الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زمن التعلم زمن الإبداع

محمد علي سليمان
قاص وباحث من سوريا

2021 / 8 / 27
الادب والفن


كل الكتاب والمفكرين يمرون بزمن تعلم قبل الدخول إلى زمن الإبداع، حيث يصبح الطريق سالكاً إلى الخلق الأدبي _ الفني والفكري. وهذا ما يقوله الناقد الانكليزي نورثروب فراي " لا يمكن إنتاج الشعر إلا انطلاقاً من قصائد أخرى، ولا يمكن إنتاج الروايات إلا انطلاقاً من روايات أخرى "، ويؤكد ذلك أرنولد كيتل " لا شيء يأتي من لا شيء، وحتى أكثر الفنانين أصالة يبدأ مما سبقه ". وهذه المقولة، بشكل عام، تنطبق على كل الكتاب والمفكرين، وقد يكون هناك حالات خاصة مثل رامبو الذي احترق بنار زمن الإبداع، وهجر الأدب في العشرين من عمره ليعيش كمغامر. كما أنها تنطبق على كل جوانب الخلق الأدبي والفكري. وسوف نلقي الضوء على بعض الشخصيات الأدبية والفكرية عبر رحلتهم من زمن التعلم إلى زمن الإبداع.

1 _ تشيخوف:
يقول الناقد فرانك أوكونور في كتابه الصوت المنفرد " كان تشيخوف متأثراً بعمق، ولسنوات عدة، بموباسان. ولأنه لم يكتشف جماعة مغمورة لنفسه خاصة، فقد استولى على جماعة موباسان وحاول أن يعالجها بطريقته الخاصة ". ويبدو أن تشيخوف لم يستول على الجماعة المغمورة لموباسان، بل استولى على الجماعات المغمورة للكتاب الروس في طريقه نحو الإبداع. ففي كتاب جيورجي بيردنيكوف " أنطون تشيخوف في معترك الفكر والإبداع " يقول الكاتب " وكان تشيخوف الوريث الشرعي لكل الأدب الروسي وتقاليده العظيمة. وهناك حصراً يجدر بنا أن نبحث عن المعلمين الحقيقيين والمرشدين الروحيين الذين وجهوا خطى الكاتب الشاب في عالم الإبداع ". يرصد الناقد تأثر تشيخوف واستيلائه على الجماعات المغمورة للكتاب الروس العظام نذكرهم حسب عناوين فصول الكتاب " تشيخوف وشدرين، من حق شدرين علينا أن نعتبره معلم تشيخوف ومرشده الروحي. تشيخوف وتورجنيف، كأننا بهذه المجموعة من الأقاصيص تشكل مذكرات صياد التشيخوفية. تشيخوف وكورولينكو، مشكلة التشاؤم. تشيخوف وغارشن، تشيخوف وتولستوي، " عرفناه في أقاصيص تشيخوف التولستوية ". وقد حاول تشيخوف أن يستفيد من جماعات الكتاب الآخرين المغمورة، وحتى أفكارهم الاجتماعية والجمالية، ويصهر كل ما يخدم رؤيته الأيديولوجية ضمن رؤيته الإبداعية لخلق قصته التي امتلأت بمضمون جديد أكثر عمقاً واتساعاً. ومعروف أن تشيخوف، حين أعاد أعماله للنشر في فترة النضج أبعد القصص التي لم يرض عنها، وأعاد النظر في قصص كثيرة حسب رؤيته الإبداعية التي انطلقت من اهتمامه بسيكولوجيا الناس مأخوذين في ظروفهم الاعتيادية المعاشية.

2 _ تودوروف:
لقد كتب تودوروف كتاباً عن رحلة التعلم بعنوان " نقد النقد، رواية تعلم ". والكتاب سيرة ذاتية عن رحلته على طريق التعلم والإبداع. والكتاب يتناول النقاد الذين تعلم منهم تودوروف النقد، وتركوا أقوى التأثير في نفسه " لقد اخترت أولئك المؤلفين الذين شعرت بأن لهم الأثر الأقوى في نفسي. فبعض المؤلفين الذين أتحدث عنهم أقرب إلى اليوم من سواهم، وهذا أمر لا يمكن دحضه، إلا أنهم جميعاً أثاروا حماستي، في لحظة وأخرى، ولا أزال معجباً بهم جميعاً ". ويرى تودروف " أن على الإنسان أن يتعلم، أن يختبر من جديد كونه هنا من أجل نفسه_ عليه أن يشعر أن الكل، في داخل كل كائن مفكر، موجود هنا من أجل كل خاص، تماماً أن كل كائن هنا من أجل الكل. ولا ينبغي أبداً اعتبار الإنسان الخاص ككائن مقيد وحسب، وإنما أيضاً ككائن نبيل، له قيمته الخاصة في حد ذاته. إن فكر الإنسان هو مكتمل بذاته ". وهؤلاء النقاد هم " الشكلانيون الروس، دوبلن وبريشت، سارتر وبلانشو وبارت، باختين، فراي، إيان وات، بول بنيشو ". ويقول في كتابه " لقد كنت وما زلت ذلك الرومنطيقي الذي يحاول أن يتصور تجاوزاً للرومنطيقية من خلال تحليل الكتاب الذين تماهيت تباعاً بهم. تندمج إذن الحركة المتكررة في كل فصل بحركة أخرى متدرجة تصل إلى أوجها في النهاية، دون أن يكون ذلك تركيباً. بتعبير آخر، ليس ما يلي إلا رواية، غير ناجزة، عن التعلم ".

3 _ همنجواي:
في كتاب " سبعة قصاصين أمريكيين "، وفي الفصل المخصص للكاتب أرنست هيمنجواي الذي كتبه فيليب يونغ، يظهر أن أسلوب هيمنجواي في الكتابة جاء نتيجة رحلة التعلم والإبداع، فقد تأثر همنغواي بالكاتب مارك توين، كما أنه مدين بقصصه الأولى إلى الكاتب شيرود أندرسن، وإلى عدد من الكتاب الآخرين (وإن بدرجة أقل) مثل سكوت فيتزجيرالد وجوزيف كونراد وفورد مادوكس فورد وستيفن كرين وإيفان تورغينيف، وكأمثلة ففي قصته " والدي " وقع تحت تأثير أندرسن. وفي قصته " صبيين أفاقا من سحر الحب " وقع تحت تأثير فيتزجيرالد. وفي قصته " حياة فرانسيس ماكومبر القصيرة السعيدة " تأثر فيها بأفكار الكاتب لورانس، والكاتب ستيفن كرين في قصته " راية الشجاعة الحمراء "، وفي قصته " ثلوج كليمنجارو " وقع تحت تأثير الكاتب أمبروس بيرس وخاصة في موضوع القصة. ويخلص فيليب يونغ إلى " أن تأثير الكتاب الآخرين على كاتب بارز في حجم هيمنجواي ظاهر جداً ويمكن التعرف عليه حتى في أحسن أعماله وأعظمها ". ويتابع " فهو كغيره من الكتاب راح يطلب شيئاً ممن سبقوه من أفرانه، ولكن هذا الشيء بفضل تجاربه وذوقه الحساس يصبح شيئاً آخر ذا معنى وشديد الجاذبية. لقد صنع بقوة شخصيته ومهارته الفنية بما استعاره، فأصبح هذا الشيء المستعار مميزاً خاصاً به. ويملكه بشكل لا يمكن أن ننكره. فربما لا توجد أي دولة في العالم تقرأ الكتب الأمريكية ولا تتأثر بأعمال هيمنجواي ".
وأذكر إنني قرأت مقالاً لماركيز عن لقائه الأول بهمنغواي: همنغواي الذي يخصني. لقد رأى ماركيز كاتبه المفضل في الشارع، كان همنجواي يسير على الرصيف المقابل، وبعد أن يصفه ماركيز، وبعد أن يتردد بين طلب لقاء صحفي وبين واجب قطع الطريق وتقديم واجب التحية والتعبير عن إعجابه الكبير به يصرخ بأعلى صوته: أيها المعلم، وكان ماركيز، كما وصف نفسه، وكأنه يبدو مثل طرزان يصرخ في الغابات. وقد كتب ماركيز روايته " قصة موت معلن" متأثراً بقصة همنجواي " القتلة "، كما كتب روايته " ذكرى غانياتي الحزينات " متأثراً برواية كاواباتا " منزل الجميلات النائمات ".

4_ سلامة موسى:
وهو أيضاً كتب كتاباً عن الكتاب والمفكرين والفلاسفة الذي تعلم منهم بعنوان " هؤلاء علموني ". الكتاب عن تلك الشخصيات التي أثرت في حياته الإبداعية وأعطته منهجاً يعيش به عيشة الخدمة والكرامة والشرف مع الرضى والتضحية. ومن هؤلاء المفكرين والادباء الذين تعلم منهم سلامة موسى أفكاره " داروين، نيتشه، فولتير، غاندي، شفيتزر، جوته، أبسن، شو، ويلز، ديوي، دستويفسكي، ماركس ".
فولتير وحبه للحرية، وكانت مهمة فولتير للعالم: الحرية الفكرية وفصل الدين عن الدولة. كما أعطاه فولتير المنهج الذي اعتمد عليه لتحطيم مثاليات الشرق. ومن جيته تعلم منهج الحياة التي عاشها جيته " وكان ينبهني من وقت لآخر حتى أعيش على مستواه.. نتعلم منه أننا يجب أن نؤلف شخصيتنا ". وجيته أعطاه أيضاً النظرة الموسوعية. ونيتشه وجنونه المقدس يحيل عمره إلى مغامرة فلسفية " هو قوة تحريرية عظمى، ويحول بينك وبين التسليم المطلق للعرف والعادة ". ودستويفسكي في حبه الغامر للبشر " كسبت من ديستويفسكي ذلك الإحساس الأدبي الذي لا يختلف عن الإحساس الديني أو الموسيقي ". وغاندي بالموقف السلبي من الاستعمار، ومقاطعة البضائع الانكليزية، والذي تعلم منه أيضاً أن حكمة الحكيم ليست بالاقتناء بل بالاستغناء. وبرنارد شو وويلز اللذين عرفاه بالاشتراكية الفابية وجعلا أدبه كفاحاً ضد الظلم، وبالنسبة لشو فقد تعلم من حياته، وفلسفته التي تنبع من تلك الحياة، وإن على الإنسان أن يعطى المجتمع أكثر مما يأخذ منه، واعطاه ويلز روح الجد في البرنامج الثقافي والآفاق الموسوعية في المعارف. وفرويد الذي ساعده في تشريح النفس البشرية " وهو الذي كان يحفزني، من حيث أدري أو لا أدري، إلى دراسة المجتمع ". وداروين الذي أعطاه عقيدته في التطور حيث جعلت التطور عنده مزاجاً تفكيرياً ونفسياً يبعده عن الغيبيات ويحطم التقاليد. وجون ديوي الذي أعطاه الأسلوب العلمي في حل المشكلات الاجتماعية " وأول انتفاعي به إنه ألح علي مراراً وتكراراً بضرورة الالتزام للأسلوب العلمي في المشكلات الاجتماعية ". وماركس " أحب أن اعترف أنه ليس في العالم من تأثرت وتربيت عليه مثل كارل ماركس، وكنت اتفادى اسمه خشية الاتهام بالشيوعية " كما يقول في " تربية سلامة موسى ". وكما يقول سلامة موسى عن أساتذة حياته الفكرية " هؤلاء علموني، أكسبوني الحياة الغالية التي عاشوها على القمم إيحاءات كأنها صلوات القلب. لقد غرسوا في ذهني غراساً صالحة تنمو وتتفرع كأنها نبت ينير خلايا المخ ويسطع أنواراً تقشع ظلام الجهل ".
لكن يلاحظ أن سلامة موسى، رغم أنه يحاول أن يأخذ بمقولة جيته " كن رجلاً ولا تتبع خطواتي "، فإنه في النهاية بدا وكأنه يتبع خطوات هؤلاء الذي تعلم منهم رغم أنه يقول في المقدمة أنه حاول الاستقلال عنهم، وهذا ما ينصح به قارئ كتابه. وعليه فإن سلامة موسى لم ينتج نظرية فكرية متماسكة، لم ينتج " فلسفة " خاصة به، [ل أنه أنتج أفكاراً، وهذه الأفكار هي التي أنتجت مجموعة من الكتب يحكمها تباعد الرؤية أكثر مما يحكمها تماسك الرؤية الفكرية. وقد برر سلامة موسى ذلك " إن مجتمعنا ليس نهائياً، إذ هو سيتطور، وما دام هذا شأنه، يجب أن نتناوله بالتغيير، كلما وجدنا الحاجة إلى هذا التغيير ".

5 _ نجيب محفوظ:
يقول نجيب محفوظ في كتاب " أساتذتي ": " عندما أكتب أتذكر لا إرادياً من علموني في الكتب أو في المدارس، ولذلك أفكر في الخدمات التي قدمها لي من كونوني ثقافياً، أشعر أنني مديون بأكثر من ديون مصر ".
أهم الأدباء الذين تعلم منهم نجيب محفوظ هو الأديب يحي حقي، وقد تعامل معه كأستاذ من أساتذته رغم تقاربهما في العمر، فقد أهدى إليه جائزة نوبل كواحد من المبدعين الذين يستحقونها. واعتبر أنه من الواجب تكريمه لأنه " من الفنانين العظام ومن مفاخرنا القومية، وأعتقد أنه لم ينل حقه من التكريم، فيحي حقي ممن تأثرت بهم، فهو من مؤسسي القصة القصيرة في مصر ".
وعن توفيق الحكيم يقول نجيب محفوظ " أنا تتلمذت على يد توفيق الحكيم لكن قد يكون الاستاذ الذي تتلمذ الإنسان غير الصديق. الحكيم أصبح صديقاً لي، قرين روحي، الإنسان الذي تجد نفسك فيه ". وجاء في رسالته إلى زينب ابنة توفيق الحكيم " الواقع الذي لا شك فيه أنه مادامت الظروف قد جاءت بهذه الجائزة لتلميذ، فهذا اعتراف ضمني بأن أستاذه قد أخذها عن طريق الاستحقاق، إن لم يكن عن طريق الفعل ".
وعن العقاد يقول إن العقاد هو الحرية، وأن " العقاد هو أول من نبهني إلى قيمة التراث الإسلامي والعربي، وفي الوقت نفسه هو من عرفنا بالفكر العالمي وعقد بين هذا وذاك مقارنات، مثلاً: بين شوبنهاور وأبو الغلاء المعري، فجعلنا ننظر إلى الثقافة على أنها شيء واحد يسهم فيه الإنسان من أي مكان، وإنه لا موضع لتعصب لتراث دون آخر، وأعطانا القدرة على أن نعتز بتراثنا، وعلمنا بأن به أفضل بأحسن ما أنتجه الفكر العالمي من فلاسفة ومفكرين وأدباء وشعراء ".
وعن طه حسين وما تعلمه منه يقول " طه حسين أراد لنا أن نضع لأنفسنا صيغة فيها الماضي والحاضر معاً، وقد تمثل هذا الدمج في شخصه، فهو الشيخ الأزهري إذا شئنا وهو أيضاً الأوروبي، وهنا تكمن عظمته ".
وعن الشيخ مصطفى عبد الرازق يقول " الشيخ مصطفى عبد الرازق هو من أنبل وأعظم الشخصيات التي عرفتها في حياتي، لذا تأثرت به تأثراً شديداً منذ تعرفت عليه كتلميذ لأستاذه في كلية الآداب بين عامي ثلاثين وأربعة وثلاثين أثناء تدريسه للفلسفة الإسلامية.. وكان أستاذاً بكل ما تحمل الكلمة من معنى، فهو يحاول أن يكون للطالب عقل يقوم على أسس صحيحة من الفكر وحسن الفهم ".
وعن سلامة موسى يقول إن علاقته به كانت علاقة تلميذ بأستاذ عظيم، ويتابع " وقد تأثرت بكل أفكار سلامة موسى ما عدا تطرفه مع الغرب.. كما تأثرت بدعوته للاشتراكية الإنكليزية التي تعرف الديمقراطية، وتعترف بالأديان عكس الاشتراكية السوفييتية.. ويقف سلامة موسى على يسار المفكرين الذين تأثرت بهم.. في الاشتراكية والديمقراطية التصنيع وحرية المرأة والنزعة العلمية والأدب المرتبط بالمجتمع.. وهو الوحيد الذي اتصلت به من بين جميع أساتذتي رغم حبي الشديد لهم، وكان ذلك بفضله هو حيث سعى لمعرفتي ".
