفيدة قد استيقظت للتوّ على صوت صرخة الولد دون أن تسمعها،"ميلي ـ هل أنت جائعة؟" سأل ولكنها لم تجب وأدارت وجهها بعيداً، أضرم ناراً على الأرض وطبخ الطعام الذي أحضره إلى المنزل في اليوم السابق، مع خبز الذرة البارد، صبّ الماء في وعاء القهوة البالي وسخّنه، ولكنها لم تأكل عندما حمل الصحن إليها ولذا أكل وحده بهدوء وترك الصحون على حالها وعاد إلى النافذة .
والآن بدأ يعي و يشعر بالرجال الذين يتجمّعون مع خيولهم وبنادقهم وكلابهم - فضوليين وحاقدين: رجال من نوعية ستبن كانوا يشاركونه مائدته عندما كان على ووش أن لا يقترب من المنزل أكثر من عرائش العنب، والذين علّموا من هم أدنى منهم كيفية القتال في المعارك و ربما كانوا يملكون وثائق موقّعة من الجنرال تقول بأنهم من أوائل الشجعان، والذين حاربوا في الأيام الخالية فخورين متغطرسين على الخيول الجميلة عبر المزارع اليانعة – رموز للإعجاب والأمل وأدوات لليأس والحزن.
وبينما كان يتوقّع له الهرب، بدا له أن ليس هناك ما يهرب منه بقدر ما عليه أن يركض إليه. لو هرب فسوف يتحاشى بسرور أخيلة متبجّحة مثلهم تماما لأنهم كانوا من صنف واحد على الأرض التي يعرفها، وهو كان مسنّاً، مسنّاً جدّاً للفرار إن كان عليه أن يفرّ ولن يمكنه التخلّص منهم بغضّ النظر عن كيف وكم ابتعد عنهم: رجل ماض في الستّين لا يمكن له الهرب بعيداً، ليس بعيداً ليهرب خارج حدود الأرض التي يعيش عليها أولئك الرجال الذين يصدرون الأوامر و يحدّدون قواعد المعيشة. لقد بدا له أنه رأى للمرّة الأولى، بعد خمسة سنوات، كيف تمكّن اليانكي أو أي جيش حيّ من هزيمتهم، أولئك الأنيقون المتفاخرون الشجعان المميزون لتمثيل الشجاعة والشرف والكبرياء. ربما لو كان ذهب معهم إلى الحرب لكان اكتشفهم أبكر ولكنه لو كان اكتشفهم باكراً ماذا كان سيفعل بحياته منذ ذلك الحين؟ كيف يمكنه أن يجد الحدّ ليتذكّر كيف كانت حياته قبل تلك السنوات الخمس؟
الشمس تتجه للمغيب والطفلة تبكي، عندما ذهب إلى السرير القشيّ وجد حفيدته ترعاها، وجهها لا زال مرتبكاً، حزيناً وغامضاً، "ألم تجوعي بعد؟" ، ردّت :"لا أريد شيئاً".
-"ولكن عليك أن تأكلي" وهذه المرّة لم تجب واستمرّت بالإطراق والنظر إلى الطفلة، عاد لكرسيّه ووجد الشمس قد غربت. "لا يمكن أن يتأخّر ذلك أكثر"، وهو يسمعهم بالجوار- أولئك الفضوليون الحاقدون، واستطاع حتى أن يسمع ما كانوا يقولون عنه، ما يظنّونه خلف نوبة الغضب : العجوز ووش جونز يهوي أخيراً، لقد ظن أنه نال ستبن ولكن ستبن خدعه، ظن أن بإمكانه أن يجعل السيد يتزوّج الفتاة أو يدفع ما عليه ولكنّ السّيد رفض.
- "ولكنّي لم أتوقّع ذلك أيّها السيّد" وهو يفيق على صوته ويسترق النّظر ليجد أن حفيدته تراقبه وقالت:"من الذي تكلّمه الآن؟"
- "لا شيء، كنت أفكّر وتكلّمت قبل أن أدرك ذلك"
أصبح وجهها باهتاً ثانية وضبابيّا. "أظنّ ذلك، أظنّ أنّك يجب أن تصرخ أعلى ليسمعك من في ذلك المنزل وأظن أنك تحتاج أكثر من ذلك لتأتِ به هنا"
- "نعم الآن " ،قال، "لا تقلقي"، ولكن أفكاره كانت تنساب: "أنت تعرف أنّي ..تعرف أنيّ لم أتوقع أو أطلب شيئاً من أيّ رجل إلا ما توقّعت منك، ولم أسأل ذلك أبداً، لم أظن أن الأمر يحتاج ولم أطلب ذلك البتّة، قلت أنّي لا أحتاج، ماذا عساه يحتاج رجل مثل ووش جونز أن يسأل عنه أو يشكّ بالرجل الذي يقول عنه الجنرال لي بخط يده أنه شجاع؟ شجاع"، فكّر، "من الأفضل لو أنّ أيّاً منهم لم يعد في 65، أعتقد أنّ من الأفضل لو أن نوعه ونوعي لم يسحبا نفساً على هذه الأرض، خير لنا أن تفجّر بنا الأرض من أن يأتِ ووش جونز آخر يرى حياته ممزّقة عنه وترمى كقشرة جافّة إلى النار".
سكن، سمع الخيول فجأة بوضوح، رأى المشعل وحركة الرجال.. مواسير البنادق بلمعانها المتحرك، لم يتحرّك، كان الوقت ظلاماً واستمع إلى خشخشة الشجيرات وهم يطوّقون المنزل، المشعل اقترب ونوره غمر الجثة الهامدة في العشب وتوقّف، الخيول طويلة ولها ظلال، ترجّل رجل يحمل مسدّساً ووقف في ضوء المشعل فوق الجثة، ثم نهض وواجه المنزل وقال :"جونز".
رد جونز من النافذة بهدوء :"أنا هنا، هل هذا أنت أيّها الرائد؟"
-"اخرج"
- "نعم" قال بهدوء، "ولكني أريد فقط أن أنظر إلى حفيدتي"
- "سنراها، تعال إلى الخارج"
- "نعم أيّها الرائد، دقيقة واحدة"
- "أظهر ضوءاً، أشعل مصباحك"
- "نعم، خلال دقيقة" ، كان بإمكانهم سماع صوته يتقهقر داخل المنزل رغم أنّهم لم يروه وهو يذهب بخفة إلى صدع المدخنة حيث احتفظ بسكين الجزارة: الشيء الوحيد في المنزل وحياته الذي يفخر به كون شفرته حادّة جداً، اقترب من سرير القشّ وسمع صوت حفيدته تقول: " من ذاك؟ أضئ المصباح يا جدي"
- "لا حاجة للضوء يا حبيبتي، لن يتطلّب ذلك أكثر من دقيقة" قال وهو ينحني ويتحسّس اتجاه صوتها وهمس:"أين أنت؟"
- "أنا هنا"، قالت باضطراب، "وأين يمكن أن أكون؟ ما .." ولمست يده وجهها وهي تقول ماذا يا جدّي؟.
- "جونز"، نادى الشريف،"أخرج من هناك"
- " دقيقة واحدة فقط أيها الرائد"، ونهض وتحرّك بخفة، وعرف في الظلام مكان علبة الكيروسين كما كان يعرف أنها ممتلئة لأنه لم يمرّ يومان منذ أخذها إلى المحلّ وملأها وانتظر إلى أن يجد من يوصله إلى المنزل معها لأن الجالونات الخمسة كانت ثقيلة، كان هناك فحم على الأرض، عدا عن أن المبنى المتصدّع ذاته كان سريع الاحتراق: الفحم، الأرض، الجدران انفجرت بلهب أزرق ساطع. رآه الرجال يهرع إليهم في لحظة متوّحشة حاملاً معه المنجل قبل أن تصهل الخيل وتندفع، كبحوا الخيل وأعادوها ناحية الضوء، ولكن الشبح ركض تجاههم بمنجله
-"جونز"، صرخ الشريف، "توقّف توقّف وإلا أطلقت النار"، لكنه شقّ طريقه تجاههم عبر اللهب، وعبر صوت الخيل وعيون الجياد المترقبة وبدون أي صرخة أو صوت.

* اليانكي: هم أصلا أهل انجلترا وفي أدبيات الحرب الأهلية الأمريكية هم أهل الولايات الشمالية- المترجمة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي


.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و




.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من


.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا




.. كل يوم - -الجول بمليون دولار- .. تفاصيل وقف القيد بالزمالك .