الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مقامات المدن والموسيقى

سعد محمد موسى

2021 / 8 / 13
الادب والفن


الجزء الخامس
آزمُّور
الى الجنوب من الدار البيضاء (كازبلانكا) بحدود 80 كم توجد هنالك مدينة صغيرة تعتبر من أقدم مدن المغرب، تدعى (آزمور) يعود أصلها الى جذور أمازيغية وتعني شجرة الزيتون البري العاقر (الزبوج)، وتقع على الضفة اليسرى من نهر أم الربيع الذي ينبع من سلسلة جبال الاطلس وتخوم مدينة (خنيفرة) ويتجه غرباً ليصب في (المحيط الاطلسي).
كانت الرحلة المعرفية شيقة ومهمة برفقة الصديق المغربي (سي عياض الادريسي)، أخترنا مقهى عائم على ضفاف النهر بالقرب منه كانت قوارب صغيرة زرقاء تتماوج فوق سطح الماء وتحوم فوقها النوارس، ثم طلبنا فنجانين من القهوة مع أبريق من الشاي المغربي، كان حديثنا يدور حول تأريخ المدينة التي يعتقد البعض أن (الفينيقيين) هم أول من شيدوها والقسم الاخر يظن أن (القرطاجيين) هم المؤوسسين الاوائل لها ثم جاء بعد ذلك (الرومان) وتوالت حقب من دويلات مختلفة فيما بعد من (الخوارج والادارسة والمرينيين والمرابطين والسعديين والبرتغاليين حتى الاحتلال الفرنسي أخيرا)ً، وكذلك دار بنا الحديث عن أبرز الشخصيات الفكرية والفنية التي أنجبتها تلك المدينة العريقة وكذلك عن شهرتها في فن الجداريات التي تمتاز بها مدينة آزمور ونشاطاتها في استقطاب المهرجانات الفنية.
عادةً ما يخالج المغاربة لا سيما كبار السن لدى مشاهدتهم النهر المبارك شعوراً يشوبه الحسرة حين يتذكرون إنقراض الحوت النبيل، سمك ( الشابل) الذي إختفى خلال العقود القليلة الماضية من النهر الذي كان يعج بهذا النوع من الاسماك بسبب بناء السدود وزحف الرمال والصيد الجائر والتلوث.
يولد الشابل في النهر ثم يهاجر الى المحيط الاطلسي ثم يعود مرة أخرى في موسم وضع البيوض وتتكيف وجود تلك الاسماك ما بين المياه المالحة والعذبة... وكان وفرة هذا النوع من الاسماك في مصبات الانهار يمنح رزقاً وفيراً للصيادين ولسكان المدينة وكذلك كان أحد أسباب غزو البرتغاليين الى شواطيء آزمور وثغورها، ويذكر إنه في أحد الهُدن التي أبرمت بين المغرب والبرتغال فرض بها ملك البرتغال فدية أن ترسل الى مملكته عشرة آلاف من أسماك الشابل المجفف سنوياً!!
بعد أن برحنا المقهى قصدنا المدينة القديمة ودخلنا عبر (باب سور المدينة) ثم أخذتنا تلك البوابة الى ممرات ضيقة ومتعرجة والسير المتعثر بين أطلال ثكنات عسكرية قديمة وبقايا أبنية متهدمة.
قادنا الطريق أخيراً الى شارع (السوق القديم) الذي يصطف على جانبيه باعة يعرضون بضاعتهم المختلفة وأكشاك الطعام والبقالون ومتاجر السجاد والمنسوجات والزرابي والغزل والصناعات المحلية التقليدية في (حي الملاح) اليهودي وكذلك الخزف وأواني الطواجن المزججة بنقوش مغربية وتوقفنا أمام (زنقة الدرازين)... (وزنقة الخرازين) ولفت إنتباهي في تلك الاحياء الفقيرة حرفية فنون التطريز (الآزموري) باسلوبيته ومهارته المتميزة، حيث يستخدم المطرزون نقوش مستوحاة من هيئة الحيوان الاسطوري (التنين) وطيور (الطواويس) وتطريزات متأثرة من تصاميم نباتية وحيوانية ورموز أمازيغية مع تشكيلات هندسية من تأثيرات الزخارف المغربية والاندلسية التي تزين الملابس التقليدية ومفارش الأسرّة والستائر والجلابيب وتوجد الى الجانب الاخر كذلك بضعة محال صغيرة لسيدات يمتهن فنون نقش الحناء المغربي، بينما هنالك ثمة نساء بملابسهن التقليدية يجلسن أمام النقاشات اللواتي يرسمن زخارف دقيقة على أيدي وسيقان الزبونات.
قطعنا دروب وأزقة ضيقة وعلى مقربة من زنقة (النساء) تهاوى الى مسامعنا من خلف إحدى البيوت المحتفية بحفلة عرس أو مناسبة فرح غناء (الشيخة) مع فرقتها التي تصاحبها إيقاعات الدفوف والقراقب والدربوكة ،ويطلق على هذا النوع من الفن الشعبي التقليدي فن (العيطة) الذي تؤديه سيدة تجيد الغناء المحلي بطبقات صوتية عالية ترافقها مهارتها في الرقص لا سيما في حركات هز العجيزة الممتلئة بشكل سريع يناغم مع الايقاع الموسيقي.
وهنالك في أروقة المدينة العتيقة عادة ما يصدح صوت المنشد بغناء تراثي وشعري شفوي موزون يجمع ما بين اللهجة العامية والفصحى مستمد من الموروث المغربي والعربي والاندلسي والتركي أيضاً جلبه (المورسكيون) من بلاد الاندلس الى المغرب بعد طردهم من ديارهم يسمى شعر (الملحون) وهي القصيدة الشعرية الملحنة تصاحبها ايقاعات موسيقية خفيفية مع المنشد التي تقام في المناسبات الدينية أو جلسات السمر.
