الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عملاق التجديد في التشكيل العربي : محمد مُهر الدين 1-2

حسين علوان حسين
أديب و أستاذ جامعي

(Hussain Alwan Hussain)

2021 / 8 / 26
الادب والفن


في يوم الخميس ، المصادف 24 نيسان ، 2015 ـ رحل عنا مغترباً بعَمّان عملاق التجديد في الفن التشكيلي العراقي و العربي : محمد مُهر الدين ، صديق المظلومين في هذا العالم ، و فاضح الظالمين . بعدها بيوم ، نشر الناقد الفاضل الأستاذ جواد الحطاب في "وكالة الصحافة الفلسطينية" مقالة بعنوان : "رحيل "فارس الحداثة" في التشكيل العراقي المعاصر" ، شهد فيها بحق الفقيد : " برحيل مُهر الدين ، تكون الحركة التشكيلية العراقية و العربية قد خسرت واحداً من أهم فرسانها ، فيما يؤكد الكثيرون أن ما تركه الراحل يمثل ارثاً وطنياً كبيراً و ثروة لا تقدر بثمن لأنه فنان لامس الموضوعات الخطرة و أفصح عن رأيه بكل جرأة و شجاعة و استطاع النطق بما لم يستطعه أحد غيره ، آخذاً بنظر الاعتبار قيمة البحث عن جديد يدخل في باب الحداثة و انجز للفن العراقي المعاصر اروع نفائسه الثمينة ".
و من باب الوفاء لهذه القامة العراقية الشامخة ، وجدت أن من المناسب تسليط بعض الأضواء على حياته و أفكاره و المعمار الفني للوحاته و تخطيطاته .
ولد الفنان التشكيلي الكبير محمد مُهر الدين في البصرة عام 1938 ، و هو الابن الأصغر لثلاثة أبناء . أنهى المرحلة الابتدائية في "مدرسة المعقل الابتدائية" بالبصرة . و بفضل موهبته التشكيلية المبكرة و حبه الشديد للرسم ، فقد لُقب برسام المدرسة ، وكان لأستاذ الرسم في المدرس الابتدائية الفنان الكبير فرج عريبي (1925-2007) الفضل في اكتشاف موهبته وتشجيعه على دراسة الفن . ثم أنهى الدراسة المتوسطة في "متوسطة الرجاء العالي" . و في عام (1955) ، شارك في معرض رسم مشترك مع زملائه في "اعدادية العشّار" التي تخرج فيها عام (1956) .
دخل معهد الفنون الجميلة ببغداد عام (1956) ، حيث بدأ يعالج مواضيع إنسانية في لوحاته - بدلاً من مواضيع رسوماته الأولية التي كانت نابعة من واقع البيئة البصرية و التراث العراقي . و تخرج من المعهد بعد أربع سنوات من المثابرة و الاجتهاد و النشاط الفني المتميز ، حاصلاً على شهادة الدبلوم في فن الرسم / الخريج الاول على المعهد . و خلال دراسته الأكاديمية و العملية في هذا المعهد ، فقد تأثر بأستاذه الفنان الكبير : جواد سليم (1961–1919) ؛ و بالأستاذ البولوني الوافد للمعهد : "رومان ارتيمووسكي" ( 1919-1993) ؛ و إن تمركز تأثره الأكبر حول أعمال أستاذه الفنان الكبير : فائق حسن (1914-1992) الذي رشحه لزمالة دراسية في بولونيا للحصول على شهادة الماجستير في الفنون البصرية . و كان من ضمن زملائه في المعهد كل من الفنانين التشكيليين : اسماعيل فتاح الترك (1934 - 2004) و كاظم حيدر (1932- 1985) و نوري الراوي (1925-2014) و طالب مكي (1936-) و سعد شاكر (1935-) و طارق ابراهيم (1938) و محمد راضي (1934-2011) ممن أثروا المشهد التشكيلي العراقي لاحقاً بأروع الأعمال الفنية و شكلوا القلب لجيل الستينات الذهبي – و هو الجيل الثاني بعد جيل الخمسينات التأسيسي الفذ - و الذي تصدر ريادة الحداثة في الرسم العراقي المعاصر . خلال هذه الفترة من دراسته في المعهد ، اعتنق مُهر الدين الفكر الماركسي ، و كاد أن يُطرد من المعهد بسببه نشاطه الشيوعي ، غير أنه بقي أميناً قلباً و قالباً على هذا الفكر حتى وفاته ؛ كما أن استيعابه الخلاق للديالكتيك الماركسي دفعه لتوظيف مختلف اشتغالاته الرسموية شكلاً و موضوعاَ في كل أعماله الفنية التي حرصت على ابراز جرائم الامبريالية ، مع تركيزه على اغتراب الانسان الروحي في عالم المادة (ٍسأعود لهذه النقطة) .
