الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نزع الوشاح - قصة قصيرة للكاتبة كاثرين مانسفيلد

رقية كنعان
شاعرة وكاتبة

(Ruqaia Kanaan)

2021 / 8 / 11
الادب والفن


ترجمة رقية كنعان
بدا من المحال أن يشعر أي أحد بالتعاسة في صباح جميل كهذا، لا أحد - كما قررت إدنا- عداها هي، النوافذ مشرّعة في المنازل، من هناك جاء صوت البيانو، أيدي صغيرة تلاحق بعضها البعض وتهرب منها تتمرّن على الموازين، الريح تحرّك الأشجار في الحدائق المشمسة، كلّها متألّقة بزهور الربيع، الأولاد في الشوارع يصفّرون، كلب صغير ينبح، الناس يمرّون و يمشون بخفّة و نعومة كما لو كانوا سيشرعون في الركض. والآن رأت في الأفق شمسيّة صيفيّة خفيفة، ملوّنة بألوان الشاطئ، أوّل مظلّة في العام.
ربما حتى إدنا لم يظهر عليها التعاسة كما شعرت، ليس من السّهل أن تبدي مأساويّة في الثامنة عشرة عندما تكونين جميلة للغاية وخدّاكِ وشفتاكِ وعيناكِ اللامعتان في صحّة تامّة، وعندما ترتدين فستاناً فرنسيّاً أزرق وقبّعتك الربيعيّة المحفوفة بالأزهار! صحيح أنها حملت تحت ذراعها كتاباً مغلّفاً بجلد أسود رديء و ربّما الكتاب أعطى ملاحظة كئيبة ولكن بالصّدفة ليس إلّا، فقد كان تجليد المكتبة المعتاد، لأن إدنا جعلت الذهاب إلى المكتبة عذراً للخروج من المنزل للتفكير، لتدرك ماذا حصل، و لتقرّر بطريقةما ما يجب فعله الآن.
حصل شيء فظيع فجأة في المسرح الليلة الماضية، عندما كانت تجلس مع جيمي جنباً إلى جنب في دائرة الفستان، بدون تحذير ولو للحظة- في الحقيقة، تناولت إصبع شوكلاته باللوز ومرّرت الصندوق له ثانية– لقد وقعت في الحبّ مع ممثل، ولكن –وقعت-في-الحبّ.
الشعور كان مختلفاً عن أيّ شيء سبق وتخيّلته، لم يكن سارّاً أبداً ولا مثيراً، إلا إن كنت تستطيع أن تسمّي الإحساس المرّوع بالتعاسة والبؤس و اليأس والعذاب إثارة! كلّ هذا مع تأكيد أنّ ذلك الممثل لو قابلها على الرصيف بينما جيمي كان يحضر عربتهما، فكانت ستتبعه إلى آخر أطراف الأرض بإيماءة أو إشارة منه و بدون تقديم فكرة أخرى لجيمي أو والدها ووالدتها أو بيتها السعيد وأصدقائها الذين بلا عدد..
المسرحية بدأت مرحة نوعا ما، كان هذا في مرحلة لوح الشوكلاتة باللوز، ثم أصيب البطل بالعمى، لحظة فظيعة! بكت إدنا كثيراً لدرجة أنّه كان عليها أن تستعير منديل جيمي الناعم المطويّ الملمّس، ليس ذلك البكاء ما يهمّ، صفوف بأكملها كانت غارقة في الدموع، حتى الرجال نفخوا أنوفهم بصوت عالٍ مدوٍّ وحاولوا التّحديق في البرنامج بدلاً من النظر إلى خشبة المسرح، جيمي بمنتهى الرّحمة كان و جافّ العينين – لأنّه ماذا كان ممكناً أن تفعل بدون منديله؟ ضغط يدها الحرّة وهمس:"ابتهجي يا فتاتي الحبيبة!" وعندها أخذت آخر حبة شوكلاتة لإرضائه ومرّرت الصندوق ثانية، ثم كان هناك المشهد المروّع والبطل وحيد على خشبة المسرح في غرفة مهجورة وقت الشفق، مع فرقة تعزف في الخارج وأصوات مرحة تأتي من الشارع، لقد حاول -آه! يا للألم، يا للتعاسة!- أن يتلمّس طريقه إلى النافذة، لقد نجح أخيراً، وقف هناك ممسكاً بالستارة بينما شعاع من الضوء، شعاع واحد فقط، ينير وجهه المرفوع للأعلى والفاقد للنظر، والفرقة توارت في الظلام.
كان –حقيقة، كان بلا شكّ-أوه ، الأكثر- ببساطة- صدقاً أن تلك هي اللحظة التي عرفت فيه إدنا أن الحياة لا يمكن أن تظلّ كما هي، سحبت يدها بعيداً من يد جيمي، انحنت إلى الخلف وأغلقت صندوق الشوكلاته إلى الأبد، هذا أخيراً هو الحبّ!
إدنا وجيمي كانا مخطوبين، لقد رفعت شعرها عالياً لسنة ونصف السنة، كانا مخطوبين رسميّاً منذ عام ولكنهما عرفا أنهما سيتزوّجان بعضهما البعض منذ كانا يتمشيّان في الحدائق النباتيّة مع ممرّضاتهما وجلسا على العشب مع بسكويت و قطعتين من السكر واحدة لشاي كلّ منهما، كان شيئا مقبولاً جداً أن ترتدي إدنا خاتم خطوبة من حلقات المقرمشات طيلة وجودها في المدرسة، وحتى الآن كانا مخلصين لبعضهما البعض.
ولكن الآن انتهى كل شيء، انتهى تماماً لدرجة أن إدنا وجدت صعوبة في الظنّ بأن جيمي لم يميّز ذلك هو الآخر، ابتسمت بحكمة و بحزن وهي تستدير في دير القلب الأقدس وصعدت الممرّ الذي يؤدّي إلى شارع هيل، كم هو أفضل أن يعرف الآن من أن تنتظر حتى ما بعد الزواج!
الآن من الممكن أن جيمي يستطيع تجاوز الأمر، لا لم يكن من فائدة لخداع نفسها، لن يتجاوزه أبداً! تحطّمت حياته ودمّرت حتماً، ولكنه كان شابّاً والزمن - كما يقول الناس دائماً- الزمن قد يحدث فرقاً صغيراً ليس إلا! بعد أربعين سنة عندما يكون رجلا مسنّاً، ربما يتمكّن من التفكير في ذلك بهدوء-ربما، ولكن هي،-ماذا يحمل المستقبل لها؟
إدنا وصلت إلى أعلى الممرّ، و هناك تحت شجرة حديثة الأوراق معلّقة بعناقيد صغيرة من الزّهور البيضاء جلست على مقعد أخضر ونظرت فوق أحواض زهور الدير، في تلك الأقرب لها تنمو شتلات طريّة مع حدّ من زهر بنفسج الثالوث الأزرق الشبيه بالأصداف البحرية، وفي أحد الزوايا مجموعة كريمية من زهور الفريزيا تتقاطع براعمها الخفيفة مع الأزهار، حمائم الدير كانت تتطاير عالياً في الجو، وهي يمكنها أن تسمع صوت الراهبة أجنس التي كانت تعطي درساً في الغناء، آه-مي ، النغمات العميقة للراهبة، ويردّدن خلفها آه-مي...
إن لم تتزوّج جيمي –بالطّبع- لن تتزوج أحداً غيره، الرّجل الذي تحبّه.. الممثل المشهور- إدنا لديها من الحسّ السليم العالي ما يكفي لتميّز أنّ ذلك لن يكون، إنّه شيء غريب، ولم ترد حتى أن يكون، حبّها كان قويّاً جداً لذلك، يجب أن يُحتمل بصمت، يجب أن يعذّبها؛ لقد كان كما افترضت وببساطة ذلك النوع من الحبّ.
"ولكن، إدنا" صرخ جيمي، "ألا يمكن أن تتغيّري؟ ألا يمكن لي أن آمل ثانية؟"
أوه كم هو مؤسف الاضطرار لقولها ولكن يجب أن تقال، "لا يا جيمي، لن أتغيّر أبداً".
حنت إدنا رأسها؛ سقطت على حضنها زهرة صغيرة، وصوت الأخت أجنس صاح فجأة آه-نو وتردّد الّصدى آه-نو
في اللحظة تكشّف لها المستقبل، إدنا رأته كلّه و كانت منذهلة لدرجة حبست أنفاسها في البداية، ولكن أخيراً أيّ شيء ممكن أن يكون أكثر طبيعية؟ ستذهب إلى الدير... أبوها وأمها يفعلان كلّ شيء ليثنياها بلا جدوى، بالنسبة لجيمي فإنّ حالته الذهنيّة بالكاد تتحمّل التفكير، لم لا يستطيعون أن يفهموا؟ كيف لهم أن يزيدوا معاناتها كما يفعلون؟ العالم قاسٍ، قاسٍ بشكل فظيع!
بعد مشهد أخير بعد أن تعطي حليّها وما إلى ذلك إلى أعزّ صديقاتها، تمضي هادئة إلى الدير بينما قلوب محبيّها مكسورة، لا، لحظة واحدة، مساء ذهابها هو آخر أمسية للممثّل في بورت ويلين، استقبل بواسطة رسول غريب صندوقاً مليئاً بالزهور البيضاء ولكن لا يوجد اسم أو بطاقة، لا شيء؟ نعم، تحت الأزهار، منديل أبيض ملفوف فيه صورة إدنا الفوتوغرافية الأخيرة مكتوب تحتها:
العالم أنسى، من العالم أُنسى
إدنا جلست ساكنة تحت الأشجار، احتضنت الكتاب الأسود بين أصابعها كما لو كان كتاب قدّاسها، تختار اسم الأخت أنجيلا. قصّ! قصّ! كلّ شعرها قد تمّ قصّه، هل سيسمح لها بأن ترسل خصلة واحدة لجيمي؟ يمكن الاحتيال للأمر بطريقة ما، برداء أزرق وعصابة رأس بيضاء تذهب الأخت أنجيلا من الدّير إلى المصلّى في الكنيسة، من المصلّى إلى الدير مع شيء غير أرضي في نظرتها، في عينيها الحزينتين، وفي الابتسامة اللطيفة والتي تحييّ بها الأطفال الصغار الذين يركضون إليها. قدّيسة! تسمعها تقال بهمس بينما تذرع الممرّات الباردة والتي لها رائحة الشمع. قدّيسة! زوّار المصلّى يُخبَّرون عن الراهبة التي صوتها يسمع فوق كلّ الأصوات، عن شبابها، جمالها، حبّها المأساوي. "هنالك رجل في هذه المدينة حياته تدمّرت.."
نحلة كبيرة، واحدة مكسوة بالفرو زحفت داخل الفريزيا، والزهرة الجميلة انحنت، التوت، اهتزّت، وعندما طارت النحلة بعيداً عنها تمايلت وكأنما كانت تضحك، زهرة لا مبالية سعيدة!
الأخت أنجيلا نظرت إليها وقالت:" الآن هو الشتاء"، في إحدى الليالي وهي تستلقي في مكان نومها المثلج تسمع صرخة، حيوان ضالّ هناك في الحديقة، قطّة أو حمل أو – حسناً، أيّ حيوان صغير يتّفق له أن يكون هناك، تنهض الراهبة التي لا تستطيع النوم، بالأبيض، ترتعش ولكن دون خوف، تخرج وتحضره إلى الداخل.
ولكن في اليوم التّالي، عندما تقرع الأجراس لصلاة الصباح، يجدونها تستفرغ بحمّى عالية..بهذيان.. ولا تشفى أبداً، في ثلاثة أيام كلّ شيء ينتهي، أقيمت الصلاة في المصلّى و دفنت هي في زاوية المقبرة المحجوزة للراهبات حيث توجد صلبان خشبيّة مكشوفة صغيرة، ارقدي بسلام أيها الأخت أنجيلا...
الآن هو المساء، عجوزان يتّكئان على بعضهما البعض قدما بتمهّل إلى القبر وركعا ينشجان، "ابنتنا! ابنتنا الوحيدة!"، والآن يأتي شخص آخر، موشّح بالسواد، يأتي ببطء وعندما يكون هناك ويرفع قبّعته السوداء، ترى إدنا برعب شعره ببياض الثلج، جيمي! فات الأوان! فات الأوان!، الدموع تنهمر على وجهه، إنه يبكي الآن، فات الأوان، فات الأوان! الريح تهزّ الأشجار العارية في ساحة الكنيسة، يصرخ صرخة مريرة.
كتاب إدنا الأسود يسقط بضربة إلى ممرّ الحديقة، قفزت، قلبها يخفق حبيبي! لا، لم يفت الأوان بعد، كلّ الأمر كان غلطة، كان حلماً فظيعاً، أوه، ذلك الشعر الأبيض! كيف أمكنها أن تفعلها؟ لم تفعلها، يا للسماء! يا لها من سعادة! إنها حرّة، شابّة، ولا أحد يعرف سرّها، كل شيء لا زال ممكناً لها ولجيمي؛ المنزل الذي خطّطا له ما زال من الممكن بناؤه، الولد الصغير الذي يضع يديه خلف ظهره وهو يراقبهما يسقيان الورود ما زال من الممكن إنجابه، أخته الرضيعة.. ولكن عندما وصلت إدنا إلى أخته الرضيعة، مدّت يديها خارجاً وكأنما الحبّ الصغير جاء طائراً عبر الهواء إليها، وأخذت تحدّق في الحديقة، الزهرات البيضاء على الشّجرة، تلك الحمامات العزيزات زرقاء مقابل زرقاء، والدّير بنوافذه الضيقة، أدركت الآن أخيراً وللمرّة الأولى في حياتها-و لم يسبق أن تخيّلت شعوراً مثله من قبل- عرفت ماذا يعني أن تكون في حالة حبّ ولكن-في-الحبّ!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحكي سوري- رحلة شاب من سجون سوريا إلى صالات السينما الفرنسي


.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع




.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج