الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
التصوف: حفريات في النفس.
هاني عبد الفتاح
2021 / 8 / 7الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
تحتل "النفس" في مبحث التصوف مكانة عريضة على مستوى التجربة أو التنظير، حتى بات الكلام عن التصوف يرادف الكلام عن النفس وأحوالها. لذا كثرت التسميات الصوفية حول النفس؛ مفهومها، وأنواعها، وأدوائها وأدويتها وطرق علاجها. وذلك لأن النفس نقطة جوهرية في الوعي الصوفي، وهي واحدة من قطبي الاتصال الصوفي: الله والإنسان، فالأول مركزه علوي (الله)، والثاني مركزه أرضي (النفس).
وتعد النفس هي الدائرة المركزية في الوعي الصوفي، تتجاذب بقية مفردات التجربة الصوفية، ويتجلى ذلك بوضوح في أنها بمثابة نقطة الانطلاق المعرفي في الذات الصوفية، وعليها تتأسس المعرفة، "فمن عرف نفسه عرف ربه"، ومن عرف ربه عرف نفسه، ومن عرف نفسه وربه فقد عرف مكانه ومكانته في جغرافيا الوجود. أو كما يقول الرفاعي الكبير "من عرف نفسه بالفناء عرف ربه بالبقاء، ومن عرف نفسه بالجفاء عرف ربه بالوفاء، ومن عرف نفسه بالافتقار قام لله على قدم الاضطرار" (حالة أهل الحقيقة).
والنفس في الذات الصوفية؛ مرآة الكون، ومهبط المعارف والحقائق، شريطة أن تكون هذه المرآة صافية، وعلى قدر من الاستعداد، ومجلوة لاستقبال إشراق النور الإلهي. ولا فرق بين النفس والقلب عند بعضهم إلا من حيثيات اعتبارية، فتهذيب النفس شرط لتهذيب القلب، والقلب بيت الرب، والرب لا يسكن مكانا غير طاهر.
وذلك لأن النفس جوهر الإنسان من حيث هو كائن يحس وينمو ويتحرك، والعقل جوهر الإنسان من حيث هو كائن عاقل. فالبنفس والعقل يكون الإنسان إنسانا.
ولذلك احتاط الصوفية احتياطا بالغًا من أن يشوب النفس مرضا من أمراضها، أو أن ينزل بها ما يكدر صفاء مرآتها. ففي النفس يكمن الخير والشر، الشيطان والملك، الجنة والنار، النعيم والعذاب. متى طَهُرت، خرج منها الخير، وأوحى لها الملَك، وكان مصيرها النعيم الأبدي. والعكس كذلك؛ متى جمحت وغلبتها الشهوات والأهواء خرج منها الشر، ووسوس لها الشيطان، وكان مصيرها العذاب.
ولأن النفس تعبر عن جوانية الذات، كان من لوازم تصحيح السلوك مراقبة النفس، وذلك لأن أساس السلوك الصحيح نفس صحيحة، والسلوك المعوج، أساسه نفس معوجة. فالاعتناء بالنفس وتعاهدها بالمراجعة سبيل اليقظة. وكما يقول المحاسبي "لا تُعرف النفس حتى تمتحن وتختبر، فاختبر نفسك حتى تعلم ما فيها.. اعرف أمانتك عند هواك، واعرف طمعك عند هيجان رغبتك، واعرف صبرك عند ترك شهوة".
والطرق إلى الله ،عند الصوفي، كثيرة، بيد أنها كلها تبدأ من النفس "البقاء"، ثم تسافر إلى الله "الفناء"، ولذلك يسمى الصوفي المبتدئ "سائر"، والمنتهي "واصل". وقد يخطئ من يظن أن جغرافيا رحلة الصوفي تنتهي عن هذا الحد، بل إن الصوفي في قلق وحيرة دائمين، فهو لا يقف عند نقطة الفناء وحسب كمحطة أخيرة، بل ينزل مرة أخرى إلى البقاء، ثم من البقاء مرة أخرى إلى الفناء، وهكذا. ويستعمل القرآن مع النفس لفظ "الرجوع" فيقول "يأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك". فالصوفي في حيرة، يطلب من ربه أن يزيده تحيرا مثل قول ابن الفارض "زدني بفرط الحب فيك تحيرا". فهو بين الفناء والبقاء، السماء والأرض، الروح والمادة، النفس والله، من النفس إلى الله ، ومن الله إلى النفس، في حركة مرتدة دائمة، ذهاب وعودة، غيبة وحضور، فهو لذلك_ كما يقالون_ "الصوفي ابن وقته".
والنفس في الفلسفة الصوفية كانت مضيئة قبل أن تهبط إلى الجسد، وهي تضيء بقدر تخففها من متعلقات هذا الجسد ومتطلباته، والاكتفاء بالضروي منه. ولأن ظلمة النفس حجاب بين العبد وبين الله، فالرياضة والمجاهدة هي الآلية التي يجتاز بها الصوفي عقبة ظلمة النفس، لترتقي من النفس الأمارة إلى النفس اللوامة، ثم النفس الملهَمة، ثم النفس الراضية ثم المرضية.
وثنائية "النفس" و"الله" تلفت النظر في الوعي الصوفي، على اعتبار أنها نقطة الانطلاق ، وسلم الارتقاء في آن واحد، فهي محور الخير والشر في آن واحد، ولديها إمكانية التغيير والارتقاء. وهي الجوهر السماوي الذي هبط وتعلق بالأرضي (البدن)، ولديها مع ذلك إمكانية العودة إلى السماوي مرة أخرى.
ويعود هذا التشديد، حول النفس، من جانب الوعي الصوفي إلى البحث والتنقيب عن أحفورة أكثر عمقا في "أركيولوجيا" الذات في حقول التراث الإسلامي ، وهي أحفورة يتميز بها الحقل الصوفي عن حقول أخرى كالحقل الكلامي أوالفقهي، فالحقل الكلامي ينصب اهتمامه بالحفر حول عنصر الفكر "العقيدة"، والحقل الفقهي ينصب اهتمامه بالحفر حول عنصر الفعل "الشريعة"، أما الحقل الصوفي فينصب اهتمامه حول أحفورة أعمق، وربما أشد تأثيرا، لأنها تتصل بالشعور الداخلي والانفعال الباطني، وهو ما يسمى بـالحال "الذوق".
فإصلاح النفس جهاد كالجهاد، بل هو الجهاد الأكبر في مقابل الجهاد البدني الأصغر. أي أن الجهاد نوعان: جهاد في الداخل وجهاد في الخارج، جهاد في النفس وجهاد في الأرض، ولا يكمل الثاني إلا بالأول. ففي حكمة أطلقها "ابن عطاء الله السكندري" ترنو نحو أولوية "الداخل" على "الخارج"، تقول: "تشوفك إلى ما بطن فيك من العيوب، خير من تشوفك إلى ما حُجب عنك من الغيوب". وإنما كان هذا التعويل الصوفي البالغ حول "النفس" إنما يعود إلى الطريق الذي تتخذه فلسفة التصوف الإصلاحية، وهو الطريق "الجواني"، أي أن الإصلاح يأتي أولا من الداخل ثم ينطلق بعد ذلك نحو الخارج، إصلاح النفس ثم السلوك، الحال ثم المقال، الفرد ثم المجتمع، الإنسان ثم العالم، إنما يعرب هذا كله عن أهمية الذات الإنسانية ومقتضياتها في الوعي الصوفي.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. البيت الأبيض: نعتقد أن الخطة التي تنوي إسرائيل تنفيذها في رف
.. سقوط 8 قتلى بصفوف حزب الله وحركة أمل جراء غارتين إسرائيليتين
.. تطوير نحل روبوتي يزيد من نسل النحل ويمنع انقراضه • فرانس 24
.. الإعلام الإسرائيلي: الجيش يستعد لإجلاء المدنيين من رفح تمهيد
.. غواص مخضرم يكشف مخاطر البحث بمنطقة انهيار جسر بالتيمور وسبب