شارك عام (1959) في المعرض التشكيلي المشترك الذي أقيم في جمعية التشكيليين العراقيين مع كبار الفنانين من أساتذته ببغداد . و بالنظر لحضوره الفني المتميز ، فقد كرّس له الفنان نوري الراوي - في كتابه الموسوم (تأملات في الرسم العراقي الحديث) الصادر عن وزارة الارشاد العراقية سنة 1962 - مقالةً منفصلة تصف تجربته الشابة الواعدة في مزج الرسم بالسياسة و تمثيل هموم المسحوقين دون التفريط بجماليات الفن وذلك بأسلوب لم يكن الفن العراقي قد عرفه من قبل .
سافر إلى بولندا عام (1960) حيث التحق بـ "أكاديمية وارشو للفنون الجميلة،" و حصل منها على شهادة الماجستير في الرسم والغرافيك . و لقد وفرت له هذه الأكاديمية فرصة الاحتكاك ليس فقط بمسارات الفن البولوني ، بل وكذلك بالمدارس الفنية الأوربية . فقد اشتملت أكاديمية وارشو على الاستوديوهات التشكيلية الرائدة في ذلك الوقت تلك التي يرأسها الرسام و المربي البارز : جان سايبس (1897 - 1972) ؛ و الرسام و المربي الكبير اويوجينيوس إيبيش (1896 - 1987) . و لكن التأثير الأكبر عليه كان للفنان الفذ : أرتور ناخت سامبورسكي (1898-1974) الذي تعتبر أعماله التشكيلية فريدة من نوعها بفضل خبرته الإبداعية المتراكمة التي جمعت بين تقاليد التعبيرية الألمانية والتلوين البولندي (Capism) . كما كان هذا الفنان قد احتك مباشرة – بفضل إقامته الطويلة في فرنسا – بكبار أساطين الفن العالمي هناك ، و منهم : جورج رووه (1871 - 1958 ) الذي عكست أعماله كراهيته للنفاق و الفقر و الخطيئة و الحرب . كما امتلك سامبورسكي الإحساس الفطري بمعمار اللوحة ، و مزج بمهارة بين تحسسه للفروق الدقيقة في الألوان و بين القدرة على استخراج النغمات المعبرة لإنشاء تركيبات متوازنة ومتناغمة بشكل غير عادي في أعماله الرائعة بأناقتها المتقشفة حقًا التي تتطلع لاختراق سر الفن برسم الحياة .
و علاوة على احتكاك مُهر الدين بأساتذته هؤلاء ـ فقد درس منجزات "مدرسة الملصقات البولندية" التي ظهرت خلال الفترة 1950-1960 في وارسو و تخصصت بشكل أساسي برسم ملصقات الأفلام في الخمسينات والستينات من القرن الماضي . كما درس بعمق مميزات المنجز الفني لبيكاسو (1881-1973) و فرانسز بيكون (1909-1992) و الفن الشعبي (POP-ART) البريطاني و الأمريكي لفترة خمسينات و ستينات القرن الماضي .
أما أعظم تأثير عليه فقد كان اطلاعه – خلال الشهور الأخيرة من دراسته في وارشو – على معرض لأعمال الرسام و النحات و المفكر التشكيلي الاسباني انطوني تابيس (1923 - 2012) الذي كان أحد أشهر الفنانين الأوروبيين في جيله . عمل هذا الرسام منذ عام (1953) بأسلوب يعرف باسم (pintura matèrica) ، أي " اللوحة المادية " ، عبر تضمين سطوح لوحاته مواد خام غير فنية مثل التراب والرخام واستخدم نفايات الورق والخيوط والخرق و القماش المحترق و غيرها في تنفيذ لوحاته . و لقد نقل الفنان محمد مُهر الدين هذه التقنية الجديدة بعدئذ للعراق بإبداع متميز لتصبح تياراً فنياً جديداً قائماً بحد ذاته حتى الآن . كل هذا يؤكد ما قلته عن أن مرحلة دراسته في بولندا قد اتسمت بالتنوع و بالغنى الاحترافي و الأكاديمي بفضل قوة حركتها الفنية إبان ستينات القرن الماضي التي شهدت تقدماً و انفتاحاً رحباً على أوربا في ميادين الفن المختلفة .
وحينما عاد مُهر الدين الى بغداد ، أقام أول معرض شخصي له عام 1965 خصصه كله لفن الجرافيك و الملصق ، والذي اعتبر في ما بعد الباكورة للحداثة الفنية الثانية في العراق . كما عمل مدرساً لمادة الفن في معهد الفنون الجميلة ببغداد لسنوات طويلة امتدت لست و عشرين عاماً متواصلاً . ومثلما عشق مُهر الدين الرسم ، فقد عشق مهنة التدريس ، بل و اعتبر نفسه مربياً بالمقام الأول ، و تشكيلياً بالمقام الثاني ، و حرص أبلغ الحرص طوال خدمته التربوية على نقل تجاربه لطلابه بكل جد و اخلاص . و لقد وافاه الأجل و هو يتمنى لو أن أحداً من طلابه قد استطاع تجاوزه .

جماعة الرؤية الجديدة ١٩٦٩ ١٩٧٧
في تشرين الأول من عام 1969 ، نشر ستة فنانين تشكيليين (كلهم من خريجي الأكاديميات العالمية) بياناً فنياً ثورياً عُدِّ المنهاج المؤسس لجماعة "الرؤية الجيدة" ، و هم كل من : محمد مُهر الدين و رافع الناصري و ضياء العزاوي و هاشم سمرجي و صالح الجميعي و اسماعيل فتاح . و قد أعلنوا فيه عن موقفهم من الحياة والفن من خلال دعوتهم الى ارتياد آفاق الحداثة الرحبة انطلاقاً من وعي الواقع و استلهام دروس التاريخ للتجاوز . و مما ورد في بيانهم : "ليس التراث فناً ديكتاتورياً يشدنا اليه ويسجننا داخله ما دمنا نمتلك الموقف الحر إزاءه ٠٠ إنه العجينة السهلة التي تعمل بيد الفنان الخلاق . لن نخترق تراثنا خشية الاستبعاد ٠٠ بل سنضعه في جباهنا لنخترق العالم ٠ لنتحدث بلغة الحياة الجديدة ٠٠برموزها ٠ بإنسانها الجديد ٠٠ نحمل روح الاقتحام ٠ روح التمرد الممزقة لكل شيء محنط ، لكي نعود من رحلتنا حاملين الرؤية الجديدة ٠
نحن الجيل المطالب بالتغيير والتجاوز والابداع نرفض القديم المحنط ٠"
ثم يلخص البيان موقف هذه الجماعة بالنقاط العشرة أدناه :
* الـفـنّ الـحـديـث لـغـة الـمـجـتـمـع الـمـعـاصـر.
* حـريـة الـتّـعـبـيـر هي حـرّيـة الـثّـورة.
* كـلّ إبـداع هـو فـنّ وهـو تـنـاقـض مـع الـجـمـود.
* الـنّـقـد الـفـنّي الـجـيّـد هـو الّـذي يـوصـل الـتّـجـربـة الـفـنّـيـة لـلـجـمـهـور.
* الـمـاضي لـيـس شـيـئـاً جـامـداً بـل هـو مـوقـفٌ يـتـخـطى الـزّمـن .
* الـنّـتـاجـات الـفـنّـيـة هي الـتّي تـتـفـاعـل مـع الـجـمـهـور لا الـفـنّـان.
* تـمـجـيـدهـم لـدور جـيـل الـرّوّاد الـتّـاريـخي رغـم رفـضـهـم لـوصـايـتـهـم الأكـاديـمـيـة.
* تـحـدي الـعـالـم ورفـض هـزيـمـة الأمّـة الـعـسـكـريـة والـفـكـريـة .
* تـبـنّي الـثّـورة الـتّي تـتـجـاوز الـقـيـم الـسّـلـبـيـة وتـبـلـور لـروح الـمـسـتـقـبـل.
* مـمـارسـة الـفـنّ رهـن بـمـمـارسـة الإنـسـان لـجـوهـره الإنـسـاني، والـثّـورة الـمـتـخـطّـيـة هي الـفـنّ الـمـسـتـقـبـلي الـمـدهـش والـمـحـقـق لـلـرؤيـا الـجـديـدة :
و قد تضمنت كلمة محمد مُهر الدين في الكتيب الذي أصدرته الجماعة بعدئذ هذا النص الديالكتي :
" السلفيون أولئك الذين يحاولون تثبيت كيانهم عن طريق المسايرة و الخضوع للمفاهيم التي لا تتناسب و عصرنا . و الفنان المبدع الخلاق من يرفض هذا المسلك و يدعو بجرأة و اخلاص للتجديد الذي يحارب المسخ و التقليد الذي من شأنه تمزيق مجتمعنا و الحضارة الانسانية ، داعيا بفهم واعي لتبني روح العصر الذي يعيشه – لن نكون معاصرين بالمعنى التام مالم نكن جزءاً من هذا العصر ، متفاعلين معه ، معبرين عنه بأمانه و صدق . فطريقة تعبيرنا ذاتية معتمدة على حس الفنان ووعيه ، وهي بمثابة عمليتي انعكاس وخلق . رافضاً و متبنياً . فهذه الطريقة تضع نتاجنا الفني أمام الجمهور المثقف ليتسنى له التفاعل و التواجد معه أو رفضه . فالتقييم نتيجة لهذا الرفض أو التواجد عبر مرحلة زمنية قابلة للاستمرار و التغير ... وجب على الفنان أدراك موقفه بوعي إزاء الظروف المعاصرة لتتخذ أعماله صفة المعاصرة ، و كلما كانت هذه الأعمال جيدة التكنيك عميقة الإدراك للمرحلة الراهنة اكتسبت المعاصرة و المستقبلية (الأعمال الجيدة مرآة الحاضر و المستقبل) . و هذا جل ما يستطيع الفنان تقديمه خدمة للحضارة و الانسانية ."
و تلخص الكلمة أعلاه المفهوم الذي اشتغل عليه الفنان محمد مُهر الدين في كل أعماله التشكيلية : وعي متطلبات تغيير الواقع برؤية تجديدية مستقبلية عبر التفاعل معه و نقله للمتلقي بصدق خدمة للحضارة و للإنسانية . هذا التوجه الكوني في اعتبار الفن هو رسالة انسانية يقف بالضد من النزعة المحلية الضيقة التي كان جواد سليم من أقطاب الداعين إليها .
أقام محمد مُهر الدين عشرات المعارض الشخصية والمشتركة محلياً وعربياً وعالمياً ، كما حصل على العديد من الجوائز العالمية خلال مسيرته الفنية التي امتدت لنصف قرن ، منها : الجائزة التقديرية في المرتبة الثانية في بينالي الفنون في أنقرة عام 1986 ، و الجائزة الأولى في مُهرجان الفنون الثاني في بغداد عام 1988 ، و جائزة تقديرية عام 1993 في بينالي الفن الآسيوي ببنغلاديش ، و الجائزة الوطنية للإبداع في بغداد عام 1998 . و له ثلاث جداريات رسم كبيرة في مطاري بغداد والبصرة ، و في ساحة الاحتفالات في العاصمة بغداد .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | على الهواء.. الفنان يزن رزق يرسم صورة باستخدا


.. صباح العربية | من العالم العربي إلى هوليوود.. كوميديا عربية




.. -صباح العربية- يلتقي نجوم الفيلم السعودي -شباب البومب- في عر


.. فنان يرسم صورة مذيعة -صباح العربية- بالفراولة




.. كل يوم - الناقد الفني طارق الشناوي يحلل مسلسلات ونجوم رمضان