وأثناء سيرنا في السوق القديم كانت روائح الخبز المغربي الساخن تنبعث من الافران التقليدية القديمة التي تشتهر بها آزمور تلك الافران المتوارثة من عوائل الفرانين تعد إحدى المرجعيات لموروث المدينة.
وفي (حي القصبة) في المدينة العتيقة التي تعج بعبق الماضي تنتصب منارة (مسجد القصبة) القريب من آثار ثكنة عسكرية برتغالية باقية من زمن الاحتلال للمدينة ويعد هذا المسجد من أقدم المساجد في آزمور وقد تم تشيده في زمن الدولة الموحدية، أضافة الى مساجد قديمة كثيرة تتوزع على أحياء المدينة، وهنالك مراقد وأضرحة يهودية وأسلامية وزوايا صوفية وأطلال لمباني أثرية وتاريخية تكرس العمق الروحي والموروث الديني لتلك المدينة، وما زالت في المدينة أيضاً مقامات لليهود من ضمنها ضريح الحاخام (أبراهام مولنيس) والحاخام (بن نتان).
وبين مقامات الاولياء الصالحين والمتصوفة والجوامع في آزمور تتجلى جماليات سقايات الماء بصنابيرها النحاسية التي تزينها الزخارف الاسلامية والنقوش على المرمر والاحجار وبتصاميم معمارية مغربية وأندلسية.
وفي إحدى ضواحي المدينة في ساحة مفتوحة يظهر للعيان مرقد واسع بجدرانه البيضاء وتترآى من عليائه القبة الخضراء مع المنارة الشامخة ويعد هذا المرقد من أشهر الاضرحة التي يئمها الزوار من أنحاء المغرب وخارجه أيضاً وهو مقام مولاي (بو شعيب الرداد) وينعت ايضا بو شعيب السارية وهو فقيه وصوفي مغربي ولد عام 463 هجرية في زمن الدولة (المرابطية)، وحين وصلنا الى بوابة مرقد الولي الصالح دلفنا من خلالها الى حضرة الضريح وصادفنا في رواق المرقد مجاميع من الزهاد والمريدين باجسادهم النحيفة وهم يتمتمون بآيات قرآنية وأدعية وبعضهم كان موغلاً في صمته العميق وتأملاته الروحية.
هنالك أعتقاد بان الإمام (عبد القادر الجيلاني) والذي يسموه في المغرب بالشيخ (بوعلام الجيلاني) بأنه قال : (إني أرى من بغداد سارية النور في أزمور انه المولى بو شعيب).
يذكر أن بو شعيب درس في عدة مدن في المشرق والمغرب ومن ضمنها بغداد وتتلمذ في مدرسة الجيلاني (سلطان الاولياء وتاج العارفين) كما ينعته أتباعه ومريده الكثار في المغرب.
وعلى الضفة اليمنى من نهر أم الربيع يوجد ضريح السيدة (عائشة البحرية) الذي يتبرك به العشاق والعزاب ويطلبون مرادهم من أجل الزواج وقد نسجت أسطورة من مخيال التراث الشعبي المغربي حول سيرة تلك الولية التي قيل إن أصلها كان عراقي التقت الفقيه بو شعيب في بغداد أثناء دراسته وهنالك ظروف حالت دون زواجهما فرجع بو شعيب الى المغرب كسير القلب... وبعدها لم تحتمل عائشة لظى الشوق والهيام للحبيب المقم بعيداً في مدينة أزمور، فهربت من بغداد وبعد رحلة شاقة وطويلة وصلت الى تخوم أزمور وحين عبورها نهر أم الربيع غرقت في أعماق الماء وبعد أن عرف بو شعيب بالمصاب حزن كثيرا وبقى وفياً لعائشة ورفض فكرة الزواج وبقي عازباً حتى وفاته.
لقد بقيت ملامح آزمور شاخصة في مقامات الذاكرة تلك المدينة المتميزة بازقتها الضيقة المفعمة بالحكايات والاساطير وكهوفها وبتنوع طرازها المعماري القديم، وكذلك بتأريخها البطولي والكفاحي في مقارعة الاحتلالات التي مرت عليها بحقب مختلفة.
وبثرائها الروحي والديني وكثرة الاضرحة والمساجد حتى نعتت بمدينة الاولياء الصالحين والمتصوفة، وبقيت زاخرة بماضيها المتجذر في عمق التاريخ المتنوع بحقبه المختلفة إنها مدينة راهنت على أستثنائيها وعراقتها وحافظت على هويتها المتفردة وجذورها وعلى موروثها الحضاري وبساطة الحياة فيها وروحية التاريخ بعد أن رفضت الانصهار في بوتقة الحداثة العصرية والتكنولوجيا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - الناقد الفني طارق الشناوي يحلل مسلسلات ونجوم رمضان


.. كل يوم - طارق الشناوي: أحمد مكي من أكثر الممثلين ثقافة ونجاح




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي لـ خالد أبو بكر: مسلسل إمبراطور


.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي: أحمد العوضي كان داخل تحدي وأثب




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي : جودر مسلسل عجبني جدًا وكنت بق