ويمكن أن نضيف أن نجيب محفوظ أعجب برواية الأجيال، ويتابع في كتاب جمال الغيطاني " المجالس المحفوظية ": " كنت أقرأ في كتاب عن أجرومية الرواية.. أول ما يعرض له هذا الكتاب الرواية التي يسمونها الأجيال، أو رواية الأزمان التي تعرض أجيالاً عديدة متوالية، أعجبني الشكل.. هناك أشياء تقرأها ولا تستجيب لها، وهناك روايات أخرى تتجاوب معها، ما تردد في داخلي بقوة أن أكتب رواية من هذا النوع ". وكانت رواية الثلاثية: بين القصرين، قصر الشوق، السكرية، حيث تأثر بالروائي توماس مان، وخاصة في روايته " آل بودنبرك "، وقد أثرت فيه من ناحية تكوين الشخصيات وفي البناء الروائي، حيث وجد عنده طريقة السرد الموضوعي التي ينشدها، وجذبه إليه نزعته الفلسفية. ورغم ذلك فإن الثلاثية تبقى رواية مصرية بامتياز.

6 غالب هلسا
ويمكن أن نشير عربياً إلى الروائي غالب هلسا في كتابه " أدباء علموني، أدباء عرفتهم " الذي يقول فيه " كنت أدرك بشكل مبهم أن الكتابة الحقيقة هي أن أكتب عما يدور حولي، ولكن كيف؟ تعلمت ذلك ببطء من ستيفنسون وهمنغواي وفوكنر وبشكل أساسي من دوس باسوس.. لقد علموني كيف أرى العالم بشكل جديد، وكيف أضعه في سياق العمل الروائي، بمعنى أنني لولاهم لما أصبحت كاتباً ".
عن همنغواي يقول غالب هلسا: " هكذا جاء همنغواي بالنسبة لهذا الجيل ليطرح حلولاً لعلاقة الأدب بالواقع، حلولاً تتصل بالتقنية الأدبية، وأخرى تتصل برؤيتنا للعلم ". " كما علمنا همنغواي كيف نتخلص من اللغة الرومانسية المترهلة التي لا تقول شيئاً.. ولعل أهم ما تعلمته من همنغواي أن أسلوبه لا ينفصل عن ذلك الجزء المخفي من الحكاية ". كما أنه تعلم منه وصف الفعاليات الإنسانية اليومية الخطيرة بمعرفة الخبير، تلك الفعاليات المتعلقة بالصيد والحرب والرحلات التي تجسد وصف الإنسان في مواجهة الخطر.
وعن دوس باسوس يقول: " لقد جاء دوس باسوس ليكسر رهبة الشكل الروائي ويزيل الحاجز بين تجاربي الحياتية والرواية. لقد جعل العالم من حولي يدخل في الرواية ويتخللها من جميع الجهات، فأصبح كل شيء يصلح للكتابة ". " لقد كان الشعور الأساسي الذي خرجت منه عند قراءة دوس باسوس هو خيبة الأمل ". و" بالنسبة لي كان أسلوب التصريحات الصحفية وسيلة للسخرية من قول تافه. هكذا استخدمته في رواياتي ".
وعن فوكنر يقول: " قبل فوكنر كنت أحتار كيف أصيغ من الحياة البطيئة والرتيبة في القرية فعلاً درامياً، فوكنر جعلني أرى الأحداث ليس كما وقعت ولكن عبر تحولاتها الاجتماعية ". " هذه هي القيمة المعرفية المهمة لأدب فوكنر، إنه يعيدنا إلى جذور تجاربنا، تلك الجذور البالغة الحساسية والمتصلة بمخزن الذكريات، المشاعر والأحداث، المقموعة أوالمهملة، أو تلك التي ظلت عماء دون تحديد ودون سياق.. كانت هذه هي رؤيتي لحياة القرية التي كنت عاجزاً عن وعيها أو التعبير عنها قبل أن أقرأ فوكنر.. لقد كان أثر فوكنر قوياً علي إلى حد أنه تسلل إلى لا وعيي ".
ويمكن أن نضيف كثيرين من الكتاب والمفكرين في رحلة تعلمهم، فقد اعترف بلزاك بمعلمين: بوفون، وهو عالم طبيعي، والروائي والتر سكوت الذي أوحى له أن يكتب سلسلة روايات تؤرخ للمجتمع الفرنسي: الكوميديا الإنسانية، وكان بلزاك يعيد كتابة روايات لآخرين كما حدث حين أعاد كتابة رواية " لذة " لسانت بوف في روايته " زنبقة في الوادي "، كما كتب رواية " بداية في الحياة " انطلاقاً من قصة لأخته. كما يمكن أن نضيف الفيلسوف الألماني غادامير الذي كتب سيرته بعنوان" التلمذة الفلسفية " وفيه يرى أنه " من الأولى عدم الحديث عن الذات "، ولذلك يتكلم عن سيرته الفلسفية التي هي أيضاً رحلة تعلم، وكما يقول سوليفان في تقديمه للكتاب: " التلمذة شرط التعلم ". كما أن عزت السيد أحمد كتب عن أساتذته كتاباً بعنوان " هؤلاء أساتذتي ". ويقول بيلنسكي عن بوشكين " إن هذا القسم _ الأول _ يشمل على قصائد مكتوبة بين عام 1815 و1824 وهي مرتبة حسب السنوات ولذا يستطيع المرء أن يرى كيف كان بوشكين يبتعد عاماً بعد عام عن التلمذة والتقليد، على الرغم أنه تفوق في تلمذته على أساتذته ونمازجهم وكان فيهم شاعراً مستقل الشخصية أكثر مما كان تلميذاً ". ويعترف ستيفنسون أن الكتاب الذي أثر في تربيته هو العهد الجديد، وعلى الأخص إنجيل متى. ويضيف أيضاً " أوراق العشب " لويتمان، ويقول عنه إنه " كتاب ممتع ذو نفع فريد وقد قلب عالمي رأساً على عقب، فبعد أن زلزل كياني، أعادني من جديد فوق أساس قوي من الفضائل القوية والأصيلة ". وأيضاً تأثر بالشاعر وردزوورث " الذي ليس بمستطاع أحد قراءته دون أن يتأثر به ". ويمكن القول إن لكل كاتب أو مفكر معلم أو معلمين، لا بأس من ذكر جيل دولوز ومقاله " سارتر كان معلمي ". في المقال يقول دولوز عن كامو " كل فلسفته كانت تعود بنا إلى لالاند ومايرسون " وعن ميرلو بونتي يقول أن أعماله تابعة لأعمال سارتر، ويعرف المعلمين " يكون معلمونا أولئك الذين يفرضون علينا جدة جذرية، أولئك الذين يعرفون كيف يخترعون تقنية فنية أو أدبية ويجدون طرق التفكير المناسبة لحداثتنا، نعني لصعوباتنا كما لحماساتنا الصاخبة ". وأعتقد أن وصف دولوز لسارتر كمعلم ينطبق على كل معلم آخر، ويتابع جيل دولوز " إن ما كان يأتي من سارتر هو الموضوعات الجديدة، وشيء من الأسلوب الجديد، وطريقة خصوصية وشرسة في طرح المشاكل. ففي خضم فوضى التحرير وآماله اكتشفنا كل شيء: كافكا، الرواية الأمريكية، هوسرل وهيدغر، وتوضيح المواقف التي لا تنتهي مع الماركسية، والاندفاع نحو رواية جديدة. لكن كل شيء مر عبر سارتر، ليس فقط لأنه كان يملك، بصفة الفيلسوف، عبقرية الكل الجامع، بل لأنه كان يعرف كيف يخترع الجديد ".
ولقد تبين أن " اختراع الجديد " لا يتم من فراغ، إن كل جديد تكون، أنتجه مفكر أو كاتب، إنما مر عبر رحلة التعلم. إن رحلة التعلم ضرورية لكل كاتب ومفكر في طريقه نحو الإبداع وكل منهم يختار الأدباء والمفكرين الذين يقدرون على تغيير حياته الفكرية والأدبية ليتعلم منهم الإبداع، ومعروف أن كل من هؤلاء الكتاب الذين تكلمنا عنهم أصبح صاحب مدرسة إبداعية. إن مرحلة التعلم بداية الطريق نحو مرحلة الإبداع.
ولا بد القول إنه ليس دائماً ما يعترف المبدعون بالكتاب الذين كانوا معلمين لهم، وكان فكرهم الإبداعي نتيجة لفكر هؤلاء المعلمين: أرسطو لم يعترف بمعلمه أفلاطون، وسقراط أهمل دور السفسطائيين في تطوير فكره، ولكن القاعدة العامة أن المبدعين يعرفون بفضل الأفكار السابقة التي تعلموا منها وأوصلتهم إلى إبداعهم: اعتراف سبينوزا بفضل ديكارت عليه، كما اعترف هنري جيمس بفضل تورجنيف عليه، واعترف بوشكين بفضل بايرون عليه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا