الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من التاريخ العراقي الحديث إضراب أواخر آذار ١٩٦١

شكيب كاظم

2021 / 8 / 13
الادب والفن


هذا إضراب أنعته بـ (الإضراب اليتيم)، أما لماذا هو يتيم؟ فلأني لم أجد أحدا من المهتمين بالشأن العراقي الحديث قد تحدث عنه، فكأنه تبخر من ذاكرات المؤرخين والمهتمين بالشأن العراقي؛ ففي شهر آذار ١٩٦١، أصدر مجلس الوزراء العراقي قرارات اقتصادية عدة، أثارت حفيظة الناس؛ كل الناس، لأنها تتصل بدخلهم المالي، والإنسان- بما جُبِل عليه- حريص على المال يحبه حبا جما، ولا يرغب في التفريط به مهما قلّ أو ضَؤُل، وبما أن مجلس الوزراء أمسى ومنذ تموز ١٩٥٨، هو المشرّع الأول والأخير في أي قرار مهما كان، بسبب إلغاء مجلسي الأعيان والنواب، ودخول العراق في (فترة الانتقال) كما نعتها رئيس الوزراء اللواء الركن عبد الكريم قاسم، والتي كان من المفترض أن تنتهي في ٣١ كانون الأول ١٩٥٩، على أن يبدأ العراق- كما كرر رئيس الوزراء ذلك في خطبه المرتجلة العديدة- مرحلة جديدة من العمل السياسي، وإطلاق حرية العمل الحزبي، وإجراء انتخابات نيابية، وصدر مرسوم جمهوري يحمل الرقم واحد لسنة ١٩٦٠،يرسم ملامح المرحلة المقبلة وأسسها، وإيذاناً بالشروع في تنفيذ وعود رئيس الوزراء، فأجيز (الحزب الوطني الديمقراطي) بزعامة مؤسسه الأستاذ كامل الجادرجي- أو كامل الخيام، على لغة شاعرنا الرصافي!- الذي عمل رئيس الوزراء على شقه، بسبب نقد الجادرجي للكثير من قرارات الحكومة، ووصل الحال بالأستاذ كامل إلى إعلان تجميد نشاط الحزب في صيف ١٩٥٩، بعد الفوضى التي غاص العراق فيها أوانذاك، كان ينتقد ذلك على صفحات جريدة (الأهالي) الناطقة بلسان الحزب الوطني الديمقراطي، فتأسس حزب انشق عن الحزب العريق، بزعامة الأستاذ محمد حديد؛ الذي كان وزيراً للمالية في حكومة قاسم، سمي بـ(الحزب الوطني التقدمي) وصدرت عنه جريدة تعبر عن سياسة الحزب؛ هي جريدة (البيان).
أما الشيوعيون فقد رفضت وزارة الداخلية طلبهم لإجازة تأسيس حزبهم، وحتى بعد أن غيروا اسم حزبهم إلى (حزب اتحاد الشعب) لأن الحزب كان يصدر ومنذ بداية شباط ١٩٥٩ جريدة اسمها (اتحاد الشعب)، سيمنع قائد الفرقة الأولى ومقرها مدينة الديوانية؛ الزعيم الركن (العميد الركن برتب الجيش العراقي الآن)؛ سيد حميد سيد حسين، بوصفه مسؤولا عن أمن المنطقتين الوسطى والجنوبية من العراق، لأن الحكم كان وقتذاك عرفيا عسكرياً، واللواء الركن أحمد صالح العبدي، كان هو الحاكم العسكري العام؛ وحتى وإن غير الشيوعيون اسم حزبهم فقد رفضت وزارة الداخلية الطلب، لا بل الأدق، رفض رئيس الوزراء الطلب. لا بل رأيت توقيعه على وثيقة الرفض في أحد الكتب التي نشرها المؤرخ والباحث العميد الركن المتقاعد خليل إبراهيم حسين (الزوبعي) في سلسلة كتبه الوثائقية التي حملت عنوان (موسوعة ثورة ١٤ تموز) نص تعليقة رئيس الوزراء ( لا أوافق. إنهم...) ولا أريد كتابة الكلمة ومن أراد التأكد فليرجع إلى كتب الموسوعة!
كما رفض الطلب الذي تقدم به الجواهري الكبير، مع ثلة من الشخصيات الوطنية المستقلة، وعلى رأسهم الشخصية الوطنية الباهرة الأستاذ عبد الفتاح إبراهيم (٢٠٠٣) لتأسيس (الحزب الجمهوري).
في حين أجازت وزارة الداخلية تأسيس (الحزب الإسلامي)، وكنت أرى في الأعظمية اللافتات التي كتب عليها بيت الشعر المدوي لشاعر الحزب، وليد الأعظمي والخطاط البارع...(يا هذه الدنيا أصيخي واشهدي/ أنا بغير محمد لا نقتدي).
كما ناشد العديد من الكتاب والصحفيين، ولا سيما ما كانت تنشره جريدة (الثورة) التي كان يصدرها الصحفي الرائد الحاج يونس الطائي؛ صديق رئيس الوزراء المقرب، والذي حجّ بدلا عنه- كما ذكر ذلك في تصريحات صحفية للصحفي الرائد صديقي العزيز أبي إياد؛ السيد موسى جعفر-٢٠٠٥ رحمه الله.، ناشدوه أن يؤسس حزباً يتوحد الشعب من خلاله؟! لكن هذه المناشدات لم تلق أذنا تصغي!
لكن وزارة الداخلية، أجازت حزباً؟! لا اعدو حقائق الحياة إن قلت، إن أنصاره وجماهيره وكوادره! لا تزيد عن عدد الذين تقدموا بطلب تأسيس الحزب! وكان السيد داود الصائغ هو من تقدم بطلب تأسيس حزب سماه (الحزب الشيوعي العراقي)، واتخذ هذا الحزب مقرا له في منزل بأحد أزقة محلة البتاويين، قريبا من مطعم نزار، أو ما سمي بـ(مقهى المعقدين)! الشهير الذي ما زال قائماً حتى الآن، وأقصد المقهى، وكانت تتصدر واجهة المنزل لافتة حمراء! قاتمة خطت عليها بخط رديىء، لا يمت إلى فن الخط العربي بصلة، عبارة (الحزب الشيوعي العراقي) وأصدرت هذه الجماعة صحيفة اسمها (المبدأ) بنصف حجم الجرائد المعمول به، ترأس تحريرها داود الصائغ ذاته، وما مضت أشهر قليلة حتى تبخر كل شيىء.
كانت هذه أفضال ومنجزات (فترة الانتقال)، التي كان كثير من الناس يتندرون بها بقولهم (فترة الانتقال من القندرة إلى النعال)! وفيها من الكنايات والمعاني ما فيها، الفترة التي بشر بها رئيس الوزراء، الذي أصدر في شهر آذار ١٩٦١، ولعدم وجود مجلس نواب يناقش مثل هذه القرارات، ولأنها كانت تصدر في ضمن الاجتماع اليومي الليلي الذي يمتد حتى الفجر، وما فيه من إرباك لوضع كثير من الوزراء الذين لا يطيقون السهر اليومي وحتى الفجر، ولهم مسؤوليات أسرية ووظيفية في الوزارة، ولقد لمست، لا بل توثقت من ذلك، من خلال قراءة مذكرات وزيرين من أقرب المقربين إلى رئيس الوزراء، وهما الفاضلان المرحومان: عبد اللطيف الشواف، والأديب الحقوقي مصطفى علي.
كانت هذه القرارات قد فرضت ضرائب بسيطة على السلع، مثل السكاير، والمشروبات الغازية مثل: الكوكا والببسي، فضلا عن المشروبات الكحولية والبيرة، وزيادة سعر (كالون البنزين) وكان العراق وقتذاك يعمل في ضمن المكاييل والموازين الإنكليزية، وهي الكيلو متر، والكيلو غرام فضلا عن الكالون، قبل أن نتحول إلى اللتر وهو من المكاييل الفرنسية سنة ١٩٧٤، والميل والياردة وغيرها، أقول زيد سعر الكالون من مئة فلس إلى مئة وعشرين فلسا، والكالون يعادل ٤٥٠ ٤ التار، كما زيدت قيمة ما كان يعرف بـ(العانة) وتعني أربعة فلوس، منذ أن أصدرت العملة الوطنية العراقية سنة 1931 أيام الملك فيصل الأول، زيدت إلى خمسة فلوس. وغير ذلك مما ضاع من الذاكرة.
كان تعليل مجلس الوزراء، لاتخاذ هذه القرارات الاقتصادية البسيطة، أنها ستزيد في دخل الدولة المالي، من أجل تمويل مشاريع تنموية شاملة للبلد، واشهد لله وللحقيقة وللتاريخ، قد أنتجت كما وفيرا وافرا من المشاريع العمرانية الجديدة في العراق كله، لكن سبق السيف العذل، أو العدل، فالمشكلة أن السلطة كانت تعاني في ذلك الوقت عزلة شبه تامة، فبعد الخلاف الأولي والمزمن مع الاتجاهات القومية، دخل اليسار والشيوعيون على الخط، بعد نهاية شهر العسل مع السلطة ،اثر حوادث كركوك في تموز ١٩٥٩ ، وخطاب رئيس الوزراء الشهير في افتتاح كنيسة مار يوسف ، وتنديده بعبارات قاسية بالذي حصل، فاستغلت الفئات كلها هذه القرارات لتعلن الإضراب العام في المدارس والكليات، في الأيام الأخيرة من شهر آذار ١٩٦١، وزاد من وطأة الإضراب على الحكومة، إضراب سواق السيارات، بسبب زيادة سعر البنزين، فتعذر على الناس الوصول إلى أعمالهم، واضعين في الحسبان قلة السيارات الخاصة، وحتى الذي يجرؤ على الخروج، فإنه يعرض نفسه وسيارته للرشق بالحجارة، والزجاجات الفارغة.
كان رئيس الوزراء وقتذاك في البصرة، لوضع حجر الأساس لعدد من المشاريع ومنها ميناء أم قصر، وإذ كان يواصل زيارته ومنهاج عمله في البصرة، أضحت الحياة في بغداد ومدن عراقية أخرى مشلولة، أو شبه مشلولة، فلا سيارة تمرق، وإذا مرقت تعرضت إلى ما هو أدهى وأمر، وانطلقت التظاهرات المنددة في أنحاء من بغداد، وفي يوم ٢٨ من آذار ١٩٦١، نظم الشيوعيون تظاهرة صاخبة من قرب ساحة حافظ القاضي، ووجهتها وزارة الدفاع، حيث مقر رئيس الوزراء، وما أن سارت عشرات الأمتار، وقبل أن تصل إلى محلة العمّار، أنطلق الرصاص على صدور المتظاهرين، ففي بلادي لا نعرف معنى للرصاص المطاطي، أو غير ذلك مما لا يحدث قتلا، وحتى الذين انسحبوا بسبب الرصاص المنهمر مثل المطر ، ما نجت ظهورهم منه.
وهذا الأمر نفسه، مما لم أجد له ذكرا في كل الذي قرأت، عن تاريخ العراق الحديث والمعاصر، إطلاق الرصاص على، المعتصمين المساندين لإضراب عمال السكاير، خريف سنة ١٩٦٠، لما شاع في أوساطهم عن تزوير انتخابات نقابتهم، وسعي الحكومة لانتزاع النقابات من اليسار العراقي، الى موالين للحكومة، فأطلقت النار على هؤلاء الشباب المساكين المعتصمين، والمؤازرين لعمال معمل (سكاير تركية) الذي هدم الآن وتحول إلى ساحة لوقوف السيارات، والمواجه للثانوية الجعفرية، والقريب من مبنى (العبخانة).
أطلق الرصاص فجر يوم من أيام الأسبوع الأول من تشرين الثاني ١٩٦٠.
كان رئيس الوزراء، وقد لمس عن كثب تأزم الوضع في بغداد، وأخذ الإضراب مدياته الواسعة، فلأول مرة تتفق الأحزاب العراقية المؤثرة في الساحة، تتفق كلها من غير اتفاق مسبق، أو متفاوض عليه على الإضراب والتظاهر، فعاد من البصرة مسرعا ليصدر قراراته التي سمعناها من الإذاعة بمنع التجمهر، وإطلاق النار على من زاد عددهم على أربعة، وأمر قواته العسكرية بإطلاق النار على المتظاهرين، ولا سيما متظاهري شارع الرشيد عصر يوم ٢٨ من آذار ١٩٦١، فوضع الرصاص النازل كالمطر، والدم النازف بغزارة من صدور الشباب والشابات، وظهورهم وظهورهن، وضع نهاية لهذا الإضراب اليتيم الذي لم يقف عنده أحد!.
تلك أمة خلت لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد


.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه




.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما


.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة




.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير