الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الروح (4-10)

راندا شوقى الحمامصى

2021 / 8 / 29
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


بقاء الروح وخلودها
إنّ مسألة بقاء الرّوح واردة في الكتب السّماويّة، وهذه المسألة هي أسّ أساس الأديان الإلهيّة، لأنّ المجازاة والمكافأة وردت على نوعين:
الأوّل ثواب وعقاب وجوديّ والثّاني مجازاة ومكافأة أخرويّة، أمّا النّعيم والجحيم الوجوديّ فهو في جميع العوالم الإلهيّة، سواء في هذا العالم أو في العوالم الرّوحانيّة الملكوتيّة، والحصول على هذه المكافأة يؤدّي إلى الحياة الأبدية، ولذلك يقول حضرة المسيح اعملوا كذا وافعلوا كذا حتّى تجدوا الحياة الأبديّة وتولدوا من الماء والرّوح حتّى تدخلوا في الملكوت، وهذه المكافأة الوجوديّة هي الفضائل والكمالات الّتي تزيّن الحقيقة الإنسانيّة، مثلاّ الإنسان كان ظلمانيّاً فصار نورانيّاً، وكان جاهلاً فصار عالماً، وكان غافلاً فصار عاقلاً، وكان نائماً فصار مستيقظاً، وكان ميتاً فصار حيّاً، وكان أعمى فصار بصيراً، وكان أصمّ فصار سميعاً، وكان أرضيّاً فصار سماويّاً، وكان ناسوتيّاً فصار ملكوتيّاً، ويهذه المكافأة يولد ولادة روحانيّة ويصبح خلقاً جديداً، ويكون مظهر آية الإنجيل الواردة في حقّ الحواريّين القائلة "الذّين ولدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله" يعني نجوا من الأخلاق والصّفات البهيميّة الّتي هي من مقتضيات الطّبيعة البشريّة، واتّصفوا بالصّفات الرّحمانيّة الّتي هي فيض إلهيّ، هذا هو معنى الولادة، وليس لهذه النّفوس عذاب أعظم من الاحتجاب عن الحقّ، ولا عقوبة أشدّ من الرّذائل النّفسانيّة، والصّفات الظّلمانيّة، وانحطاط الفطرة، والانهماك في الشّهوات، وحينما يخلّصون بنور الإيمان من ظلمات هذه الرّذائل، ويتنوّرون بإشراق شمس الحقيقة وويتشرفون بجميع الفضائل يعدّون هذا أعظم مكافأة، ويوقنون بانها هي الجنّة الحقيقيّة، وكذلك يعتبرون المجازاة المعنويّة يعني العذاب والعقاب الوجوديّ، الابتلاء بعالم الطّبيعة والاحتجاب عن الحقّ، والجهل وعدم المعرفة، والانهماك في الشّهوات النّفسانيّة والابتلاء بالرّذائل الحيوانيّة، والاتّصاف بالصّفات الظّلمانيّة، من قبيل الكذب والظّلم والجفاء والتّعلق بالشّؤون الدّنيويّة، والاستغراق في الهواجس الشّيطانيّة، يعتبرونها أعظم عذاب وأشدّ عقاب.أمّا المكافأة الأخرويّة الّتي هي الحياة الأبدية المصرّح بها في جميع الكتب السّماويّة، هي تلك الكمالات الإلهيّة والمواهب الأبديّة والسّعادة السّرمديّة، فالمكافأة الأخرويّة هي الكمالات والنّعم الّتي تحصل في العوالم الرّوحانيّة بعد العروج من هذا العالم.
أمّا المكافأة الوجوديّة فهي الكماٍلات الحقيقيّة النّورانيّة الّتي تتحقق في هذا العالم، وتكون سبب الحياة الأبديّة، لأنّ المكافأة الوجوديّة هي رقيّ نفس الوجود، مثالهاانتقال الإنسان من عالم النّطفة إلى مقام البلوغ ويصير مظهر "فتبارك الله أحسن الخالقين".
والمكافأة الأخرويّة هي نعم وألطاف روحانيّة مثل أنواع النّعم الرّوحانيّة في الملكوت الإلهيّ، والحصول على أمنيات القلب والرّوح ولقاء الرّحمن في العالم الأبديّ، وكذلك المجازاة الأخرويّة يعني العذاب الأخرويّ وهو الحرمان من العنايات الخاصّة الإلهيّة والمواهب الّتي لا ريب فيها، والسّقوط في أسفل الدّركات الوجوديّة، وكلّ نفس حرمت من هذه الالطاف الإلهيّة وإن تكن باقية بعد الموت ولكنّها عند أهل الحقيقة في عداد الأموات.
وأمّا الدّليل العقلي على بقاء الرّوح هو أنّه ليس للشّيء المعدوم آثار يعني لا يمكن أن تظهر آثار من العدم الصّرف. لأنّ الآثار فرع الوجود والفرع مشروط وجوده بوجود الأصل، مثلاً لا تسطع من الشّمس المعدومة أشعّة، ولا يظهر من البحر المعدوم أمواج، ولا ينزل المطر من سحاب معدوم، ولا يأتي ثمر من شجر معدوم، ولا يكون ظهور ولا أثر لشخص معدوم، إذاً ما دامت آثار الوجود ظاهرة فهي دليل على أنّ صاحب الأثر موجود.
انظروا تروا أنّ سلطنة المسيح موجودة إلى الآن فكيف إذاً تظهر من سلطان معدوم سلطنة بهذه العظمة، وكيف تعلو إلى الأوج أمواج كهذه من بحر معدوم، وكيف تنتشر نفحات قدسيّة كهذه من حديقة معدومة، و انظروا تروا أيضاً أنّه لا يبقى أثر ولا حكم ولا تأثير لأيّ كائن بمجرّد تلاشي الأعضاء وتحليل التّركيب العنصريّ، سواء أكان من الجماد أو النّبات والحيوان إلاّ الحقيقة الإنسانيّة والرّوح البشريّ، فإنّه تبقى وتستديم آثاره ونفوذه وتصرّفه بعد تفريق الأعضاء وتشتّت الأجزاء وتحليل التّركيب ، فهذه المسألة دقيقة جدّاً فأنعموا فيها النّظر، هذا هو الدّليل العقليّ الذّي بيّنّاه حتّى يزنه العقلاء بميزان العقل والإنصاف، أمّا لو استبشر الرّوح الإنسانيّ وانجذب إلى الملكوت وانفتحت بصيرته وتقوّى سمعه الرّوحاني وتملّكه الإحساس الرّوحاني، فإنه يشاهد بقاء الرّوح كما يشاهد الشّمس، وتحيطه البشارات والإشارات الإلهيّة، وسنتكلّم غداً عن الدّلائل الأخرى.

إنّ تصرف الرّوح الإنسانيّ وإدراكه على نوعين، يعني له نوعان من الأفعال ونوعان من الإدراك، نوع يكون بواسطة الالات والادوات فهو يرى بهذه العين،ويسمع بهذه الأذن، ويتكلّم بهذا اللّسان، فهذه أعمال الرّوح وإدراكات الحقيقة الإنسانيّة ولكنّها بواسطة الالات، يعني أنّ الرّائي هو الرّوح ولكنّ الرّؤية بواسطة العين، والسّامع هو الرّوح ولكن بواسطة الأذن والنّاطق هو الرّوح ولكن بواسطة اللّسان.
والنّوع الآخر من تصرّفات الرّوح وأعمالها يكون بدون الالات والادوات مثلاً وهو في حال النّوم يرى بدون عين، ويسمع بدون أذن، ويتكلّم بغير لسان، ويمشي بغير قدم، وبالجملة فهذه التّصرّفات بدون واسطة الالات والادوات، وكثيراً ما يرى في منامه ما يتحقّق حدوثه بعد عام، وكذلك كثيراً ما يتعذّر عليه حلّ مسألة في عالم اليقظة، ثمّ تحلّ في عالم الرّؤيا، فالعين لا ترى إلاّ المسافة القصيرة في عالم اليقظة، ولكنّ الإنسان في عالم الرّؤيا يرى الغرب وهو في الشّرق، ويرى في عالم اليقظة الحال وفي عالم النّوم يرى المستقبل، ونهاية ما يطويه بالوسائط السّريعة في عالم اليقظة عشرين فرسخاً في السّاعة، ولكنّه في عالم النّوم يطوي الشّرق والغرب في طرفة عين، لأنّ سير الرّوح على نوعين، سير من غير واسطة وهو السّير الرّوحانيّ، وسير بالواسطة وهو السّير الجسمانيّ، كمثل الطّيور الّتي تطير(الحرة المطلقة) والطّيور الّتي تتحرّك بواسطة حامل(السجينة المقيدة)، وأمّا في وقت النّوم فالجسد يكون كالميّت لا يرى ولا يسمع ولا يحسّ ولا يشعر ولا يدرك، يعني تتعطّل القوى الإنسانيّة، ولكنّ الرّوح حيّ باقٍ، وهو في هذه الحال أكثر نفوذاً وطيراناً وإدراكاً، فلو ان الرّوح يفنى بعد موت الجسد يكون مثله كمثل طير كان في قفص وهلك بتكسيّر هذا القفص مع أنّ الطّير لا يبالي ولا يخشى تكسير القفص، وهذا الجسد كالقفص والرّوح كالطّير.
ونحن نلاحظ أنّ لهذا الطّير، طيراناً في عالم النّوم بدون هذا القفص، إذاً لو كسر القفص فالطّير باقٍ ومستقرّ، بل إنّ إحساس ذلك الطّير يزيد وادراكاته تكثر وابتهاجه يزداد، وفي الحقيقة إنّه ينتقل من الجحيم إلى جنّة النّعيم، لأنّه ليس للطّير الشّكور جنة أعظم من إطلاقه من القفص، وهذا هو سبب هروع الشّهداء بنهاية الطّرب والسّرور إلى ميدان الفداء، وكذلك فإنّ نهاية ما ترى عين الإنسان في عالم اليقظة مسافة سير ساعة واحدة، لأنّ هذا مقدار تصرّف الرّوح بواسطة الجسد، ولكنّها بعين البصيرة والعقل ترى أمريكا وتدرك أنحاءها، وتكتشف أحوالها وتدّبر أمورها، بينما لو كان الرّوح عين الجسد للزم أن تكون قوّة بصيرتها محدودة بذلك أيضاً. إذاً صار من المعلوم أنّ الرّوح غير هذا الجسد، وأنّ الطّير غير القفص، وأنّ نفوذ الرّوح وقوّته بدون واسطة الجسد أشدّ، من أجل هذا لو تعطّلت الآلة فصاحبها مستمرّ في العمل، مثلاً لو انكسر القلم وتعطّل فالكاتب حيّ حاضر، ولو انهدم البيت فصاحبه باقٍ مستقرّ، هذا من جملة البراهين العقليّة على بقاء الرّوح ، وهناك دليل آخر، هذا الجسد يضعف ويسمن ويمرض ويصحّ ويتعب ويستريح، بل أحياناً تقطع اليد والرّجل وتختلّ القوى الجسمانيّة، فالعين تعمى والأذن تصمّ واللّسان يبكم والأعضاء تبلى بمرض الفلج0
وبالاختصار فقد ينتقص الجسد بالكلّيّة والرّوح باقٍ مستديم على حاله الأصليّة وادراكاته الرّوحانية لا يعتريها نقص ولا اختلال، ولكن حينما يبتلى الجسد كلّه بالأمراض والعاهات يحرم من فيض الرّوح ، كالمرآة عند كسّرها أو عندما تتغبر لا يظهر شعاع الشّمس فيها، ولا يظهر فيضها. وقد بيّنّ من قبل أنّ الرّوح الإنسانيّ ليس بداخل الجسد، لأنّه مجرّد ومقدّس عن الدّخول والخروج اللّذين هما من شأن الأجسام،بل تعلّق الرّوح بالجسد كتعلّق الشّمس بالمرآة، والخلاصة أنّ الرّوح الإنسانيّ بحال واحدة، لا تمرض بمرض الجسد، ولا تصحّ بصحّة الجسد، لا عليلة ولا ضعيفة، لا ذليلة ولا حقيرة، لا خفيفة ولا صغيرة، يعني لا يعتري الرّوح أي خلل ولا تأثيّر بسبب فتور الجسد ولو صار الجسد سقيماً ضعيفاً وقطعت الأيدي والأرجل والألسن واختلّفت قوّة السّمع والبصر. إذاً اتّضح وتحقّق أنّ الرّوح غير الجسد، وبقاؤه ليس مشروطاً ببقاء الجسد، بل الرّوح في نهاية العظمة له سلطان في عالم الجسد، ويتجلّى نفوذه واقتداره كما يتجلّى ويظهر فيض الشّمس في المرآة. فإذا انكسرت المرآة أو تغبرت حرمت من أشعّة الشّمس.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل تتواصل الحركة الوطنية الشعبية الليبية مع سيف الإسلام القذ


.. المشهديّة | المقاومة الإسلامية في لبنان تضرب قوات الاحتلال ف




.. حكاية -المسجد الأم- الذي بناه مسلمون ومسيحيون عرب


.. مأزق العقل العربي الراهن




.. #shorts - 80- Al-baqarah