الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دور الطبقات في صنع التاريخ من وجهة نظر ماركسية

خليل اندراوس

2021 / 8 / 13
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية



علينا أن نعمّق معرفتنا وقراءتنا وممارستنا للفكر الماركسي لمكافحة ما تحاول طبقة رأس المال تلقيننا بأننا تروس عاجزة داخل المجتمع وبأن كل شيء "خارج عن سيطرتنا"، لأنّ الحال والوضع الموضوعي يختلف عن ذلك في هذه الحقبة من المرحلة الآنية التي تعيشها الشعوب في كل أنحاء المعمورة.

فالمادية الجدلية (الفلسفية التي تتبنّاها الأحزاب الماركسية) هي نظرة علمية لأنها تقوم على أساس دراسة الأشياء كما هي عليه دون افتراضات تعسفية مسبقة (خيالات مثالية)، ولأنّها تصرّ على أن تقيم مفاهيمها على أساس البحث والممارسة والخبرة الواقعية، وعلى أن تختبرها على الدوام وتعيد اختبارها على ضوء الممارسة ومزيد من الخبرة. والماركسية وضعت حدًّا للفلسفة القديمة التي كانت تدعي الوقوف فوق العلم وتفسير "العالم ككل". يقول انجلز: "المادية الحديثة.. لم تعد في حاجة إلى فلسفة فوق العلوم، فحالما يطلب من كل علم مفرد أن يصل إلى الوضوح حول مركزه في كلية الأشياء وفي معرفتنا عن الأشياء يصبح العلم الخاص الذي يعالج هذه الكلية زائدًا عن الحاجة" (انجلز ضد دوهرنغ).
ونحن لا نستمد صورتنا عن العالم المحيط بنا عن الطبيعة وقوانين حركتها، والمجتمع وتطوّره، لا نستمد هذه الصورة من تأمل فلسفي بل من أبحاث العلوم الطبيعية والاجتماعية. والصورة العلمية عن العالم وتطوّره ليست كاملة ولن تكون كاملة أبدًا، لكنها تقدّمت بدرجة تكفي لكي ندرك أنّ التأمل الفلسفي مرفوض وينبغي أن نرفض ملء ثغرات المعرفة العلمية بالتأمل، وكما قال ماركس "لم يقم الفلاسفة الا بتفسير العالم بأشكال مختلفة مع أن المطلوب كان تغييره."
وهذه الفكرة التي صدرت عن ماركس هي بمثابة مفتاح لفهم نشاط من يحمل الفكر الماركسي ويمارسه على أرض الواقع في الطبيعة والمجتمع، وأيضًا كل تقدم للعلم هو تقدم للمادية ضد المثالية بكل أشكالها، فإذا تقدم العلم خطوة خطوة يرينا كيف يمكن أن نفسّر ونفهم الأشياء والعمليات والتغييرات شديدة التنوع التي نجدها في العالم الواقعي بأسباب مادية.
إن الطبيعة تعيش بقوانينها الخاصة بصرف النظر عن مشيئة الانسان وإرادته، ولكن الانسان يُخضع قوى الطبيعة لمشيئته فهو بعد أن عرف قوانينها استخدمها لأغراضه، وقد توغل في أسرار الذرة وراح يسخِّر طاقتها الهائلة لخدمته وانطلق إلى الفضاء الكوني. وهكذا فإنّ الانسان قادر ليس فقط على تفسير العالم المادي المحيط به بل على تغييره كذلك، وينطبق هذا على حياة المجتمع ومن الصعب على من يفكّر غير ذلك أن يفهم مغزى ما يجري في العالم من تغيرات اجتماعية – سياسية – اقتصادية ثقافية. كتب ماركس في كتابه "مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي" ما يلي: "في انتاج الناس الاجتماعي لحياتهم يدخلون في علاقات محددة ضرورية ومستقلة عن ارادتهم وهي علاقات انتاج تطابق درجة معينة من تطور قواهم الانتاجية المادية. ويشكل مجموع علاقات الانتاج هذه البنيان الاقتصادي للمجتمع، أي يشكل الأساس الحقيقي الذي يقوم فوقه صرح علوي قانوني وسياسي وتتماشى معه أشكال اجتماعية، فأسلوب انتاج الحياة المادية هو شرط العملية الاجتماعية والسياسية والعقلية للحياة بوجه عام ليس وعي الناس هو الذي يحدّد وجودهم إنما وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم.
صحيح بأن ماركس يبدأ بدراسة المجتمع الانساني من الواقع المادي الذي نعيش فيه، هذا هو الذي يحدد واقعنا الحي وليست الأفكار التي نؤمن بها هي التي تحدد ذلك، ولكن ماركس يؤكد على التفاعل الجدلي والمعقد بين الواقع المادي الذي هو البناء التحتي للمجتمع وبين البناء الفوقي للمجتمع من ايديولوجيات وثقافة وأفكار وسياسة تبادر بشرح هذا الواقع، أو في كثير من الأحيان التعتيم عليه، كما يحدث في عالمنا المعاصر من قبل وسائل اعلام وايديولوجيات رجعية تخدم طبقة رأس المال أو مفاهيم رجعية دينية تكفيرية، هذا هو السبب الذي جعل دراسة التاريخ في كثير من الأحيان وخاصة من قبل مفكري وخدَمة رأس المال، وخدمة الرجعيات الدينية بمختلف أشكالها إن كانت صهيونية أو وهابية، مقتصرة فقط على حفظ تواريخ الملوك والاباطرة والرؤساء وهلم جرا، فبالنسبة لهؤلاء تلك هي الجهات الفاعلة التي تؤثر على التاريخ، ودور الجماهير الشعبية هو أن ننظر إليهم في رعب أو في كثير من الأحيان في رهبة وهم يضربون بحياتنا عرض الحائط.

أما ماركس فقد حول هذه الفكرة رأسًا على عقب وأظهر وأوضح دور الجماهير الشعبية دور الطبقات في صنع التاريخ، ووفقًا لمفهوم ماركس فإنّ التاريخ يتحرّك إلى الأمام ليس من خلال أفعال الأفراد ذوي السلطة ولكن من خلال الصراع الطبقي، فالمجتمع البشري شأنه في ذلك شأن الطبيعة نفسها يتطوّر بقوانينه الخاصة به بصرف النظر عن مشيئة ورغبات الأفراد والعمل خلافًا لهذه القوانين يعني القيام بمحاولة لإرجاع "عجلة التاريخ" إلى الوراء وباستيعاب هذه الحقيقة وإدراك منطق الحياة الاجتماعية.
ويطرح السؤال ولكن اين المنطق في هذا؟ أفليس الناس هم الذين يصنعون التاريخ؟ أفلا يتعارض هذا مع ما ذكر أعلاه؟ كلا، فاكتشاف ماركس وانجلز للمفهوم المادي للتاريخ (أي الاعتراف بأن التطور التاريخي هو عملية ضرورية موضوعيًا) لا يتلخص البتة في نفي دور الشخصيات المنفردة في إعادة بناء الحياة الاجتماعية، بل بالعكس، فإنّ الماركسية تقدّر هذا الدور، وبالإضافة إلى ذلك فإنها تؤكد أنّ الأسباب النهائية لكافة التغييرات الاجتماعية والانقلابات السياسية يجب البحث عنها ليس في عقول الناس ولا في فهمهم المتنامي للحقيقة الخالدة والمطلقة والعدالة بل في تغييرات أسلوب الانتاج والتبادل وبالذات في اقتصاد العصر المعنى. وبعبارة أخرى فإنّ التطور التاريخي يحدده في نهاية المطاف تطور انتاج الخيرات المادية، فالتناقضات الأساسية للعمليات الاجتماعية مثلاً تظهر بطرق محددة في كل تشكيل اجتماعي محدد، فالتناقض بين قوى الانتاج وعلاقات الانتاج يتخذ أشكالاً محددة في تشكيلات المجتمع المختلفة، وهكذا فهو يتخذ في المجتمع الرأسمالي الشكل الرأسمالي المحدد للتناقض بين الطابع الاجتماعي المتزايد لعملية الانتاج وبين الملكية الخاصة لوسائل الانتاج، "فعندما تصل قوى المجتمع الانتاجية المادية درجة معينة من تطورها تدخل في صراع مع أحوال الانتاج القائمة أو بالتعبير القانوني مع أحوال الملكية التي كانت تعمل في ظلها حتى ذلك الوقت، وتتغيّر هذه الأحوال التي هي قيد على الأشكال التطورية من القوى الانتاجية. وفي هذه اللحظة تحل حقبة من الثورة الاجتماعية. فتعديل القاعدة الاقتصادية يجر في أذياله قلبًا سريعًا بدرجة أكثر أو أقل، لكل الصرح العلوي الهائل، وعند دراسة الانقلابات التي من هذا النوع يجب دائمًا أن نفرق بين القلب المادي الذي يحدث في أحوال الانتاج الاقتصادية والتي يمكن تقريرها بدقة عالية وبين الأشكال القانونية والسياسية والدينية والفنية والفلسفية، أو بكلمة واحدة الاشكال الايديولوجية التي يدرك الناس في ظلها هذا الصراع ويجاهدون في سبيل فضه.
إذا لم يكن بالإمكان الحكم على فرد طبقًا لما يراه هو عن نفسه، فلن يكون في الامكان الحكم على حقبة متشابهة من الثورة على أساس وعيها بنفسها، وانما بالعكس يجب تفسير هذا الوعي بمتناقضات الحياة المادية في أحشاء المجتمع القديم".
فمن أجل فهم الأحداث التاريخية مثل الانتقال من الاقطاع إلى الرأسمالية، أو الثورات البرجوازية التي دمرت قوة الارستقراطية في بلدان مثل فرنسا وانجلترا، فأنت بحاجة لفهم كيفية تطوير أشكال جديدة من الانتاج يبدأ في تقويض الأشكال القديمة الحاكمة للإنتاج. وعلى عكس فلاسفة ومفكري طبقة رأس المال ووسائل الاعلام السائدة اليوم، فإن ماركس أكّد بأنّ صعود الطبقة البرجوازية والمجتمع البرجوازي الرأسمالي والانتاج الرأسمالي لا يمثل أفضل ما وصل إليه العالم وأنه نهاية التاريخ، بل رأى ماركس أنّ الرأسمالية هي مرحلة أخرى في تطور المجتمع البشري ومرحلة لا بد وأن تقود إلى الاشتراكية إلى مجتمع المستقبل حيث أنّ الكل يستفيد من الكم الهائل من الثروة الناجمة عن التطور الاقتصادي للرأسمالية من خلال حل التناقض بين الشكل الاجتماعي لعملية للإنتاج والملكية الخاصة لوسائل الانتاج.
لذلك يستنتج بصورة رئيسية من ذلك أنّه ليس بمقدور الانتاج الاجتماعي أن يسير ويتطور بشكل طبيعي إلى أقصى حدود امكانياته (بدون هزات وانحطاط وركود) ما لم يكن ملكًا اجتماعيًا، والحل المنطقي لهذا التناقض لا بد وأن نراه في مجتمع المستقبل عندما تصبح جميع ثروات المجتمع جميع وسائل الانتاج ملك المجتمع وعندها جميع الخيرات المادية والثقافية سيجري توزيعها على أساس المبدأ القائل: لكل حسب حاجاته، تبعًا للمتطلبات والأذواق لدى الأفراد ومن أجل أن يصبح مثل هذا التوزيع حقيقة واقعة وليست الماكينات والأجهزة الاوتوماتيكية العالية الانتاجية والحواسيب المتطورة بكافية، بل ثمة شرط آخر لا يقل أهمية ألا وهو الملكية الاجتماعية لوسائل الانتاج، وكما قال ماركس فإن البشر هم الذين يصنعون التاريخ ولكن ليس في ظروف يختارونها بأنفسهم، فالتاريخ يتحرك إلى الأمام من خلال الصراع الطبقي ولكن نتائج هذه الصراعات لا تتحدد مسبقًا.
في القرن التاسع عشر كتب فريدريك دوغلاس الأمريكي من أصل افريقي الذي ولد عبدا وظل مناهضًا للعبودية انه: "إذا لم يكن هناك صراع لن يكون هناك تقدم"، وهذا القول متفق تمامًا مع نظرية ماركس للتاريخ. فالماركسية نظرية مفعمة بالأمل وواقعية على حد سواء.

النظرة الزائفة تؤدي بالناس إلى أن يعزوا العلل الاجتماعية إلى أشياء خارجة عن السيطرة البشرية – وهي العملية التي سماها ماركس الشاب "الاغتراب". إن تمزيق تلك الغلالة الزائفة في حد ذاته لا يداوي العلل الاجتماعية، وكما لاحظ ماركس فإنّ التوصل إلى فهم علمي لملامح المجتمع الحالية لا يغير من المجتمع نفسه. إن تنظيم الطبقة العاملة تنظيم الجماهير الشعبية الواسعة لأنفسهم في ممارسة أفعال واعية من أجل تغيير المجتمع يجري حولنا في كل مكان عندما يتصدى الناس للظلم واللامساواة والاستغلال الطبقي واضطهاد الشعوب، وما نحتاجه هو منظمات وأحزاب سياسية ثورية ماركسية تربط النضالات السياسية والاجتماعية والطبقية والقومية بعضها ببعض من أجل الوصول إلى الانتصار في المستقبل، لتشرق شمس حرية الشعوب والطبقة العاملة في كل مكان. "الحياة جميلة، اسمحوا للأجيال القادمة أن تطهرها من كل شر وعنف وقهر وأن يستمتعوا بها إلى اقصى حد".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. Read the Socialist issue 1271 - TUSC sixth biggest party in


.. إحباط كبير جداً من جانب اليمين المتطرف في -إسرائيل-، والجمهو




.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة كولومبيا


.. يرني ساندرز يدعو مناصريه لإعادة انتخاب الرئيس الأميركي لولاي




.. تصريح الأمين العام عقب الاجتماع السابع للجنة المركزية لحزب ا